نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى في القرنين الأول والثاني


في هذه المرحلة كان أغلب المسلمين أهل دين وزهد بحيث لم تكن هناك حاجة إلى أن يُطلقوا عليهم اسمًا خاصًا لتمييزهم عن الآخرين، وإنما كانت هناك جماعة من أفاضل المسلمين الذين أدركوا صحبة النبي فسموا لذلك بالصحابة، وأطلقوا على الجيل الذي تلا زمن الصحابة أي أولئك الذين نالوا صُحبة الصحابة: التابعين، وبعد عهد الخُلفاء الأربعة، ولاسيما في أواخر القرن الأول حيث كان أغلب الناس مُنشغلين بشئون الدنيا سموا طائفة من الخواص الذين كانوا يعنون بأمور الدين (الزهاد والعُباد والقراء).

وكان زهد مُسلِمي صدر الإسلام وتقواهم عمليين ومُعتدلين، أي أنهم كانوا يعنون بأمور معاشهم وواجباتهم الاجتماعية وكانوا يكافحون كل مشكلة، ويجتهدون لإيجاد أحوال أفضل في المجتمع الإسلامي مثل عمر بن الخطاب الذي كان يحكم بلادًا مترامية الأطراف وهو يرتدي لِباس الورع والزهد وترك الدنيا، وكان في أثناء صلاته يرسم خطة الاستيلاء على بلاد الأكاسرة والقياصرة، وليس هناك شك في أن أعمال عمر ومسلكه وأسلوب حياته، إنما كان مثلاً لسائر المسلمين، ومن المُسَلم به أن أولئك الذين كانت مشاغلهم الدنيوية والاجتماعية أقل بالنسبة لغيرهم أو لم تكن لهم مشاغل قط مثل فقراء أهل الصُّفة كانوا أكثر اشتغالاً بالزهد والعبادة من سيدنا عمر بن الخطاب والمهتمين بالشئون الاجتماعية.

ولا نشاهد في آثار زهاد هذا العهد ونُساكه، وفي كلماتهم أثرًا للعشق ولا للمحبة، وقد صارتا محورًا لكلام الصوفية في القرون التالية، ولا عن فكرة (وحدة الوجود) ولا كلامًا في (الفناء والبقاء) ولا في الصحو والسُّكر. وأمثال ذلك من قبيل: (القبض والبسط والوقت والحال والإثبات، والتجلي والمحاضرة والمُكاشفة واللوائح والطوالع والتمكين) وغير ذلك، فقد كان الطريق الصوفى في هذا العهد مسلكًا عمليًا لا منهاجًا نظريًا، أي أن الزهاد من أئمة التصوف كانوا مقيدين بأصول الشريعة، أي أنهم كانوا يعتقدون أن العمل الصادق بأحكام الشرع والاتباع الكامل للشريعة الإسلامية يولدان في روح الإنسان فوائد خاصة. وتلك الفوائد هي الحصول على العقائد المجردة والمعقولة.

ومن الأمور الخاصة بهذه المرحلة أن الزهاد من أئمة التصوف لم تكن لهم لغة رمزية خاصة، ولم يضعوا تعبيرات واصطلاحات خاصة بهم، وأهم من كل ذلك أنه لم يكن لهم اسم خاص، وأن اسم الصوفي وكلمة التصوف والعرفان كما سنرى بعد ذلك من اصطلاحات المراحل التالية . والحاصل أن زهاد هذا العهد بالإضافة إلى الجانب العملي كانوا نظريًا أشبه بأساتذة العلوم الشرعية والمتكلمين وأئمتهم منهم بالصوفي حسب معنى القرون التي تلتهم ويُعد عصرهم في نفس الوقت عصر نهضة التصوف الأولى.

وللإسلام مفهوم خاص للزهد، فهو ليس رهبانية، ولا انقطاعًا عن الدنيا، وإنما هو معنى يتحقق به الإنسان يجعله صاحب نظرة خاصة للحياة الدنيا، يعمل فيها ويكد، ولكنه لا يجعل لها سلطانًا على قلبه، ولا يدعها تَصْرِفُهُ عن طاعة ربه.

ولذلك ليس من شرط الزهد في الإسلام أن يكون مقترنًا بالفقر، بل قد يتفق للإنسان الغنى والزهد معًا. وكان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف من كبار الأغنياء، ولكنهما كانا زاهدين فيما يملكان، فقد جهز عثمان جيش العُسْرَةِ، واشترى بئر رومة من يهودي كان يمنع المسملين عنها، وكان لا يَتَوَانَى عن بذل ماله في سبيل المجتمع. وكذلك كان عبد الرحمن بن عوف يخرج من تجارته وأرباحها إذا شعر بحاجة المسلمين إليها. وقد عَرَّفَ أحد الصوفية الزهد الإسلامي بقوله: «أن تكون معرضًا عما تملك، لا أن تكون معرضًا عما لا تملك. فإن من لا يملك شيئًا فيما يكون زاهدًا؟!».  

إن الزهد في الإسلام معناه ارتفاع الإنسان بنفسه فوق شهواتها. وهذا معناه أن يتحرر تمامًا من كل ما يعوق حريته.

وهذا الزهد مستمدًا من أدب القرآن، وسنة النبي صلى الله عليه وسلموصحابته. ولم يكن الزهد عند النبي صلى الله عليه وسلموصحابته لَيَعْنِي انصرافًا تامًّا عن الدنيا، وإنما كان يَعْنِي: الاعتدال أو التوسط في الأخذ بأسبابها وملذاتها، وهذا مُشَارٌ إليه في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143]، وفي قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص:77].

وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلمنتيجة الزهد أقوياء على أنفسهم، فلم يفتتنوا بمال أو جاه. ومن أمثلة ذلك ما يُرْوَى عن عمر بن الخطاب من أنه حُمِلَتْ إليه كنوز كسرى فَنَظَرَ إليها، وقال: «اللهم إني أعلم أنك تقول في كتابك الكريم: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]».وأمر بوضعها في بيت المال.

ولم يكن الزهد ليصرف المسلمين الأوائل عن حياة المجتمع، بل كان يمدهم بطاقات روحية لا حصر لها تعينهم على حياة الجتمع ذاتها. فلم يكونوا عُبَّادًا للمال أو الجاه أو الشهوات؛ لذلك حققوا العدالة الاجتماعية في أسمى صورها.

الزهد في الإسلام إذًا منهج في الحياة قوامه التقلل من ملذات الحياة، والانصراف إلى الجاد من أمورها، فتتحقق بذلك حرية الإنسان المتمثلة في ارتفاعه فوق شهواته وأهوائه بمحض إرادته، مع قدرته في نفس الوقت على تحقيق تلك الشهوات، والسير وراء هذه الأهواء، ولكن يمنعه من ذلك  إيمان قوي بالله، وبثوابه وعقابه في الآخرة.

خصائص الطريق الصوفى في القرنين الأول والثاني:

يتميز الطريق الصوفى فى هذين القرنين ومن خلال مدارسه في المدينة، والبصرة، والكوفة، ومصر، وخراسان بالخصائص التالية:

أولًا: أنه يقوم على أساس فكرة مجانبة الدنيا من أجل الظفر بثواب الآخرة واتقاء عذاب النار، متأثرًا في ذلك بتعاليم القرآن والسنة، وبالظروف السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك.

ثانيًا: أنه يقوم على زهد ذو طابع عملى، ولم يُعْنَ أصحابه بوضع القواعد النظرية له. ومن وسائله العملية العيشة في هدوء وبساطة تامة، والتقليل من المأكل والمشرب، والإكثار من العبادات والنوافل والذكر، مع المبالغة في الشعور بالخطيئة، والخضوع المطلق لمشيئة الله، والتوكل عليه، وهو بهذا يهدف إلى غاية أخلاقية.

ثالثًا: أنه كان يتخذ دافعًا له الخوف من الله، وهو خوف يبعث على العمل الديني الجاد، على أنه ظهر له دافع آخر في أوائل القرن الثاني عند رابعة، وهو الحب لله المنزه عن الخوف من عقاب الله والطمع في ثوابه في آن معًا، وهو يعبر عن إنكار الذات، وعن التجرد في العلاقة الإنسان بالله.

رابعًا: أن زهد بعض المتأخرين من الزهاد -خصوصًا في خراسان- وعند رابعة، يُمْكِنُ - لِمَا يَتَمَيَّزُ به من تعمق في التحليل- أن يعتبر مرحلة تمهيدية للتصوف. وأصحابه وإن كانوا يقتربون من التصوف لا يُعَدُّونَ صوفية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما يُمْكِنُ اعتبارهم روادًا أوائل لمن سيجيء بعدهم من صوفية القرنين الثالث والرابع.

هذا، ويعتبر نيكولسون الزهد «أقدم نوع من أنواع التصوف الإسلامي»، وهو يصف الزهاد أحيانًا بــ: (الصوفية الأولين). ولكننا نرى أن من الأدق عدم إطلاق اسم (الصوفية) على زهاد المسلمين حتى أواخر القرن الثاني. ونُؤْثِرُ أن نطلق عليهم ما أطلقته المصادر العربية القديمة عليهم من تسميات، كالزهاد، والعباد، والنساك، والقراء وما إلى ذلك.

المرجع : - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 65- 69 ، 106 - 107).

 - د.قاسم غني ( ت 1372هـ) ، تاريخ التصوف في الإسلام، ترجمه عن الفارسية: صادق نشأت، راجعه: د. أحمد ناجي القيسي، د. محمد مصطفى حلمي، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ط د، 1970م ، (ص 33-43).


التقييم الحالي
بناء على 44 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث