نسخة تجريبيـــــــة
التصوف وعلاقته بالتوازن النفسى للفرد المسلم

دكتور أحمد شوقى إبراهيم العمرجى

       التصوف ليس هروباً من واقع الحياة كما يقول خصومه , وإنما هو محاولة للإنسان للتسلح بقيم روحية جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية ’ وتحقق له التوازن النفسى حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها , وبهذا المفهوم يصبح التصوف إيجابياً لا سلبياً , مادام يربط بين حياة الإنسان ومجتمعه (1) .

          ويوضح الشيخ المربى د على جمعة الخطوات التى يتبعها السائرفى الطريق  إلى اللهحتى لايخرج من حالة التوازن النفسى والطمأنينة التى عليها المؤمنون , منها : التفكر فى خلق  السموات والأرض , وكلما  تفكر الإنسان فى خلق السموات والأرض , أيقن بوحدانية الله , وأيقن بوجوده سبحانه وتعالى وبعظمته وبجلاله.

    وفى كل شيئ له آية                      تدل على أنه الواحد

    كلما تدبر استصغر نفسه , ووجد  أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس , وكلما تأمل فى حقائق الدنيا عرف أنها حادثة , كانت ولم تكن من قبل , وعرف أنها فانية , وأنها إلى زوال , وأن الإنسان سوف يموت.

   كلما تأمل الموت عرف حقيقة الدنيا , وأنها تافهة قليلة , وعرف أنها مزرعة للأخرة, وأنها وجدت للإبتلاء والعمل , كلما تدبر فى ذلك هانت عليه الدنيا.

      فالفكر إذاً , والتدبر , والنظر فى مخلوقات الله فى السموات والأرض والتأمل والتعقل , كل ذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى به فى الكتاب الكريم , وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك شياطين تصد الناس عن النظر إلى السماء ( إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولى الألباب , الذين يذكرون الله ) (2).

    فبرزت هنا قضية الذكر , فهما إذاً قضيتان , أولهما : الفكر , وثانيهما : الذكر (3) .

   ثم يعلنها الشيخ الداعى إلى الله على بصيرة من ربه فى قوة حاسمة وفى نطق صادق لمن يريد النجاة فى طريقهإلى مولاه:

    اقصد فى مشيك ...  وليكن الله سبحانه وتعالى مقصودك

    وسر فى طريقك....؛ لا تلتفت... ! مقصودك أمامك..!

    سر على بركة الله ولا تلتفت؛ فإن ملتفتاً فى طريق الله لايصل! (4) .

         نصح الشيخ عبد السلام بن بشيش تلميذه الشاذلى بقوله : ( ياعلى إنما خير لك أن تقول : كن لى, ولا تقل : سخر لىقلوب خلقك أى عبادك , فإذا كان لك كان لك كل شيئ ) (5) .

    وهاهو الإمام الشاذلى رضى الله عنه يشخص الداء ويصف الدواء فيقول:

        أسباب القبض ثلاثة : ذنب أحدثته , أو دنيا ذهبت عنك , أو شخص يؤذيك فى نفسك أو عرضك , فأن كنت أذنبت فاستغفر , وأن كنت ذهبت عنك الدنيا فارجع إلى ربك , وأن  ظُلمت فاصبر واحتمل , هذا دواؤك , وإن لم يطلعك الله تعالى على سبب القبض فاسكن تحت جريان الأقدار , فأنها سحابة سائرة(6) .

قال الشيخ أبو العباس المرسى: كنت مع الشيخ  الشاذلى  فى السفر ، ونحن قاصدون الإسكندرية حين مجيئنا من الغرب ، فأخذنى ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله ، فأتيت إلى الشيخ أبى الحسن ، فلما أحس بى قال: أحمد ، قلت نعم يا سيدى ، قال: آدم خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته ، ثم نزل به إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله تعالى: (إنى جاعل فى الأرض خليفة(7) .

ما قال فى السماء ولا فى الجنة فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة ، لا نزول إهانة ، فإنه كان يعبد الله فى الجنة بالتعريف ، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف ، فلما توفرت فيه العبوديتان استحق أن يكون خليفته.

وأنت أيضاً لك قسط من آدم كانت بدايتك فى سماء الروح فى جنة التعريف ، فأُنزلت إلى ارض النفس لتعبده بالتكليف ، فإذا توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة ، وزال ضيق أبى العباس وأنشرح صدره(8) .

فإذا أدرك العبد ما وراء البلاء من حسن العاقبة وقابل الشدائد بالرضاوالصبر _ تحقق له ما وعد الله به الصابرين من جزيل الثواب بغير حساب بل إن العبد إذا راض نفسه فى كل نازلة وشدة _ انتقل من حال الصبر إلى حال الرضا , وتحول من الصبر على البلاء إلى الشكر لله , لأنه حينئذيرىالنقمة نعمة , والمحنة منحة يرفعه الله بها إلى مقام الصابرين الشاكرين , وإذا رضى العبد بما ابتلاه الله به رضى الله عنه فيكون من المقربين  (9) .

      يقول الشيخمحمد زكى الدين إبراهيم : الصوفى هو المسلم المحمدى , الواصل العامل , أى المسلم النموذجى , أى المسلم فى أرقى المستويات الخاصة والعامة , ونسبته إلى التصوف إنما هى لمجرد التخصيص والتعريف  فى المحيط  الإسلامى العام ( 10) .

     يقول ابن عطاء الله السكندرىشكوتإلى شيخى أبى العباس المرسى  ما أجده من هموم وأحزان ، فقال: أحوال العبد أربع لا خامس لها: النعمة ، والبلية ، والطاعة ، والمعصية ، فإن كنت فى النعمة فمقتضى الحق منك الشكر ، وإن كنت بالبلية ، فمقتضى الحق منك الصبر ، وإن كنت بالطاعة فمقتضى الحق منك شهود منته عليك ، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الإستغفار.

فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوباً نزعته ، ثم سألنى بعد ذلك بمدة: كيف حالك ؟ فقلت: أفتش عن الهم فلاأجده ، فقال:

   وظلامه فى الناس سارى            .....                  ليلى بوجهك مشرق

م ونحن فى ضوء النهار               ....       والناس فى سدف الظلا

إلزم فوالله لئن لزمت لتكونن مفتياً فى المذهبين, فى علوم الظاهر وحقائق الباطن ، ولازم ابن عطاء الله أستاذه أبا العباس المرسى  (11)

   وتعتبر حكم ابن عطاء الله السكندرى بمثابة ( علامات مرور ) فى طريق السير إلى الله تعالى , فيقول ابن عطاء الله السكندرى:

  ( لا يخرج الهوى من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق) .

  ويقول أيضاً : ( لاتصحب من لا ينهضك حاله , ولا يدلك على الله مقاله)

   قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : ليس الشأن من تطوى له الأرض فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان , إنما الشأن من تطوى له صفات نفسه فإذا هو عند ربه (12) .

   فمن أنزل حوائجه بالله والتجأ إليه وتوكل فى أمره كله عليه , كفاه كل مؤنة , وقرب إليه كل بعيد , ويسر عليه كل عسير , ومن سكن إلى علمه , وعقله , واعتمد على قوته وحوله , وكله الله إلى نفسه , وخذله وحرمه توفيقه , وأهمله فلم تنجح مطالبه , ولم تيسر مأربهوهذا معلوم على القطع من نصوص الشريعة وأنواع التجارب لذا يقول ابن عطاء الله السكندرى

    ( ما توقف مطلب أنت طالبه بربك , ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك ) (13) .

  التصوف بصورة عامة يخاطب وجدان البشر ويهتم بتهذيب سلوكهم وترقيق مشاعرهم , وترقية أرواحهم . ومن هنا يأتى التصوف ليحافظ على قوى النفس جميعها , فهو يحقق التوازن النفسى والإعتدال , فيقى بذلك الإنسان من الخوف والقلق والاهتزاز.

      والمجتمع المسلم فى أمس الحاجة إلى ما يمكن تسميته "بالنموذج الصوفى" لأن كل شيئ من حولنا يهتز ويخور والقيم الأخلاقية آخذة فى الإضمحلال , والشباب حين يفقد القوة يندفع تحت تأثير الإحباط نحو الجريمة.

  --------------------------------------------

مصادر ومراجع البحث:

------------------------

 (1) د أبوالوفاء الغنيمى التفتازانى : مدخل إلى التصوف الإسلامى ص ج ( دار الثقافة للنشر والتوزيع , الطبعة الثالثة) .

 (2) سورة آل عمران , آية : 190-191.

 (3) د على جمعة محمد  : الطريق إلى الله ص 50 ( طبعة الوابل الصيب للإنتاج والتوزيع , المقطم , القاهرة) .

 (4) د على جمعة محمد : التربية والسلوك ص 417( طبعة الوابل الصيب للإنتاج والتوزيع , المقطم , القاهرة) .

 (5) أبو على بن الكوهن الفاسى : طبقات الشاذلية الكبرى ص 24 ( دار الكتب العلمية , بيروت ,لبنان , الطبعة الأولى 2001 م) .

(6) ابن عباد : المفاخر العلية ص 14 ( مطبعة الحسين الإسلامية) .

 (7) سورة البقرة , آية : 30.

 (8) ابن عطاء الله السكندرى : لطائف المنن ص 56 ( دار الحسين الإسلامية , تحقيق : د حسن جبر شقير , القاهرة) .

 (9) الشيخ عبد المقصود محمد سالم : راحة الأرواح ص 13 ( الطبعة الثامنة , الشمرلى للطباعة) .

 (10) الشيخ محمد زكى إبراهيم : البداية ص 211 ( طبعة دار نوبار للطباعة , الطبعة السادسة 1998م).

 (11) ابن عطاء الله السكندرى : لطائف المنن ص 77 ( دار الحسين الإسلامية , تحقيق : د حسن جبر شقير , القاهرة)

(12) ابن عجيبة : إيقاظ الهمم فى شرح الحكم ص 317 ( الطبعة الثالثة , 1982م, مطبعة مصطفى البابى الحلبى , القاهرة) .

 (13) ابن عباد : غيث المواهب العلية فى شرح الحكم العطائية ج1 ص 110 ( طبعة دار المعارف , تحقيق : د عبد الحليم محمود , د محمود بن الشريف) .


التقييم الحالي
بناء على 80 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث