نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى – مصدره الإسلامي من القرآن الكريم


كان التصوف عند أول تَكَوُّنِهِ العلمي أخلاقًا دينية، فمن الطبيعي أن يكون مصدره الأول إسلاميًّا، فقد استمد من القرآن، والسنة، ومن أحوال الصحابة وأقوالهم. على أن أحوال الصحابة وأقوالهم لم تكن لتخرج عن نطاق الكتاب والسنة، وبذا يكون المصدران الأساسيان للتصوف في الحقيقة: القرآن، والسنة.

ولا يستطيع إمامٌ ما في التصوف أو غيره، أن يختلف مع الصوفية في أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم الصادقين والصادقات، والقانتين والقانتات، والخاشعين والخاشعات، وكذا المتوكلين والأولياء والأبرار والمقرَّبين؛ مما نجد مبثوثًا في آيات الكتاب الكريم.

وقد ذكر الله تعالى الشاهدِين في قوله: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37]، وذكر سبحانه المطمَئنِّين في قوله:﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد:28]، وذكر سبحانه وتعالى تزكية النبي ×لأمته، في قوله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:2].

والتزكية لمحة صوفية، تتم بعلم وعمل ومتابعة، وهي أيضًا تحلية بالفضائل وتخلية عن الرذائل، هذا إلى التأمل في جمال الكون ومحاولة كشف شيء من أسراره.

ومن هنا استنبط مفكر مثل الأستاذ العقاد ما للتصوف من صلة بالدين الإسلامي، حيث يقول: «... لكن التصوف في الحقيقة غير دخيل في العقيدة الإسلامية»([1]).

فمن القرآن والسنة استمد الصوفية أول ما استمدوا من آراءهم في الأخلاق والسلوك، ورياضاتهم العملية التي اصطنعوها من أجل تحقيق هدفهم من الحياة الصوفية.

وقد بين لنا الطوسي في (اللمع): أن للصوفية تخصيصًا بمكارم الأخلاق، والبحث عن معالي الأحوال وفضائل الأعمال اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم، وهذا كله –على حد تعبيره- موجود علمه في كتاب الله عز وجل .

ونظرة تحليليةإلى التصوف تبين لنا أن الصوفية على اختلافهم يتصورون طريقًا للسلوك إلى الله، يبدأ بمجاهدة النفس أخلاقيًّا، ويتدرج السالك له في مراحل متعددة تعرف عندهم بالمقامات والأحوال، وينتهي من مقاماته وأحواله إلى المعرفة بالله، وهي نهاية الطريق. ويُعْنَى الصوفية بالمقام، مقام العبد بين يدي الله فيما يُقَامُ فيه من العبادات، والمجاهدات، والرياضات. ومن أمثلة المقامات عندهم: التوبة، والزهد، والورع، والفقر، والصبر، والرضا، والتوكل وما إلى ذلك.

أما (الأحوال) فهي: ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب، من صفاء الأذكار. وليس الحال -كما يقول الطوسي- من طريق المجاهدات والعبادات كما ذكرنا.

ومن أمثلة الأحوال عندهم: المراقبة، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، واليقين، وغير ذلك.

وقد فرق الصوفية بين: (المقام) و(الحال) تفرقة دقيقة.

فـ:(المقام) عندهم يتصف بالثبوت. أما (الحال) فزائل.

والمقام يحصل للسالك بكسبه وإرادته، على حين أن الحال وارد عليه دون تعمد منه.

وإلى هذا يشير القشيري في رسالته بقوله: الحال معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم –أي: من الصوفية-، ولا اجتلاب، ولا اكتساب لهم من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو احتياج. فالأحوال: مواهب، والمقامات مكاسب. والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود. وصاحب المقام ممكن في مقامه، وصاحب الحال مترق عن حاله.  

وجميع مقامات الصوفية وأحوالهم والتي هي موضوع التصوف أساسًا مستندة إلى شواهد من القرآن الكريم.

وسنشير فيما يلي إلى آيات من القرآن الكريم التي تستند إليها بعض تلك المقامات والأحوال، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

فتستند مجاهدة النفس التي هي بداية الطريق إلى الله لآيات مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]، ومثل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}[النَّازعات:40-41]، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف:53].

ومقام مثل مقام التقوى يمكن أن يكون مُسْتَنِدًا عندهم إلى قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13].

ومقام الزهد يستند عندهم إلى آية مثل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}[النساء:77]، وإلى آية مثل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9].

ومقام التوكل يستند عندهم إلى مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطَّلاق:3]، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}[التوبة:51].

ومقام الشكر مُسْتَمَدٌّ من آية مثل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7].

ومقام الصبر مُسْتَنِدٌّ إلى آية مثل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ}[النحل:127]، ومثل:  {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155].

أما مقام الرضا فمذكور في قوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[المائدة:119].

ومقام الحياء يمكن أن يرد عندهم إلى قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى}[العلق:14].

وهناك مقامات أخرى منها مثلًا: الفقر، بمعنى: الافتقار إلى الله، وهذا يستند عند الصوفية إلى آية مثل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ}[البقرة:273]، وإلى آية مثل: {وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الفُقَرَاءُ}[محمد:38].

وهناك – أيضًا - مقام المحبة المتبادلة بين العبد والرب، وهو مشار إليه صراحة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:54].

وكلام الصوفية في المعرفة الحاصلة عن التقوى، والتخلق، والإلهام يرد عندهم إلى آيات مثل: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}[البقرة:282]، وقوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[الكهف:65].

أما الأحوال فمستندة –أيضًا- إلى القرآن، فهناك مثلًا حال الخوف الذي يستند إلى قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة:16].

وحال الرجاء الذي يستند إلى آية مثل: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآَتٍ}[العنكبوت:5].

وحال الحزن الذي يستند إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ}[فاطر:34].

بل إن بعض رياضات الصوفية العملية وأهمها الذكر يمكن أن يجد له مصدرًا من القرآن الكريم، فالذكر يستند إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}[الأحزاب:41].

ومعنى الولاية - موالاةالله بالطاعات- يستند إلى قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:62].

والدعاء عند الصوفية – وهو رياضة عملية لها آدابها عندهم- يستند إلى شواهد قرآنية كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]، وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}[النمل:62].

ومن الآيات التي تشير إلى فناء الدنياوضرورة الزهد فيها، قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ}[الحديد:20].

[إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس:7-8].

{فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَافَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَىوَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَىفَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}[النَّازعات:37-41].

ويصور القرآن طبيعة الإنسان في الميل إلى شهوات الدنيا، في مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىوَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىبَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَاوَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:14-17]، وقوله تعالى{كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَوَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِوَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّاوَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر:17-20].

ويمتدح القرآن حال العباد المقبلين على الله تعالى في مثل قوله تعالى: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآَمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}[التوبة:112]، وقوله تعالى {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَتَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السجدة:15-16].

إن المبادئ التي أصاب فيها الصوفية نجد لها أساسًا في القرآن الكريم في مثل الآيات التي أوردناها هنا، ويفهم على هذا مثل قول الجُنَيدِ: «طريقتنا هذه مشيدة بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به فيها»([2]).

وفي آيات أخرى أيضًا، نجد أصول التصوف السني مثبوتة فيها، كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشُّورى:11]؛ففي هذه الآية خلاصة العلم الذي يعلمه دارس الحكمة الإلهية.

وكقوله عز من قائل: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50].

وهنا وجوب اللجوء إلى جانب الله تعالى، وأن الفرار إلى الله هو باب النجاة؛ حتى لا تتكدر الرُّوح.

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد:3]، وكذلك قوله سبحانه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص:88]، فالمتصوفة يرون أن الله تعالى أوليٌّ أبديٌّ، قديم بغير زمان ولا مكان، عليم بالكليات والجزئيات. وكذلك قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النور:35]. ولا يرى المتصوفة وجودًا حقيقيًّا إلا وجود الله عز وجل.

ومن القرآن الكريم أيضًا يتعلم الصوفي الخلاف بين عالم الظاهر وعالم الباطن؛ لأنه يقرأ مثلًا واضحًا لهذا الخلاف، فيما دار بين الخضر وبين موسى عليهما السلام من خلاف وحوار: +فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا =٦٥-قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا..._، ثم يقول القرآن الكريم على لسان الخضر: ﴿...وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [سورة الكهف من الآية: 65، إلى: 82].

من هذه الآيات القرآنية التي ذكرنا وكثير غيرها، يمكن أن نستخلص ما يلي:

يصور القرآن الحياة الدنيا على أنها لعب ولهو، وأنه لا دوام لها، وهي متاع الغرور. وعلى المؤمن أن يسعى إلى لقاء الله، فلا يُؤْثِرِ الحياة الدنيا ويطمئن إليها، ويجعلها بديلًا عن الآخرة. ولما كان الإنسان بطبعه مُؤْثِرًا للدنيا وملذاتها، محبًّا للجاه والمال، فإن عليه أن لا يستسلم لذلك، بل عليه بتزكية نفسه بالعبادة وسائر فروض الدين، ونهيها عن هواها باستمرار، فإذا فعل كانت الجنة مثواه.

والمؤمنون المقبلون على الله، التائبون عن ذنوبهم، العابدون له حق العبادة، الشاكرون له على نعمه، المُعْتَبِرُونَ بما خلق في هذا العالم من مخلوقات، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والذين إذا ذكروا بآيات الله خَرُّوا سجدًا لله وسبحوا بحمده، وما ذلك إلا لرقة قلوبهم بالإيمان، وهم المتواضعون للناس، وهم المكثرون من التهجد، فتتجافى جنوبهم عن المضاجع، وهم بعد هذا كله يدعون ربهم خوفًا من عذابه، وطمعًا في جنته، وهم الواثقون برزق الله تعالى، توكلًا منهم عليه.

والزهد في الإسلام كما سيتبين من أقوال الزهاد الأوائل، لم يخرج عن هذه المعاني التي ذكرناها، وبذلك يكون الإسلام مصدره، وليس من مصدر أجنبي.

ويطول الحديث لو أردنا أن نرد كل معنى من المعاني النفسية أو الأخلاقية التي يعبر عنها الصوفية بالأحوال والمقامات إلى أصله من القرآن الكريم، ومن أراد زيادة في هذا الباب فعليه بالرجوع إلى كتب الصوفية أنفسهم، كـ:(الرسالة القشيرية)، أو (اللمع) للطوسي، أو (الإحياء) للغزالي.

مما سبق يتبين أن البذور الأولى للتصوف الإسلامي من حيث هو علم للمقامات والأحوال، أو بعبارة أخرى من حيث هو علم للأخلاق الإنسانية والسلوك الإنساني موجودة في القرآن الكريم. ومن هنا يكون التصوف من حيث نشأته الأولى آخذًا من القرآن، حيث يتضح من الآيات والأحاديث، أن هؤلاء كلهم الذين وصفوا فى القرآن والسنة بصفات الصوفية موجودون في أمة سيدنا محمد ×، فلو لم يكونوا موجودين في الأمة، واستحال كونُهم في كل وقت؛ لم يذكرهم الله تعالى في كتابه، ولم يصِفْهم النبي ×.

ومن هنا بَرَّرَ ابن تيميةَ المقامات والأحوال، على أساس أنها من أصول الدين، مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله تعالى، والشكر له، ويقرر أن «جميع هذه الأمور فرض على كل الأعيان باتفاق أهل الإيمان»([3]).

وإن اسم الإيمان قد شمل جميع المؤمنين، لكن قد أفرد هؤلاء السابقون بأسماء مختصة من ذلك، وهذا يدل على تخصيصهم من عامة المؤمنين الذين شملهم اسم الإيمان، يقول الطوسي في ذلك: «وإنما وقع التخصيص للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، ولسائر هؤلاء الذين ذكرتهم؛ لسر بينهم وبين معبودهم، ولزيادة يقينهم وإيمانهم بما خاطبهم الله تعالى به ونَدَبهم إليه، إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم ينفردون عن هؤلاء بتخصيص الوحي والرسالة ودلائل النبوة؛ فلا يجوز لأحد أن يزاحمهم في ذلك»([4]).

والخلاصة هنا:أن الفكر المستقيم لدى الصوفية، لا نُعدَم له سندًا من نصوص الكتاب والسنة وتطبيقات السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا الفكر إنما يركز على الجانب القلبي، الذي يغفُل عنه الكثيرون؛ فيتحول الدين عندهم إلى شكل ومظهر، «إن التدين ليس مجرد التمسك بشكليات الدين دون جوهره، أو ادعاء الدين لتحقيق مآرب ذاتية، وإنما التدين هو الفهم الواعي للدين والعمل به، بما يربط حياة التعبد بحياة المجتمع؛ فلا ينعزل الدين، ويتقوقع أصحابه بعيدًا عن حقائق الحياة»([5]).

 

المراجع :

- أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص44- 50 ، 72-74).

- أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 29-34).

 

 


([1])    العقاد: الفلسفة القرآنية، ص174، وانظر: ص175.

([2])    الشعراني : لطائف المنن والأخلاق، ص47.

([3])    ابن تيمية: مختصر الفتاوى المصرية، ص124، وانظر ص587، القاهرة، 1949.

([4])    الطوسي: اللمع، ص35، وانظر: ص34.

([5])    د. أبو الوفا: مدخل...، ص12.


التقييم الحالي
بناء على 31 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث