نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - الخصائص العامة

لم يعد موضوع الطريق الصوفى والتصوف الإسلامي يجذب إليه الدارسين المتخصصين من المسلمين والمستشرقين –فقط-، وإنما هو يجذب إليه –أيضًا- القارئ العادي الذي أصبح يحس بوطأة المذاهب المادية والعبثية المعاصرة علىٰ نفسه، وبحاجته إلىٰ ما يرضي عقله، ويشبع روحه، ويعيد إليه ثقته بنفسه، وطمأنينته التي بدأ يفقدها في زحمة الحياة المادية وما فيها من ألوان الصراع العقائدي المختلفة، وبهذا يحقق معنى إنسانيته.

وليس الطريق الصوفى هروبًا من واقع الحياة كما يقوله خصومه، وإنما هو محاولة من الإنسان للتسلح بقيم روحية جديدة تعينه علىٰ مواجهة الحياة المادية، وتحقق له التوازن النفسي حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها، وبهذا المفهوم يصبح التصوف إيجابيًّا لا سلبيًّا، ما دام يربط بين حياة الإنسان ومجتمعه.

إن التصوف في حقيقته، لا يعني الحرمان مما أحله الله تعالى، لكنه يركز على عدم الانغماس في المادة، بما يطمس على القلب ويُظلم الروح.

فجوهر الدين لا يحُلُّ في نفس غرقت في الماديات؛ سعيًا لها وتلذذًا بها، وكذلك لا يحل الإيمان الحقيقي في قلب متعلق بالشهوات نهارًا وليلًا، كل ذلك يشير إلى إيثار الدنيا على الآخرة؛ مما يؤدي إلى ذم صاحبه، وهو مما يشير القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:64].

وكذلك في قوله عز من قائل منبهًا على ضرر إيثار الدنيا عل الآخرة: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى=٣٧-وَآَثَرَ الحَيَاةَالدُّنْيَا=٣٨- فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى =٣٩- وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى=٤٠- فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾[النَّازعات:37-41].

وكما يقول أحد المفكرين موضحًا علة البشرية اليوم: «المادية في هذا العصر هي علة العلل، وعدو الدين الألَدُّ، ومنافسة الأكبر، وإن الغرب هو زعيمها الذي تولى كِبْرها، ووكرها الذي تطير منه وتأوى إليه، وفيه تبيض وتفرخ»(1).

وليس معنى الحذر من المادية، أن ينتهج الإنسان منهج الضعف؛ فقد أثبت التاريخ أن المسلمين الذين آثروا الآخرة، استطاعوا بالمُثُلِ والأخلاق أن يحكموا العالم، وأن تتهاوى على أيديهم الإمبراطورية الرومانية، رغم ثرائها المادي الفاحش.

وفي التصوف الإسلامي من المبادئ الإيجابية ما يحقق تطور المجتمع إلىٰ الأمام، فمن ذلك أنه يؤكد علىٰ محاسبة الإنسان لنفسه باستمرار؛ ليصحح أخطاءها ويكملها بالفضائل، ويجعل نظرته إلىٰ الحياة معتدلة، فلا يتهالك علىٰ شهواتها وينغمس في أسبابها إلىٰ الحد الذي ينسى فيه نفسه وربه، فيشقى شقاءً لا حد له، والتصوف يجعل من هذه الحياة وسيلة لا غاية، يأخذ منها الإنسان كفايته، ولا يخضع لعبودية حب المال والجاه، ولا يستعلي بهما علىٰ الآخرين، وبهذا يتحرر تمامًا من شهواته وأهوائه وبإرادة حرة.

الخصائص العامة للتصوف:

والسؤال الذي يطرح نفسه في البداية هو: ما هو التصوف؟ وما هي الخصائص العامة التي إذا وجدت في فلسفة من الفلسفات صح من جانبنا أن نصفها بأنها صوفية؟

نقول –بصفة مبدئية- إجابة عن هذا السؤال: إن التصوف بوجه عام فلسفة حياة، وطريقة معينة في السلوك، يتخذهما الإنسان لتحقيق كماله الأخلاقي، وعرفانه بالحقيقة، وسعادته الروحية.

على أن كلمة تصوف -وإن كانت من الكلمات الشائعة- إلا أنها في نفس الوقت من الكلمات الغامضة التي تتعدد مفهوماتها وتتباين أحيانًا. والسبب في ذلك أن التصوف خط مشترك بين ديانات، وفلسفات، وحضارات متباينة في عصور مختلفة، ومن الطبيعي أن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد وأفكار، ويخضع تعبيره عنها –أيضًا- لما يسود حضارة عصره من اضمحلال أو ازدهار.

ويبدو أن التجربة الصوفية واحدة في جوهرها، ولكن الاختلاف بين صوفي وآخر راجع أساسًا إلى تفسير التجربة ذاتها، المتأثر بالحضارة التي ينتمي إليها كل واحد منهما. 

والتصوف نوعان: أحدهما ديني، والآخر فلسفي. فالتصوف الديني ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعًا، سواء في ذلك الأديان السماوية والأديان الشرقية القديمة. والتصوف الفلسفي قديم كذلك، وقد عرف في الشرق، وفي التراث الفلسفي اليوناني، وفي أوربا في عصريها الوسيط والحديث. ولم يخل العصر الحاضر عن فلاسفة أروبيين ذوي نزعة صوفية، مثل: برادلي في إنجلترا، وبرجسون في فرنسا.

وكان التصوف الديني يمتزج أحيانًا بالفلسفة، كما هو الشأن عند بعض صوفية المسيحية والإسلام. وكذلك كان يحدث امتزاج أحيانًا عند فيلسوف من الفلاسفة بين النزعة العقلية والنزعة الصوفية. فقد لاحظ برتراند رسل في بحث له عنوانه: (التصوف والنطق) (Mysticism and Logic) ، أن من الفلاسفة من أَمْكَنَهُ الجمع بين النزعة الصوفية والنزعة العلمية، ورأى في ذلك الجمع أو التوفيق بين النزعتين سموًا فكريًا جعل من أصحابه فلاسفة بالمعنى الصحيح. فيقول ما نصه: ((إن أعظم الرجال الذين كانوا فلاسفة شعروا بالحاجة إلى كل من العلم والتصوف،إذ العاطفة الصوفية هي المُلْهِمُ لِأَعْظَمَ ما يكون للإنسان)). ويضرب رسل أمثلة لهؤلاء الفلاسفة فيذكر: هرقليطس، وأفلاطون، وبارمنيدس.

وقد حاول بعض الباحثين المحدثين أن يحددوا الخصائص العامة المشتركة بين أنواع التصوف المختلفة، ومن هؤلاء عالم النفس الأمريكي وليم جيمس  (William James)، فقد ذهب إلى أن أحوال التصوف تتميز بأربع خصائص:

1- أنها أحوال إدراكية (noetic). إذ تبدو لأصحابها على أنها حالات معرفة، وأنه يكشف لهم فيها عن حقيقة موضوعية، وأنها بمثابة الإلهامات (revelations)، وليست من قبيل المعرفة البرهانية.

2- وهي –أيضًا- أحوال لا يمكن وصفها أو التعبير عنها (ineffability)؛ لأنها أحوال وجدانية (states of feeling)، وما كان كذلك يصعب نقل مضمونه للغير في صورة لفظية دقيقة.

3- وهو بعد ذلك أحوال سريعة الزوال (tronsiency)، أي لا تستمر مع الصوفي لمدة طويلة، ولكن أثرها ثابت في ذاكرة صاحبها على وجه ما.

4- وهي أخيرًا أحوال سالبة (passivity)، من حيث أن الإنسان لا يحدثها بإرادته، إذ هو في تجربته الصوفية يبدو كما لو كان خاضعًا لقوة خارجية عُلْيَا تسيطر عليه.

وهناك باحث آخر هو بيوك (R.M.Buche) يحدد سبع خصائص لأحوال التصوف هي:

1- النور الباطني الذاتي                  (.(The subjective Light

2- السمو الأخلاقي                    (moral elevation).

3- الإشراق العقلي                      (intellectual êlluminstion).

4- الشعور بالخلود                      (sense of immortality).

5- فقدان الخوف من الموت   (Ioss of fear of death).

6- فقدان الشعور بالذنب              (Ioss of sense of sia).

7- المفاجأة                    (suddeness).

ويمكننا القول إن هذه الخصائص العامة التي ذكرها كل من جيمس وبيوك للتصوف موجودة في معظم أنواعه، ولكنها ليست شاملة. فهناك خصائص أخرى لا تقل في أهميتها عن تلك التي ذكراها، كالشعور بالطمأنينة، أو سعادة النفس، أو الرضا، والشعور بالفناء التام في الحقيقة المطلقة، والشعور بتجاوز المكان والزمان، وغير ذلك مما نجده لدى الصوفية.

على أن ثمة محاولة أخرى لحصر الخصائص الفلسفية للتصوف نجدها عند برتراند رسل. ذلك أن رسل انتهى من تحليله لأحوال التصوف إلى القول بأن أربع خصائص تميز فلسفة التصوف عن غيرها من الفلسفات في كل العصور، وفي كل أنحاء العالم، وهي:

أولًا: الاعتقاد في الكشف (intuition) أو البصيرة (insight) منهجًا في المعرفة، مقابلًا للمعرفة التحليلة الاستدلالية.

ثانيًا: الاعتقاد في الوحدة (الوجودية)، ورفض التضاد، والقسمة أيًّا كانت صورهما.

ثالثًا: إنكار حقيقة الزمان.

رابعًا: اعتقاد أن الشر محض شيء ظاهري، ووهم يترتب على القسمة والتضاد، اللذين يحكم بهما العقل التحليلي.

ومن الملاحظ أن الخاصية الأولى التي يذكرها رسل، وهي الاعتقاد بأن الكشف أو الإدراك المباشر الوجداني هو المنهج الصحيح للمعرفة؛ عامة بين الصوفية على اختلاف مذاهبهم وعصورهم. أما الخصائص الثلاث الأخرى فهي تصدق على الصوفية القائلين بوحدة الوجود (Pantheism) –فقط-، وليس كل الصوفية قائلين بهذا المذهب.

ومن جهة أخرى يمكن أن نثبت للتصوف بوجه عام خمس خصائص نفسية، وأخلاقية، وإبستمولوجية نرى أنها أكثر انطباقًا على مختلف أنواع التصوف، وهي:

1- الترقي الأخلاقي: فكل تصوف له قيم أخلاقية معينة. ويهدف إلى تصفية النفس من أجل الوصول إلى تحقيق هذه القيم، وهذا يستتبع بالضرورة مجاهدات بدينة، ورياضات نفسية معينة، وزهد في ماديات الحياة، وما إلى ذلك.

2- الفناء في الحقيقة المطلقة: وهو أمر يميز التصوف بمعناه الاصطلاحي الدقيق. والمقصود بالفناء هو: أن يصل الصوفي من رياضاته إلى حالة نفسية معينة لا يعود يشعر معها بذاته ، كما يشعر ببقائه مع حقيقة أسمى مطلقة، وأنه قد فنيت إرادته في إرادة المطلق. وهنا قد ينطلق بعض الصوفية إلى القول بالاتحاد بهذه الحقيقة أو أنها حَلَّتْ فيهم، أو أن الوجود واحد لا كثرة فيه بوجه ما. وقد لا ينطلق بعضهم إلى القول بمثل هذه الآراء في الاتحاد أو الحلول أو وحدة الوجود، وإنما يعودون من فنائهم إلى إثبات الاثنينية أو الكثرة في الوجود.

وعلى هذا تكون خاصية (الفناء) منطبقة على صوفية الوحدة وغيرهم من الصوفية الذين لم يقولوا بها.

3- العرفان الذوقي المباشر: وهو معيار إبستمولوجي دقيق يميز التصوف عن غيره من الفلسفات، فإذا كان الإنسان يعمد إلى اصطناع منهاج العقل في فلسفته لإدراك الحقيقة فهو فيلسوف، أما إذا كان يؤمن بأن وراء إدراكات الحس واستدلالات العقل منهجًا آخر للمعرفة بالحقيقة يسميه كشفًا أو ذوقًا، أو ما شابه ذلك من التسميات؛ فهو في هذه الحالة صوفي بالمعنى الدقيق للكلمة. وهذا الكشف الذي يذهب إليه الصوفية بُرْهِي أو آني، فهو سريع الزوال، وهو أشبه شيء بالومضة السريعة المفاجئة.

4- الطمأنينة أو السعادة: وهي خاصية مميزة لكل أنواع التصوف. ذلك أن التصوف يهدف إلى قهر دواعي شهوات البدن أو ضبطها، وإحداث نوع من  التوافق النفسي عند الصوفي، وهذا من شأنه أن يجعل الصوفي متحررًا من كل مخاوفه، وشاعرًا براحة نفسية عميقة أو طمأنينة تتحق معها سعادته. وقد أشار الصوفية كذلك إلى أن الفناء في المطلق والمعرفة به يحدثان في نفس الإنسان سعادة لا توصف.

5- الرمزية في التعبير: ونعني بالرمزية هنا أن لعبارات الصوفية عادة معنيين، أحدهما يستفاد من ظاهر الألفاظ، والآخر بالتحليل والتعمق. وهذا المعنى الأخير يكاد يستغلق تمامًا على من ليس بصوفي. وصعوبة فهم كلام الصوفية أو إدراك مراميهم راجع إلى أن التصوف حالات وجدانية خاصة يصعب التعبير عنها بألفاظ اللغة، وليست شيئًا مشتركًا بين الناس جميعًا. ولكل صوفي طريقة معينة في التعبير عن حالاته، فالتصوف إذًا خبرة ذاتية، وهذا يجعل من التصوف شيئًا قريبًا من الفن، خصوصًا وأن أصحابه يعتمدون في وصف أحوالهم على الاستبطان الذاتي (inteospection) أساسًا. وأي فلسفة هذا شأنها يصعب فهمها على الغير، ومن هنا توصف بأنها رمزية.

6- الفتوة الصوفية: إن الفتوة لدى الصوفية هدفٌ نبيل من أهداف التصوف، ويستحق أن نفرد له حديثًا خاصًّا، فهناك نوع من الفُتوة صُبِغَ بصِبغة صوفية، تلتقي فيه الصبغات الإسلامية الكريمة بتعاليم الصوفية، فراجع (@الطريق الصوفى - الفتوة@).

على أنه يجب أن يوضع في الاعتبار أن هذه الخصائص الخمس إنما تصدق بالنسبة لأي تصوف في صورته الناضجة أو الكاملة، إذ التصوف في أي حضارة قد يمر بمراحل مختلفة من التطور، وعندئذ قد تنطبق بعض تلك الخصائص على بعض هذه المراحل دون البعض الآخر، كما هو الشأن في التصوف الإسلامي مثلًا في مراحله الأولى، وكما سيتبين لنا فيما بعد.

ولعله يمكن الآن بعد أن عرضنا للخصائص الخمس التي رأينا أنها تميز جميع  أنواع التصوف، أن نضع تعريفًا للتصوف شامل ، فنقول:

(التصوف فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقيًّا، وتتحقق بواسطة رياضات عملية معينة تؤدي إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى، والعرفان بها ذوقًا لا عقلًا. وثمرتها السعادة الروحية. ويصعب التعبير عن حقائقها بألفاظ اللغة العادية؛ لأنها وجدانية الطابع وذاتية).

وبالإضافة إلى ما سبق فهناك العديد من الأمور التى صارت من خصائص الطريق الصوفى بصفة عامة، والتى يستحق كل أمر منها موضوعا خاصا يفرد بالحديث عنه، ومن ذلك :

(@الطريق الصوفى - الخرقة@)

(@الطريق الصوفى - الذكر@)

(@الطريق الصوفى - العهد@)

(@الطريق الصوفى - السماع@)

(@الطريق الصوفى - الكرامات@)

(@الطريق الصوفى - الموالد@)

 

المراجع : - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص ج - د من المقدمة ، 3- 10) .

- أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 21-22، 52-58).

- الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، أ/د عامر النجار ، القاهرة:مكتبة الأنجلو المصرية ، د ت، (ص 40- 73) .

 

 


(1)    أبو الحسن الندوي: إلى الإسلام من جديد، ص93، ط4 1398هـ-1978م، المختار الإسلامي بالقاهرة.

 


التقييم الحالي
بناء على 12 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث