نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - دوره فى تهذيب النفس الإنسانية

حينما نتكلم عن تهذيب النفس من خلال الطريق الصوفى الذى مبناه على تطبيق منهج التصوف ، فإنما نقصد التصوف الإسلامي الأصيل، لا التصوف الدخيل الذي ذهبت فيه الآراء كل مذهب ما بين تكفير أو تضليل.

وهذا التصوف الإسلامي الأصيل، إنما هو ثمرة الأخذ بتعاليم الله عز وجل، وزُبدة الانتفاع بالشريعة الإسلامية كتابًا وسنة، وهنا نجد شخصية إسلامية سَوِيَّة؛ فقد ثبت أن «المرء المتدين حقًّا لا يعاني مرضًا نفسيًّا قط»([1])، كما شهد بذلك «بريل».

ولم يكن التصوف لدى أنصاره من المسلمين بمعزل عن الأهداف الأخلاقية، التي يُجهد علماء الأخلاق اليوم أنفسهم([2])كي يثبتوا ما أثبته التصوف الحق من قبل، وهو أننا موجودات حرة عاقلة، تملك باختيارها الانسياق وراء دوافع الهدم والكراهية، أو التفاني في خدمة أهداف البناء والمودة والمحبة، ذلك أن الخير والشر، إنما هما ثمرة الجهد الإرادي، أو الاختيار الخلقي.

وقد ظن المحدَثون، بعد أن أحرز العلم تقدمًا، أن المعرفة العلمية يمكن أن تحُل محل (المعرفة الخلقية)؛ حلا لمشكلات السلوك، ولكن التجربة الواقعية أثبتت أن ضحايا (اللا أخلاقية) أكثر بكثير من ضحايا (الجهل)، ويترتب على هذا أن الإنسان هو الذي يصنع العلم، وليس العلم هو الذي يصنع الإنسان.

إن العنصر الأخلاقي لو فقد من عالم البشرية، لكان المنحرفون هم أسعد الخلق، حين أطلقوا لشهواتهم العنان في الأعراض والدماء والأموال، لكن الشقاء والعذاب هو الجزاء الذي ينتظرهم عند الله تعالى([3]).

ومن مسلمات التصوف: أن الفكر الإنساني نفحة من الفكر الإلهي، والفكر الإنساني بناء على هذا قادر أن يحصر نفسه في غرض من الأغراض؛ فيثمر لصاحبه القدرة أو الملكة التي يريديها([4]).

ومن هذه الملكات ملكة الحياء من الله تعالى، حيث يسير الصوفي الحق ولسان حاله يقول: «ما رأيت شيئًا إلا ورأيت اللَّه فيه».

وعليه فإن التصوف إيجابي وليس سلبيًّا؛ لأنه ليس هروبًا من واقع الحياة، وإنما هو محاولة من صاحبه للتسلح بقيم روحية، تساعده على مواجهة الحياة المادية، بما تحقق له من التوازن النفسي([5])، ومن يفعل غير ذلك فهو يجهل حقيقة التصوف، ويكون مصيره الخطأ، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: «على الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد أن يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ»([6]).

كل ذلك خطأ؛ لأن بعض الصوفية حاولوا التصريح بما لا يجوز التصريح به، وألبسوا بعض المعاني ألفاظًا ما كان ينبغي أن يفعل بها ذلك؛ لأنها خطرات نفس.

إن طريق الصوفي هو الذوق لا العقل؛ أي طريق الوجدان أو القلب، بواسطة أحوال ومقامات يسلكها، محاولًا معرفة الله تعالى معرفة يقينية، والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب.

وقد وجد في الإسلام قوم من (النساك) الذين تفرغوا للمطالب الروحية، وذلك مبني على سنة التخصص في كل مطلب من مطالب الحياة الإنسانية، ولا ينبغي أن يفهم على أنه من قبيل الإلغاء لمطلب من مطالب الحياة الضرورية.

ومن المعلوم أن التخصص أمر إيجابي؛ لأنه سبيل إلى التعميم والاستفادة من كل ملكة في العقل والروح والذوق، وعلى سبيل المثال: فليس في تخصص فرد بعلم الطب أو الهندسة تعطيل لغيره من العلوم الشريفة التي تكمل حلقة المعارف الإنسانية، وكما يقول العقاد:

«ولا يوجب الإسلام التنسك على جميع المسلمين؛ لأن أناسًا منهم تخصصوا له وفضلوه على مطالب الجسد الأخرى، ولكنه يجيزه بالقدر الذي بيناه، وهو القدر الذي لا غنى عنه في تدبير حياة الإنسان، فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد، ولكنها ينبغي أن تنال، فكيف يمكن أن تنال ؟ إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص، أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعًا في التحصيل وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعًا على حد سواء»([7]).

إن تهذيب النفس في الإسلام، لا يكون إلا بما أمر الله تعالى به وبما نهى عنه، ويكون للمعرفة والعلم الصحيح النافع مكان عظيم مع التهذيب الروحي؛ لأن النفس العاطلة من المعرفة، هي عاطلة من التفقه في الدين حق التفقه.

وبذلك كانت الشخصية الخلقية، هي من الشواغل الأساسية للتصوف، فلم يُكتب علم لوجه الله تعالى ومن أجل الحق على نحو ما كتب الصوفية في الأخلاق وفي أدب النفس، وفي الإلحاح في إحياء العزيمة والقلب، والتنفير من الإثم الظاهر، والإفك الباطن، وغير هذا مما يشهد أن أعلام الصوفية الذين كتبوا في ذلك ونبهوا عليه إنما هم أساتذة العلماء في هذا الميدان، وهم في مكان الصدارة فيه.

ولقد أشار الغزالي إلى أمر يفهم منه وجوب التأني في إصدار أي حكم يتعلق بالتصوف، حيث يقول: «التصوف أمر باطن لا يُطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي»([8]).

ونحن مع الدكتور زكي مبارك، فيما ذهب إليه، من أن التصوف: «هو الصدق في العواطف الدينية، الصدق الصادق الصدوق، الذي لا يثينه وعد، ولا يرهبه وعيد»([9]).

إن قوام التصوف استقامة دائمة، ومواصلة للعبادة، وليس هو جمعًا بين الصدق والكذب، والاستقامة والفسق، وقد أحسن الدكتور زكي مبارك، حين ركَّز على أهمية النزعة الروحية في هذا الميدان، ضاربًا صفحًا عن مظاهر اللباس لدى الصوفية؛ فإنها ليست فيصلًا في الحكم بوجوده، فهو يقول: «التصوف ليس وقفًا على أولئك الدراويش، الذين يعيشون عيش التسول، ويتخذون شمائل الزهاد، صادقين أو كاذبين».

لكنه يعود بعد هذا ليذكر أن هذه النزعة الروحية يستوى في إدراكها الفاجر والعفيف، حيث يقول: «إنما التصوف نزعة روحية، يحسها الأغنياء كما يحسها الفقراء، ويدركها الفاجر كما يدركها العفيف، وإن لفتة من لفتات الصدق تقع من رجل معروف بالطيش، هي أقرب إلى التصوف والروحانية، من أعمال كثير من المرائين، الذين يلبسون مسوح الرهبان، ويضمرون غرائز اللئام من السباع والحشرات»([10]).

ونتفق معه في أن التصوف ليس وقفًا على الدراويش؛ فقد خالطهم المراؤون الذي يلبسون مسوح الرهبان، ولهذا نفضِّل نسبة التصوف إلى الصفاء لا إلى الصوف من أجل مثل هذه الأمور.

ولكن نختلف مع الدكتور زكي في أن الفاجر والطائش يمكن عدهما من أرباب القلوب؛ وإلا لتساوى الصالح والطالح، بمجرد موقف واحد يعود بعده الطالح إلى طيشه وفجوره، والأصل أن يكون الصلاح منهجًا دائمًا للصوفي وليس وقفة معينة.

وإذا كان حاصل التصوف الصحيح هو التهذيب النفسي؛ فيجب أن يعلم أن الرسوم والأشكال هنا لا قيمة لها بدون رسوم القلب والروح، وبذلك نجد الصدق مبثوثًا في كل ميادين الحياة.

إن التصوف الإسلامي الصحيح، لا يعرف الانعزال المترفع المحزون؛ بل إنه يدفع أهله إلى الحب والتضحية من أجل الآخرين؛ ليكونوا نموذجًا يحتذى في الحب الإلهي وفي كل ألوان الحياة الروحية والمادية، وكما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي:

«فالصوفي يخدم نفسه، كما يخدم الآخرين: يكشف عيوب نفسه، ليعالجها في نفسه وفي الغير، ويرتفع بمستوى حياته الروحية؛ ليجعل منها نموذجًا يحتذيه، ليس فقط أصحابه في الطريقة؛ بل وسائر الأمة.

ويستهلك نفسه في الحب الإلهي؛ ليستطيع الشفاعة للآخرين عند مولى الشفاعة ويستشهد، ابتغاء أن يكون شاهدًا على الحق»([11]).

ومن ثمار التصوف مع هذا كله: التحلي (بالعفاف) وهو لا معنى له إلا عند توافر القوة والإمكان؛ لأن عفاف العاجز من الرذائل لا من الفضائل، وإن توهم الناس غير ذلك.

ولن يستطيع الصوفي العفاف ما لم يتحكم في هواه؛ لأن الهوى مصدر كل رذيلة؛ لقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية:23].وقد قال ابن عباس: «الهوى إله يُعبد من دون الله»، ثم تلا الآية السابقة.

وقال الشعبي: «إنما سُمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه».

وقال الشاعر:

إن الهوان هو الهوى قُلِبَ اسمه

فإذا هَوِيتَ فقد لقيت هوانا

 

 

وفي نفس المعنى يشير الماوردي حيث يقول: «أما الهوى فهو عن الخير صادٌّ، وللعقل مضادٌّ؛ لأنه يُنْتِجُ من الأخلاق قبائحها، ويُظهِر من الأفعال فضائحها، ويجعل سِتر المروءة مهتوكًا، ومدخل الشر مسلوكًا»([12]).

ومن هنا كان الصوفية على حق، حين فقهوا هذه الأمور التي تقهر كثيرًا من الناس، وتحبط ثواب أعمالهم وهم بها قانعون.

ومن ثمار تهذيب النفس أن يصبح (الحلم) سمة من سماتها؛ لأن الحلم يجمع مكارم الأخلاق.

وقد روى محمد بن حارث الهلالي، أن جبريل نزل على النبي×فقال: يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ[لأعراف:199].

وروى سفيان بن عيينة، أن النبي ×، حين نزلت الآية قال: «يا جبريل، ما هذا؟». قال: لا أدري حتى أسأل العالِم. ثم عاد جبريل وقال: «يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك»([13]).

ومن هذا المعنى يقول الشاعر:

أحب مكارم الأخلاق جهدي

وأكره أن أعيب وأن أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلمًا

وشر الناس من يهوى السِّبابا

ومن هاب الرجال تهيَّبوه

ومن حَقَرَ الرجال فلن يُعابا([14])

 

 

وإذا كان من أسمى غايات التصوف: تهذيب النفس، وضبط الإرادة، وإلزام المرء بمكارم الأخلاق؛ فقد انفسح الطريق أمام السالكين نحو ربهم عز وجل، وصار لكم منهم تجربته في هذا المجال، وأشار بعضهم إلى: «أن عدد الطرق إلى الله بعدد الأنفس»؛ تأكيدًا منهم على الفروق الفردية بين كل متصوف وآخر([15]).

ولا عجب أن بعض المؤلفين في التصوف يذكر حكم علم التصوف، فيقول: «علم التصوف فرض عين على كل مكلَّف».

ويعلل ذلك بأن: «الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد؛ فيجب عليه أن يتعلم ما يتخلص به عن ذلك»([16]).

وليس هناك من وسيلة للخلاص من هذه العلل النفسية، إلا الأخذ بتعاليم الإسلام، وإذا كان الإسلام لغة هو مطلق الطاعة والانقياد؛ فإنه في الشرع الانقياد التام لتعاليمه مع النطق بالشهادتين، «الانقياد ببعض الجوارح فقط، ليس إسلامًا كاملًا؛ بل إسلام ناقص أو كفر»([17]).

وعدم ترك المنهيات يجعل الإسلام ناقصًا، وعدم النطق بالشهادتين كفر والعياذ بالله تعالى.

وهناك ما يسمى (الجوارح الكواسب)، وهي الأعضاء السبعة التي يكسب بها المرء الخير والشر وهي: السمع والبصر واللسان واليدان والرجلان والفرج والبطن، وقد عني الصوفية بطهارة هذه الجوارح عناية شديدة.

فمن عصى الله تعالى بأي جارحة من هذه الجوارح؛ فُتِحَ له باب من أبواب جهنم، ومن أطاعه بواحدة منها غُلِق عنه بابٌ منها، فإن تمكن من إطاعة الله تعالى بجميع هذه الجوارح؛ غلقت عنه أبواب جهنم كلها.

 

المرجع: أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 37-47).

 


([1])    يوسف القرضاوي: ثقافة الداعية، ص124، ط2، 1399هـ-1979م، مؤسسة الرسالة، بيروت.

([2])    د. زكريا إبراهيم: (المشكلة الخلقية) من ص303 إلى 305، ط2، 1975م، مكتبة مصر بالقاهرة، (مشكلات فلسفية - 6).

([3])    محمد متولي الشعراوي (الشيخ ): الطريق إلى الله، ص9 محاضرة ألقاها بقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، رجب 1394هـ-يوليو1974، نشر المكتبة السلفية بالقاهرة.

([4])    العقاد (عباس محمود): مطالعات في الكتب والحياة، ص302، ط3، 1386هـ-1966م، دار الكتاب العربي- بيروت.

([5])    د. أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، (جـ من المقدمة).

([6])    الغزالي: المنقذ من الضلال، ص145- 146، تحقيق: د. عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، «بدون تاريخ».

([7])    العقاد: الفلسفة القرآنية، ص176.

([8])    الغزالي: إحياء علوم الدين، 2: 153، المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، «بدون تاريخ».

([9])    د. زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، 1: 33، ط1، 1357هـ-1938م مطبعة الرسالة بالقاهرة.

([10])   د. زكي مبارك: المرجع السابق، 1: 24

([11])   د. عبد الرحمن بدوي: تاريخ التصوف الإسلامي، ص24.

([12])   الماوردي (المتوفى450هـــ): أدب الدنيا والدين، ص17، طــ4، 1324هــ-1906م، طبع بولاق.

 

([13])   المصدر السابق، ص249.

([14])   المصدر السابق للمارودي، ص250.

([15])   د. أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص9.

([16])   المالكي (محمد بن أحمد): الدر الثمين والمورد المعين،2: 170، طبع 1373هـ-1945م، مصطفى البابي الحلبي بمصر.

([17])   المصدر نفسه، 1: 57.


التقييم الحالي
بناء على 24 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث