نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفي– ملامحه


هناك عدة ملامح أساسية للطريق الصوفى يأتى على رأسها : أولا : الشيخ . ثانيا: المريد . ثالثا: العهد .

أولا- الشيخ:

الشيخ بمثابة الأستاذ للمريد. فالمريد كالطالب والطالب لا يستطيع أن يتقدم في دروسه بدون موجه ومرشد،  ولا يستطيع الفرد- في نظر الصوفية أن يسلك هذا الطريق بمفرده، لأنه طريق صعب متشعب المسالك كثير المنحنيات مليء بالصعاب، يتربص بسالكيه أعداء أشداء في حاجة إلى جهاده، ومن هؤلاء الأعداء: الشيطان والنفس والهوى- لذلك لابد لمن يسلك هذا الطريق الصعب من مرشد أو هاد يأخذ بيده ، هو الشيخ.

فالشيخ هو الذي يحدد لمريده طريق الوصول إلى الله ويساعده على السير. والشيخ المسلك هو الذي سلك الطريق على يد شيخ واصل، فترقى في المقامات من مقام التوبة إلى مقام المشاهدة، ثم عاد بعد اعتلاء تلك المقامات، ليقوم بالشريعة ، ويسلك الناس في مراحل الطريقة، ويفتح لهم بإذن الله أبوابًا ومنافذ يشرفون منها على أضواء الحقيقة.

ويقول شهاب الدين السهروردي فى عوارف المعارف : «ولابد للمريد من شيخ مرشد إلى الحق يرشده ويلقنه الذكر ويلقي في روعه النور، فإن تلقين الشيخ يلقح باطن المريد ويسري فيه كأنما يلقح من سراج، فعلى المريد اختيار الشيخ الصالح المشهود له بالعلم والمعارف واتقاء المحارم».

ويقول القشيري في رسالته: «من لم يكن له شيخ لا يفلح أبدًا، قال أبو علي الدقاق: فالشجرة إذا نبتت من غير غارس تورق ولكنها لا تثمر وكذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ عنه طريقته نفسا نفسا فهو عابد هواه لا يجد نفاذا».

وقال ابن عطاء الله السكندري: «من لم يكن له شيخ يوصله إلى سلسلة المتابعة فهو في الطريق لقيط لا أب له وفي المعرفة دعى لا نسب له».

أما عن الشروط والمواصفات المطلوبة في الشيخ فيحدثنا عنها الإمام الجنيد بوضوح ويقول: «لا يستحق أن يكون شيخا حتى يأخذ حظه من كل علم شرعي، وأن يتورع عن جميع المحارم، وأن يزهد في الدنيا، وألا يشرع في مداواة غيره إلا بعد فراغه من مداواة نفسه، وحتى يكون على علم يهدي به العباد، فإذا مرض مريده بسبب شبهة في علم التوحيد داواه، وإذا تحير في مسألة من مسائل الفقه أفتاه، ويشترط أن يكون لديه القناعة بالغنى عن الناس، وأن يخاف ويخشى من المعاصي والأدناس، وأن يلازم العمل بالكتاب والسنة، وإياك متابعة من لم يكن على غير هذه الصفات. فإنه من جنود الشيطان يزن أقواله وأفعاله بميزان الشريعة والطريقة فإن رأيت منه شيئا مخالفا للشرع فاتركه حتى وإن كان ذا حال صحيح. فما عليك في رده بحكم الشرع من بأس ولا تتخذه مرشدا».

ومن ذلك فإن أهم شروط الشيخ الذي يلقى المريد إليه نفسه أن يكون - كما فى جامع الأصول - «ذا ذوق صريح، وعلم صحيح، وهمة عالية، وحالة مرضية، وبصيرة نافذة. فمن كان فيه خمسة لا تصح مشيخته الجهل بالدين، وإسقاط حرمة المسلمين، والدخول فيما لا يعني، واتباع الهوى في كل شيء، وسوء الخلق من غير مبالاة».

وواجب الشيخ أن يتعرف على أحوال مريديه ويتفقدهم ويتابع ظروفهم ومن ناحية أخرى ينبغي عليه ألا يتفاخر بالمشيخة أو لقب شيخ - كما فى جامع الأصول - «وألا يستنكر على من ناداه باسمه من غير لفظ سيادة أو مشيخة لأنه كلام صحيح ليس فيه كذب بخلاف لفظ السيادة والمشيخة فقد لا يكون سيدا ولا شيخا عند الله تعالى فيقع الفاعل له ذلك في الكذب هذا الذي ينبغي للشيخ أن يظنه بنفسه دائما فيحصل من لم يعطه على ذلك. وأما التلميذ فهو مأمور بالأدب معه فلا يناديه باسمه فقط من غير لفظ سيادة أو مشيخة أو نحوها. ولا بألقابه المذمومة وإن كان حقا».

وينبغي على الشيخ مراعاة كرامة مريده فها هو سيدي أبو العباس المرسي من دقته في مراعاة الكرامة الإنسانية للمريدين، أنه كان يكره للأشياخ إذا جاءهم مريد أن يقولوا له: قف ساعة، ويقول: إن المريد يأتي إلى الشيخ بهمته المتوقدة فإذا قيل له، قف ساعة، طفئ ما جاء به.

ثانيا- المريد:

إذا كان الشيخ يمثل الزاوية الإنسانية في الطرق الصوفية فإنه بدون وجود مريدين لهذه الطرق ما قامت ولا كانت هناك طرق صوفية.

والمريد هو سالك الطريق الذي يسير في الطريقة حسب إرشادات شيخه فيسلك طريقه كما يرسمه له شيخه حتى يصل إلى غايته.

ويمكن أن نلخص خطوات المريد نحو الطريق في خطوات ثلاثة تبدأ بالتوبة ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور: 31].

الخطوة الثانية: هي أخذ العهد من الشيخ بطاعة الله ورسوله والسير في الطريق.

والخطوة الثالثة: هي التلقين وهو تعليم الشيخ للمريد كيفية الذكر، نطقًا وبدء في مرحلته الأولى، ويتجدد التلقين كلما قطع المريد مرحلة من مراحل القرب من الله سبحانه وتعالى.

ومن ذلك يتضح لنا أن أهم واجبات المريد نحو شيخه طاعة أوامر شيخه. قال أبو الحسن الشاذلي: «عليك أيها المريد بالعكوف على أعتاب شيخك، فإنك لو علمت ما انطوى عليه الشيوخ ما برحت عن أبوابهم ولأتيتهم سعيًا على الوجه».

وواجب المريد ألا يكتم أي سر عن شيخه بل ينبغي عليه أن يذكر له كل ما يجول بخاطره من أسرار وخطرات وهموم ومشكلات فهو طبيبه ومداويه، وقد عبر عن ذلك بعضهم بقوله: «الصوفية كثيرًا ما يشبهوا هذه الصلة بصلة الطبيب بالمريض، والمرض داء نفسي دفين، فلا تجوز المقارنة بوسائل التربية الحديثة، وإنما بالمحلل النفسي وفي العلاج النفسي تقوم مثل هذه العلاقة حيث يسلم له المريض قياده ويطلعه على كل أسراره، ولا يقدم على أمر حتى يستأذنه، كل ذلك لضرورة العلاج الذي يمتد سنين، ويستند كل من النظامين إلى فكرة الإيحاء الغيري التي تقتضي من جانب المريد أو المريض قابلية تامة للتصديق أو الاستهواء. وتتشابه الطريقتان كذلك في الاستناد إلى حتمية الثنائية إذ لا يتسنى العلاج إلا بوجود طرفين: محلل ومريض أو شيخ ومريد، كذلك يبدو التماثل شديدًا إذا علمنا أن الصوفية كانوا على وعي بفكرة اللاشعور واستحالة إدراك المريض إلى مكوناته مع ما له من أثر في السلوك.

ولتوضيح ذلك نقتبس نصًا للجنيد: إن أمراض الأبدان يعبر عنها المريض بما يجد من ذاته واصفا ما حل به من بلائه. أما علل القلوب فإن المريض مقصر عن بلوغ نعته لذلك تختلف عن الوصف لما هنالك، فالطبيب الخبير البصير يكشف لأهل الأمراض عما وجدوه وينبئهم عن زوال ما فقدوه حتى كأن الموصوف بعبارة اللسان منظور إليه بحقيقة العيان، من أجل ذلك كله كان الطبيب أعلم بداء السقيم من نفسه وأحق أن يصف له من الدواء ما يكون سببًا لبرئه.

وينبغي أن نفهم أنه ليس هناك ما يبرر إرجاع هذه الصلة إلى مبدأ الاعتراف عند بعض المذاهب المسيحية، فالاعتراف المسيحي متصل بأصل من أصول الدين، أما الاعتراف الصوفي فهو جزء من نظام أخلاقي ولا صلة له بأية مسألة اعتقادية.

وواجب المريد عدم الاعتقاد بعصمة الأولياء والمشايخ لأنهم ليسوا أنبياء يقول القشيري ناصحا : «لا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة، بل الواجب أن يذرهم وأحوالهم فيحسن بهم الظن ويراعي الله تعالى وحده فيما عليه من الأمر والعلم كافيه في التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول».

ولقد ترك مشايخ الطرق الصوفية للمريد حرية اختيار الشيخ والطريقة التي يرغبها فإذا ما تم له اختيار الطريقة وشيخها ينبغي الالتزام به والسير على نهجه وخطاه.

ويضع لنا الشيخ الحداد في رسالته (آداب سلوك المريد) بعض آداب المريد مع شيخه فيقول: «إذا أردت –أيها المريد- من شيخك أمرا أو بدا لك أن تسأله عن شيء فلا يمنعك إجلاله والتأدب معه عن طلبه منه وسؤاله عنه وتسأله المرة والمرتين والثلاث فليس السكوت عن السؤال والطلب من حسن الأدب. اللهم إلا أن يشير عليك الشيخ بالسكوت ويأمرك بترك السؤال. فعند ذلك يجب عليك امتثاله، وإذا منعك الشيخ عن أمر أو قدم عليك أحدا فإياك أن تتهمه ولتكن معتقدا أنه قد فعل ما هو الأنفع والأحسن لك»، ويقول أيضًا: «وإذا وقع منك ذنب وجد عليك غضب الشيخ بسببه فبادر بالاعتذار إليه من ذنبك حتى يرضى عنك، وإذا أنكرت قلب الشيخ عليك كأن فقدت منه بشرا كنت تألفه أو نحو ذلك فحدثه بما وقع لك من تخونك تغير قلبه عليك بشيء أحدثته فتتوب عنه. أو لعل الذي توهمته لم يكن عند الشيخ وألقاه الشيطان إليك ليسوءك به».

وأيضا من أهم آداب المريد مع شيخه الإنصات لكل ما يقوله وحسن الظن بشيخه وأن يكون مستعدا دائمًا وفي كل الأحوال لخدمة شيخه.

يقول أبو طالب المكي في قوت القلوب: «اعلم أن المريد لابد له من خصال سبع : الصدق في الإرادة، وعلامته إعداد العدة ولابد له من السبب إلى الطاعة، وعلامة ذلك هجر قرناء السوء ولابد له من المعرفة بحال نفسه، وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس، ولابد له من مجالسة عالم بالله، وعلامة ذلك إيثاره على ما سواه، ولابد له من توبة نصوح، فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة. وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى، والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه. ولابد له من طعمة حلال لا يذمها العلم، وعلامة ذلك الحلال المطالبة عنه، وحلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع. ولابد له من قرين صالح يؤازره على ذلك، وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى، ونهيه إياه عن الإثم والعدوان».

وينصح الشعراني فى كتابه (الأنوار القدسية في آداب العبودية للشعراني ص123، 124)المريد حتى يصبح في طريق الصوفية ويسير على نهج إسلامي سليم ليس له ابتداع أن لا يدخل في طريق القوم إلا بعد تضلعه من علم الشريعة والحديث وإلا فيخاف عليه الزندقة والابتداع، ومن شأنه أن يقرأ شيئا من عقائد السنة قبل دخوله في طريق الفقراء ليصح اعتقاده مما يتوهمه غالب الخلق.

وبهذا يصبح المريد مريدا صادقا يسير على نهج إسلامي ويتبع الطريق المستقيم والطريقة المثلى ويهتدي بنور شيخه وأستاذه الأمين.

ثالثا - العهد:

إذا كان الطريق يتشكل ويتكون من شيخ ومريد فإن الذي يربط بينهما العهد والبيعة، والعهد : هو أوثق رباط بين رجلين تحابا في الله وتعاهدا على طاعته، إنها بيعة لله وفي الله وبالله.

قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾[الفتح: 18].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري من حديث عبادة بن الصامت  وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله جماعة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك.

ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[الفتح: 10]، والعهد والمبايعة للشيخ معناه الأخذ والمصافحة. ومبايعة الشيخ مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكل بيعة حصلت بعد بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي في الحقيقة تجديد لبيعته. والآية الكريمة السابقة توضح أن بيعة الرسول هي بيعة لله على ما ذكرنا. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الفتح: 10].

والبيعة عقد إلزامي يلزم المتعاقدين بكل ما في بنود البيعة، والبيعة أشد وأوثق من الأَيمان ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾[النحل: 91].

المرجع : أ/د عامر النجار ، الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، القاهرة:مكتبة الأنجلو المصرية ، د ت، (ص 32-39) .


هناك عدة ملامح أساسية للطريق الصوفى يأتى على رأسها : أولا : الشيخ . ثانيا: المريد . ثالثا: العهد .

أولا- الشيخ:

الشيخ بمثابة الأستاذ للمريد. فالمريد كالطالب والطالب لا يستطيع أن يتقدم في دروسه بدون موجه ومرشد،  ولا يستطيع الفرد- في نظر الصوفية أن يسلك هذا الطريق بمفرده، لأنه طريق صعب متشعب المسالك كثير المنحنيات مليء بالصعاب، يتربص بسالكيه أعداء أشداء في حاجة إلى جهاده، ومن هؤلاء الأعداء: الشيطان والنفس والهوى- لذلك لابد لمن يسلك هذا الطريق الصعب من مرشد أو هاد يأخذ بيده ، هو الشيخ.

فالشيخ هو الذي يحدد لمريده طريق الوصول إلى الله ويساعده على السير. والشيخ المسلك هو الذي سلك الطريق على يد شيخ واصل، فترقى في المقامات من مقام التوبة إلى مقام المشاهدة، ثم عاد بعد اعتلاء تلك المقامات، ليقوم بالشريعة ، ويسلك الناس في مراحل الطريقة، ويفتح لهم بإذن الله أبوابًا ومنافذ يشرفون منها على أضواء الحقيقة.

ويقول شهاب الدين السهروردي فى عوارف المعارف : «ولابد للمريد من شيخ مرشد إلى الحق يرشده ويلقنه الذكر ويلقي في روعه النور، فإن تلقين الشيخ يلقح باطن المريد ويسري فيه كأنما يلقح من سراج، فعلى المريد اختيار الشيخ الصالح المشهود له بالعلم والمعارف واتقاء المحارم».

ويقول القشيري في رسالته: «من لم يكن له شيخ لا يفلح أبدًا، قال أبو علي الدقاق: فالشجرة إذا نبتت من غير غارس تورق ولكنها لا تثمر وكذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ عنه طريقته نفسا نفسا فهو عابد هواه لا يجد نفاذا».

وقال ابن عطاء الله السكندري: «من لم يكن له شيخ يوصله إلى سلسلة المتابعة فهو في الطريق لقيط لا أب له وفي المعرفة دعى لا نسب له».

أما عن الشروط والمواصفات المطلوبة في الشيخ فيحدثنا عنها الإمام الجنيد بوضوح ويقول: «لا يستحق أن يكون شيخا حتى يأخذ حظه من كل علم شرعي، وأن يتورع عن جميع المحارم، وأن يزهد في الدنيا، وألا يشرع في مداواة غيره إلا بعد فراغه من مداواة نفسه، وحتى يكون على علم يهدي به العباد، فإذا مرض مريده بسبب شبهة في علم التوحيد داواه، وإذا تحير في مسألة من مسائل الفقه أفتاه، ويشترط أن يكون لديه القناعة بالغنى عن الناس، وأن يخاف ويخشى من المعاصي والأدناس، وأن يلازم العمل بالكتاب والسنة، وإياك متابعة من لم يكن على غير هذه الصفات. فإنه من جنود الشيطان يزن أقواله وأفعاله بميزان الشريعة والطريقة فإن رأيت منه شيئا مخالفا للشرع فاتركه حتى وإن كان ذا حال صحيح. فما عليك في رده بحكم الشرع من بأس ولا تتخذه مرشدا».

ومن ذلك فإن أهم شروط الشيخ الذي يلقى المريد إليه نفسه أن يكون - كما فى جامع الأصول - «ذا ذوق صريح، وعلم صحيح، وهمة عالية، وحالة مرضية، وبصيرة نافذة. فمن كان فيه خمسة لا تصح مشيخته الجهل بالدين، وإسقاط حرمة المسلمين، والدخول فيما لا يعني، واتباع الهوى في كل شيء، وسوء الخلق من غير مبالاة».

وواجب الشيخ أن يتعرف على أحوال مريديه ويتفقدهم ويتابع ظروفهم ومن ناحية أخرى ينبغي عليه ألا يتفاخر بالمشيخة أو لقب شيخ - كما فى جامع الأصول - «وألا يستنكر على من ناداه باسمه من غير لفظ سيادة أو مشيخة لأنه كلام صحيح ليس فيه كذب بخلاف لفظ السيادة والمشيخة فقد لا يكون سيدا ولا شيخا عند الله تعالى فيقع الفاعل له ذلك في الكذب هذا الذي ينبغي للشيخ أن يظنه بنفسه دائما فيحصل من لم يعطه على ذلك. وأما التلميذ فهو مأمور بالأدب معه فلا يناديه باسمه فقط من غير لفظ سيادة أو مشيخة أو نحوها. ولا بألقابه المذمومة وإن كان حقا».

وينبغي على الشيخ مراعاة كرامة مريده فها هو سيدي أبو العباس المرسي من دقته في مراعاة الكرامة الإنسانية للمريدين، أنه كان يكره للأشياخ إذا جاءهم مريد أن يقولوا له: قف ساعة، ويقول: إن المريد يأتي إلى الشيخ بهمته المتوقدة فإذا قيل له، قف ساعة، طفئ ما جاء به.

ثانيا- المريد:

إذا كان الشيخ يمثل الزاوية الإنسانية في الطرق الصوفية فإنه بدون وجود مريدين لهذه الطرق ما قامت ولا كانت هناك طرق صوفية.

والمريد هو سالك الطريق الذي يسير في الطريقة حسب إرشادات شيخه فيسلك طريقه كما يرسمه له شيخه حتى يصل إلى غايته.

ويمكن أن نلخص خطوات المريد نحو الطريق في خطوات ثلاثة تبدأ بالتوبة ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور: 31].

الخطوة الثانية: هي أخذ العهد من الشيخ بطاعة الله ورسوله والسير في الطريق.

والخطوة الثالثة: هي التلقين وهو تعليم الشيخ للمريد كيفية الذكر، نطقًا وبدء في مرحلته الأولى، ويتجدد التلقين كلما قطع المريد مرحلة من مراحل القرب من الله سبحانه وتعالى.

ومن ذلك يتضح لنا أن أهم واجبات المريد نحو شيخه طاعة أوامر شيخه. قال أبو الحسن الشاذلي: «عليك أيها المريد بالعكوف على أعتاب شيخك، فإنك لو علمت ما انطوى عليه الشيوخ ما برحت عن أبوابهم ولأتيتهم سعيًا على الوجه».

وواجب المريد ألا يكتم أي سر عن شيخه بل ينبغي عليه أن يذكر له كل ما يجول بخاطره من أسرار وخطرات وهموم ومشكلات فهو طبيبه ومداويه، وقد عبر عن ذلك بعضهم بقوله: «الصوفية كثيرًا ما يشبهوا هذه الصلة بصلة الطبيب بالمريض، والمرض داء نفسي دفين، فلا تجوز المقارنة بوسائل التربية الحديثة، وإنما بالمحلل النفسي وفي العلاج النفسي تقوم مثل هذه العلاقة حيث يسلم له المريض قياده ويطلعه على كل أسراره، ولا يقدم على أمر حتى يستأذنه، كل ذلك لضرورة العلاج الذي يمتد سنين، ويستند كل من النظامين إلى فكرة الإيحاء الغيري التي تقتضي من جانب المريد أو المريض قابلية تامة للتصديق أو الاستهواء. وتتشابه الطريقتان كذلك في الاستناد إلى حتمية الثنائية إذ لا يتسنى العلاج إلا بوجود طرفين: محلل ومريض أو شيخ ومريد، كذلك يبدو التماثل شديدًا إذا علمنا أن الصوفية كانوا على وعي بفكرة اللاشعور واستحالة إدراك المريض إلى مكوناته مع ما له من أثر في السلوك.

ولتوضيح ذلك نقتبس نصًا للجنيد: إن أمراض الأبدان يعبر عنها المريض بما يجد من ذاته واصفا ما حل به من بلائه. أما علل القلوب فإن المريض مقصر عن بلوغ نعته لذلك تختلف عن الوصف لما هنالك، فالطبيب الخبير البصير يكشف لأهل الأمراض عما وجدوه وينبئهم عن زوال ما فقدوه حتى كأن الموصوف بعبارة اللسان منظور إليه بحقيقة العيان، من أجل ذلك كله كان الطبيب أعلم بداء السقيم من نفسه وأحق أن يصف له من الدواء ما يكون سببًا لبرئه.

وينبغي أن نفهم أنه ليس هناك ما يبرر إرجاع هذه الصلة إلى مبدأ الاعتراف عند بعض المذاهب المسيحية، فالاعتراف المسيحي متصل بأصل من أصول الدين، أما الاعتراف الصوفي فهو جزء من نظام أخلاقي ولا صلة له بأية مسألة اعتقادية.

وواجب المريد عدم الاعتقاد بعصمة الأولياء والمشايخ لأنهم ليسوا أنبياء يقول القشيري ناصحا : «لا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة، بل الواجب أن يذرهم وأحوالهم فيحسن بهم الظن ويراعي الله تعالى وحده فيما عليه من الأمر والعلم كافيه في التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول».

ولقد ترك مشايخ الطرق الصوفية للمريد حرية اختيار الشيخ والطريقة التي يرغبها فإذا ما تم له اختيار الطريقة وشيخها ينبغي الالتزام به والسير على نهجه وخطاه.

ويضع لنا الشيخ الحداد في رسالته (آداب سلوك المريد) بعض آداب المريد مع شيخه فيقول: «إذا أردت –أيها المريد- من شيخك أمرا أو بدا لك أن تسأله عن شيء فلا يمنعك إجلاله والتأدب معه عن طلبه منه وسؤاله عنه وتسأله المرة والمرتين والثلاث فليس السكوت عن السؤال والطلب من حسن الأدب. اللهم إلا أن يشير عليك الشيخ بالسكوت ويأمرك بترك السؤال. فعند ذلك يجب عليك امتثاله، وإذا منعك الشيخ عن أمر أو قدم عليك أحدا فإياك أن تتهمه ولتكن معتقدا أنه قد فعل ما هو الأنفع والأحسن لك»، ويقول أيضًا: «وإذا وقع منك ذنب وجد عليك غضب الشيخ بسببه فبادر بالاعتذار إليه من ذنبك حتى يرضى عنك، وإذا أنكرت قلب الشيخ عليك كأن فقدت منه بشرا كنت تألفه أو نحو ذلك فحدثه بما وقع لك من تخونك تغير قلبه عليك بشيء أحدثته فتتوب عنه. أو لعل الذي توهمته لم يكن عند الشيخ وألقاه الشيطان إليك ليسوءك به».

وأيضا من أهم آداب المريد مع شيخه الإنصات لكل ما يقوله وحسن الظن بشيخه وأن يكون مستعدا دائمًا وفي كل الأحوال لخدمة شيخه.

يقول أبو طالب المكي في قوت القلوب: «اعلم أن المريد لابد له من خصال سبع : الصدق في الإرادة، وعلامته إعداد العدة ولابد له من السبب إلى الطاعة، وعلامة ذلك هجر قرناء السوء ولابد له من المعرفة بحال نفسه، وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس، ولابد له من مجالسة عالم بالله، وعلامة ذلك إيثاره على ما سواه، ولابد له من توبة نصوح، فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة. وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى، والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه. ولابد له من طعمة حلال لا يذمها العلم، وعلامة ذلك الحلال المطالبة عنه، وحلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع. ولابد له من قرين صالح يؤازره على ذلك، وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى، ونهيه إياه عن الإثم والعدوان».

وينصح الشعراني فى كتابه (الأنوار القدسية في آداب العبودية للشعراني ص123، 124)المريد حتى يصبح في طريق الصوفية ويسير على نهج إسلامي سليم ليس له ابتداع أن لا يدخل في طريق القوم إلا بعد تضلعه من علم الشريعة والحديث وإلا فيخاف عليه الزندقة والابتداع، ومن شأنه أن يقرأ شيئا من عقائد السنة قبل دخوله في طريق الفقراء ليصح اعتقاده مما يتوهمه غالب الخلق.

وبهذا يصبح المريد مريدا صادقا يسير على نهج إسلامي ويتبع الطريق المستقيم والطريقة المثلى ويهتدي بنور شيخه وأستاذه الأمين.

ثالثا - العهد:

إذا كان الطريق يتشكل ويتكون من شيخ ومريد فإن الذي يربط بينهما العهد والبيعة، والعهد : هو أوثق رباط بين رجلين تحابا في الله وتعاهدا على طاعته، إنها بيعة لله وفي الله وبالله.

قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾[الفتح: 18].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري من حديث عبادة بن الصامت  وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله جماعة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك.

ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[الفتح: 10]، والعهد والمبايعة للشيخ معناه الأخذ والمصافحة. ومبايعة الشيخ مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكل بيعة حصلت بعد بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي في الحقيقة تجديد لبيعته. والآية الكريمة السابقة توضح أن بيعة الرسول هي بيعة لله على ما ذكرنا. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الفتح: 10].

والبيعة عقد إلزامي يلزم المتعاقدين بكل ما في بنود البيعة، والبيعة أشد وأوثق من الأَيمان ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾[النحل: 91].

المرجع : أ/د عامر النجار ، الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، القاهرة:مكتبة الأنجلو المصرية ، د ت، (ص 32-39) .


التقييم الحالي
بناء على 43 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث