نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - تأثره بمدارس الزهد الأولى

لقد نشأ الطريق الصوفى فى الإسلام أول ما نشأ فى ربوع الزهد الإسلامى ومدارسه المتنوعة التى انتشرت إبان القرنين الأول والثاني الهجريين في كثير من بلاد الإسلام ، كمدرسة المدينة ، ومدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة ، ومدرسة مصر، وفيما يلى نبذة مختصرة عن هذه المدارس:

(أ) مدرسة المدينة:

ففي المدينة ظهر زهاد كثيرون منذ وقت مبكر تمسكوا بالقرآن والسنة، وجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلمقدوتهم في زهدهم، وظلوا كذلك حتى بعد انتقال الخلافة من المدينة إلى دمشق ، وقاوم بعضهم كل أثر كان يأتيهم من قِبَلِ بني أمية، سياسيًّا كان أو غير سياسي، ومن هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح المتوفى سنة 18هـ، وأبو ذر الغفاري المتوفى سنة 22هـ، وسلمان الفارسي المتوفى سنة 32هـ، وعبد الله بن مسعود المتوفى سنة 33هـ، وحذيفة بن اليمان المتوفى سنة 36هـ، من الصحابة، وسعد بن المسيب المتوفى سنة 91هـ، وسالم بن عبد الله المتوفى سنة 106هـ، من التابعين.

وقد ترجم الشعراني لبعضهم، وأورد أقوالًا لهم في الزهد نتبين منها أنهم كانوا يتقللون في أكلهم ومشربهم، وتسيطر عليهم رغبة النجاة في الآخرة، وضرورة العمل الجاد من أجلها. فمن ذلك ما ينقله الشعراني عن أبي ذر من قوله: «لو أن صاحب المنزل –الله- يدعنا فيه -في الدنيا- لملأناه أمتعة، ولكنه يريد نقلتنا منه». وكان يظل نهاره يتفكر فيما هو صائر إليه، ويرى تحريم إدخال ما زاد على نفقة اليوم، وكان إذا دخل إنسان إلى بيته لا يجد فيه شيئًا من أمتعة الدنيا. ويروي الشعراني –أيضًا- أن حذيفة بن اليمان كان يقول: «ليس خيركم الذين يتركون الدنيا للآخرة، ولكن خيركم الذين يتناولون من كل منهما». وكان كثير البكاء في صلاته.

ومن أقوال أبي عبيدة الجراح: «ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه، ألا رب مكرم نفسه وهو لها مهين، فبادروا -رحمكم الله- السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته حتى تغيرهن».

ويشير أبو عبيدة هنا إلى ضرورة طهارة باطن العبد، والتوبة من السيئات، وهو يفتح باب الرجاء في الله حين يذكر أن حسنة واحدة تعلو فوق جميع السئيات.

ومما يروى عن عبد الله بن مسعود قوله: «حبذا المكروهان: الموت، والفقر». وقوله: «ما أصبحت قط على حالة فتمنيت أن أكون على سواها».

وكان يقول لأصحابه: «أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة».

ومن تابعي المدينة المشهورين بالزهد سعيد بن المسيب المتوفى سنة 91هـ، والذى وصف بأنه كان سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث، والفقه، والزهد، والعبادة، والورع.  ومما يروى عن زهده في المال أنه عرض عليه نيف وثلاثون ألفًا ليأخذها، فقال: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم. وكان يصف بني أمية بالظلم، ولم يبايع عبد الملك بن مروان، فضرب خمسون سوطًا، وطافوا به أسواق المدينة.

وكان سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد المشهورين بالزهد في المدينة –أيضًا-، وكان معاصرًا لسعيد بن المسيب،ومما يذكر عنه أنه كان متقللًا في مأكله، فقال عن نفسه: «دخلت على الوليد بن عبد الملك، فقال: ما أحسن جسمك! فما طعامك؟ قلت: الكعك والزيت. قال: وتشتهيه؟ قلت: أدعه حتى أشتهيه فإذا اشتهيته، أكلته». وكان يلبس الصوف، ويعمل بيديه. ويذكر أن سليمان بن عبد الملك دخل الكعبة فرأى سالمًا فقال له: سلني حوائجك. فقال: والله لا أسأل في بيت الله غير الله.

من هذا يتبين أن مدرسة المدينة كانت تنحو منحًا سلفيًّا، وتتمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلممن زهد وورع، ولم تفتنها التغيرات الاجتماعية في العصر الأموي، ولا غيرت من مبادئها تحت إرهاب حكام بني أمية. وزهدها بذلك إسلامي خالص يلتزم بتعاليم الإسلام.

(ب) مدرسة البصرة:

يرى ماسينيون أن العرب الذين استوطنوا البصرة كانوا من بني تميم، وكانوا مفطورين على النقد لا يؤمنون إلا بالواقع، كلفوا بالمنطق في النحو، والواقع في الشعر، والنقد في الحديث، وكانوا على مذهب أهل السنة مع جنوح إلى المعتزلة والقدرية، وكان شيوخهم في الزهد: الحسن البصري، ومالك بن دينار، وفضل الرقاشي، ورباح بن عمرو القيسي، وصالح المري، وعبد الواحد بن يزيد صاحب طائفة الزهاد في عبادان.

وأبرز أولئك في الزهد هو الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ، وهو الحسن بن أبي الحسن أبو سعيد، ولد في المدينة سنة 21هـ، وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. ونشأ نشأة صالحة، وتفقه في الدين، وأخذ عن بعض الصحابة. وتروي بعض الروايات أن الإمام عليًّا قد شهد له بالعلم وأعجب به.

وقد وصف خالد بن صفوان الحسن البصري فقال عنه: «كان أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية، وآخَذَ الناسِ لنفسه بما يَأْمُرُ به غيره. ياله من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما يديه من دينهم!».

وكان الحسن البصري لجانب علمه بالدين معروفًا بالزهد والورع، وكان لابد في رأيه من اقتران العلم بالزهد. فيروي عنه الطوسي في (اللمع): «قيل للحسن -رحمه الله-: أكثر الناس علم الآداب، فما أنفعهاعاجلًا، وأوصلها آجلًا؟ قال: التفقه في الدين. فإنه يصرف إليه قلوب المتعلمين، والزهد في الدنيا يقرب من رب العالمين، والمعرفة بما لله عليك يحويها كمال الإيمان».

ومن أقواله في الزهد: «الدنيا دار عمل من صحبها بالبغض لها والزهد فيها سعد بها، ونفعته صحبتها، ومن صحبها برغبة ومحبة، شَقِيَ بها، وأسلمته إلا ما لا صبر عليه».

وكان زهد الحسن البصري قائمًا على أساس الخوف من الله، ولذلك يقول عنه الشعراني في (الطبقات) ما نصه: «وكان قد غلب عليه الخوف حتى كأن النار لم تخلق إلا له وحده».

ومن أقواله في الحزن: «يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه».

ويظهر أن الحسن البصري كان متبعًا في زهده هذا بعض الصحابة، على نحو ما يدل عليه: «أدركنا أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم». وهو يقصد بالأقوام من أدركهم من الصحابة.

وكان الحسن البصري بالإضافة إلى ما تقدم يوصي بلزوم رياضة الذكر من أجل تطهير النفس، فقد قال له رجل: أشكو إليك قساوة قلبي، فقال: «ادن من مجالس الذكر».

يتبين مما تقدم أن زهد الحسن البصري كان قائمًا على أساس الخوف من الله، والحزن والتفطر من أجل الوصول إلى الظفر برضا الله تعالى وجنته في الآخرة.

ومن أبرز زهاد البصرة كذلك مالك بن دينار المتوفى سنة 131هـ، والذي وصفه بأنه كان عالمًا زاهدًا كثير الورع، قنوعًا لا يأكل إلا من كسبه، وكان يكتب المصاحف بالأجرة.

ومما ينسب إلى مالك بن دينار قوله: «من وافقني على التقلل فهو معي، وإلا فالفراق». وكان يقول في دعائه: «اللهم لا تدخل بيت مالك بن دينار شيئًا».

وذكر الشعراني –أيضًا- أنه كان يتقوت من عمل الخوص، وكان بيته خاليًا ليس فيه غير مصحف، وإبريق، وحصير.

ومما ينسب إليه قوله: «إذا تعلم العبد العلم ليعمل به كثر علمه، وإذا تعلمه لغير العمل، فجورًا وتكبرًا واحتقارًا للعامة». وفيه إشارة إلى ضرورة الارتباط بين العلم والعمل، وأن العلم بلا عمل ربما أدى إلى الاستعلاء على الغير، وأن العمل يدفع العلم نفسه إلى آفاق جديدة، فيكثر العلم وينمو.

ومن المعروفين بالزهد في البصرة أيضًا صالح المري الذي كان كثير البكاء كأن مفاصله تتقطع، وكان يمكث مبهوتًا إذا رأى المقبرة اليومين والثلاثة لا يعقل ولا يتكلم، ولا يأكل ولا يشرب.

ومنهم أيضا: رباح بن عمر القيسي المتوفى سنة 150هـ، الذي كان يقول: «إنما الدنيا أيام قلائل، لي نيف وأربعون ذنبًا قد استغفرت الله -عز وجل- عن كل ذنب مائة ألف مرة، وما ثم إلا عفوه ومغفرته». وكان يقول –أيضًا-: «كما لا تنظر الأبصار الضعيفة إلى شعاع الشمس، كذلك لا تنظر قلوب محبي الدنيا إلى نور الحكمة».

ومنهم –أيضًا- عبد الواحد بن زيد المتوفى سنة 177هـ، والذى كان يقول: «يا إخواتاه، ألا تبكون شوقًا إلى الله -عز وجل-؟! ألا إنه من بكى شوقًا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه. يا إخوتاه، ألا تبكون خوفًا من النار؟! ألا إنه من بكى خوفًا من النار أعاذه الله منها. يا إخوتاه، ألا تبكون؟! بلى، فَابْكُوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله أن يُسْقِيكُمُوهُ في حظائر القدس مع خير الندماء والأصحاب من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا».

ولعله قد تبين من أقوال بعض زهاد البصرة أنها كانت تدور حول معنى الخوف من عذاب الآخرة، وهو الخوف الذي يستتبع العمل الديني الجاد، والانصراف عن ملذات الدنيا بالتقلل في المأكل والمشرب، وغير ذلك مما لا يخرج عن حدود زهد النبي صلى الله عليه وسلموصحابته؛ ولذلك فنحن لا نرى في أقوالهم ما يدل على تأثرهم أى تأثر بثقافة الهند في الناحية العملية المتمثلة في تعذيب البدن بالصوم ونحوه؛ لتطهير النفس، والتخلص من آفاتها، والصعود بها إلى عالمها العلوي، كما ذهب إليه الدكتور أبو العلا عفيفي، فإن الصوم وتطهير النفس من آفاتها من الأمور التي دعا إليها الإسلام.

وكل ما نلاحظه على زهاد البصرة هو شيء من المبالغة في الزهد والخوف.

(جـ) مدرسة الكوفة:

وأما مدرسة الكوفة فكان أهل الكوفة كما يقول ماسينيون من أصل يمني، وتنزع نزعة مثالية بطبيعتها، ويستهويها الشواذ في النحو، والخيال في الشعر، والظاهر في الحديث، وكان من أهل الكوفة من هم ذوي نزعة للإرجاء في العقائد، كما لا ننسى أن التشيع ظهر في الكوفة أول ما ظهر. ولكن بالإضافة إلى ذلك كان لأهل السنة تواجدا قويا ومؤثرا على الساحة العلمية والدينية فى الكوفة.

وقد ظهر من شيوخ الزهد من أهل السنة في القرن الأول الهحري بالكوفة الربيع بن خثيم المتوفى عام 67 هـ في عهد معاوية. وذكر له الشعراني أقوالًافي الزهد منها قوله: «كن وصي نفسك يا أخي، وإلا هلكت»، وقوله: «كُلُّ ما لا يبتغى به رحمة الله يضمحل»، وقوله: «أنا أحب أن أخذ لنفسي من المهنة». وكان يغلب عليه الخوف من الآخرة، فيذكر الشعراني أنه كان إذا وجد غفلة من الناس يخرج إلى المقابر ويقول: «يا أهل المقابر، كنا وكنتم»، ثم يُحْيَّ الليل كله، فإذا أصبح كان كأنه نشر من قبره.

ومن زهاد هذه المدرسة سعيد بن جبير الذي مات مقتولًا بواسط سنة 95هـ، وهو من التابعين، وقد قتله الحجاج، وفيه قال أحمد بن حنبل: «قَتَلَ الحَجَّاجُ سَعِيدَ بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه». وأرود ابن خلكان حوارًا له مع الحجاج يتبين منه زهده، وورعه، وجرأته في مواجهة الظلمة من الحكام.

ومنهم طاووس بن كيسان المتوفى سنة 106هـ، وهو من التابعين أيضًا، وكان  فقيهًا جليل القدر، نبيه الذكر، وكان محبوبًا من أهل البيت، ووعظ عمر بن عبد العزيز، وعرف له مالك بن أنس فضله، ومن أقواله: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أَشْرَكَهُ الله تعالى في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه».

ومن أبرز زهاد الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة 161هـ، وقد أجمع  الناس على دينه، وورعه، وزهده، وتقشفه، وثقته، ويذكر أن الجنيد كان على مذهبه في الفقه، وأراد المهدي توليته القضاء فهرب منه زهدًا وتورعًا.

ويذكر من زهاد الكوفة –أيضًا- سفيان بن عيينة، وكان إمامًا، عالمًا، ثبتًا، زاهدًا، ورعًا، وتوفي بمكة سنة 198هـ، ومن أقواله: «خصلتان يعسر علاجهما: ترك الطمع فيما أيدي الناس، وإخلاص العمل لله».

ويتحدث الدكتور أبو العلا عفيفي عن أثر الثقافات الأجنبية على زهاد الكوفة، فيرى أنهم تأثروا بالثقافات الآرمية التي كانت امتدادًا للفكر الفلسفي الشرقي الذي تَكَوَّنَ خلال القرون الميلادية الأولى، مستمدًّا مادته من الفكر اليوناني والفارسي، أي أنه كان مزيجًا من الفلسفة الأرسطية، والطب، والكيمياء، والميتافيزيقا الفارسية.

ولكن هذا الأثر -في رأينا وخلافا للدكتور عفيفى - لا يلاحظ في أقوال من ذكرنا من زهاد الكوفة في القرنين الأول والثاني الهجريين، وربما يمكن التماسه عند جابر بن حيان الكوفي المعروف بــ: (الصوفي)، وزهده أقرب إلى زهد الفلاسفة، وله مصنفات في  المنطق، والفلسفة، والكيمياء. ويعده ماسينيون من مدرسة الزهد في الكوفة، ولكنه فيما يبدو لنا صاحب زهد مستقل مختلف في الطابع عن زهد من ذكرناهم من زهاد هذه المدرسة.

(د) مدرسة مصر:

وهناك مدرسة أخرى للزهد في القرنين الأول والثاني الهجريين أغفلها المستشرقون، وهي فيما يبدو لنا إلى الآن سلفية الاتجاه كمدرسة المدينة. وقد دخل مصر منذ الفتح الإسلامي عدد من الصحابة، كعمرو بن العاص، وابنه عبد الله الذي كان معروفًا بالزهد، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وقد ذكر السيوطي في (حسن المحاضرة) شيئًا من أخبارهم.

ويذكر من زهاد مصر في القرن الأول الهجري سليم بن عتر التجيبي، وقد حكى عنه الكندي في كتاب (والولاة والقضاة) أنه كان كثير العبادة، وتلاوة القرآن، وأنه كان يصدق فيه قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِمَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17]. وقد وُلِّيَ القضاء بمصر، وتُوُفِّيَ سنة 75هـ بدمياط.

ومنهم عبد الرحمن بن حجيرة والذي وُلِّيَ القضاء بمصر سنة69هـ، وتوفي سنة 83هـ. وكان زاهدًا في الدنيا، عابدًا ناسكًا، وعَرَفَ له ابن عباس علمه، فقد روى ابن المغيرة: «أن رجلًا سألابن عباس عن مسألة، فقال: تسألني وفيكم ابن حجيرة!».

وكان دَخْلُ ابن حجيرة ألف دينار في السنة، فلا يحول عليها الحول وعنده شيء، يفضل على أهله وإخوانه. وهذا يدل على زهده. ومن أقواله: «إن القاضي إذا قضى بالهوى، احتجب الله -عز وجل- منه واستتر».

ومن الزهاد والذين أقيموا بمصر فترة طويلة نافع مولى عبد الله بن عمر، وهو من كبار التابعين، توفى سنة 117هـ وقيل 120هـ. وقد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلم السنن، فأقام بها زاهدًا ناسكًا.

ولعل أبرز زهاد مصر في القرن الثاني الهجري الإمام الليث بن سعد، وهو شخصية جديرة بالدراسة، وكان مشهورًا بالزهد والتنسك، وهو مصري، ولد بـ: (قلقشندة) إحدى قرى الوجه البحري سنة 94هـ، وتوفى بمصر سنة 175هـ، ومع زهده كان ثريًّا، سخيًّا ، وفقيهًا مشهورًا صاحب مذهب.

ومنهم أيضًا: حياة ابن شريح الفقيه المصري، المتوفى سنة 158هـ، وذكر عنه أنه لزهده كان يأخذ عطاءه وقدره ستون دينارًا ويتصدق به.

ومنهم : أبو عبد الله بن وهب بن مسلم المصري المتوفى سنة 197هـ بمصر، وكان كما وصفه ابن خلكان أحد أئمة عصره، وقد صحب مالك بن أنس، وكان دائم الخوف من الله.

والواقع أن حركة الزهد في مصر في القرنين الأول والثاني الهجريينلمتدرس بعد دراسة كافية، ونرجو أن تتاح الفرصة لدراسة أكثر تعمقًا وشمولًا لها، تربطها بما تَلَاهَا من حركة التصوف المصري في القرن الثالث الهجري وما بعدها، وهي الحركة التي كان على رأسها ذو النون المصري المتوفى سنة 245هـ.

المرجع : - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 83 - 95).

---------------------

 

لقد نشأ الطريق الصوفى فى الإسلام أول ما نشأ فى ربوع الزهد الإسلامى ومدارسه المتنوعة التى انتشرت إبان القرنين الأول والثاني الهجريين في كثير من بلاد الإسلام ، كمدرسة المدينة ، ومدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة ، ومدرسة مصر، وفيما يلى نبذة مختصرة عن هذه المدارس:

(أ) مدرسة المدينة:

ففي المدينة ظهر زهاد كثيرون منذ وقت مبكر تمسكوا بالقرآن والسنة، وجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلمقدوتهم في زهدهم، وظلوا كذلك حتى بعد انتقال الخلافة من المدينة إلى دمشق ، وقاوم بعضهم كل أثر كان يأتيهم من قِبَلِ بني أمية، سياسيًّا كان أو غير سياسي، ومن هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح المتوفى سنة 18هـ، وأبو ذر الغفاري المتوفى سنة 22هـ، وسلمان الفارسي المتوفى سنة 32هـ، وعبد الله بن مسعود المتوفى سنة 33هـ، وحذيفة بن اليمان المتوفى سنة 36هـ، من الصحابة، وسعد بن المسيب المتوفى سنة 91هـ، وسالم بن عبد الله المتوفى سنة 106هـ، من التابعين.

وقد ترجم الشعراني لبعضهم، وأورد أقوالًا لهم في الزهد نتبين منها أنهم كانوا يتقللون في أكلهم ومشربهم، وتسيطر عليهم رغبة النجاة في الآخرة، وضرورة العمل الجاد من أجلها. فمن ذلك ما ينقله الشعراني عن أبي ذر من قوله: «لو أن صاحب المنزل –الله- يدعنا فيه -في الدنيا- لملأناه أمتعة، ولكنه يريد نقلتنا منه». وكان يظل نهاره يتفكر فيما هو صائر إليه، ويرى تحريم إدخال ما زاد على نفقة اليوم، وكان إذا دخل إنسان إلى بيته لا يجد فيه شيئًا من أمتعة الدنيا. ويروي الشعراني –أيضًا- أن حذيفة بن اليمان كان يقول: «ليس خيركم الذين يتركون الدنيا للآخرة، ولكن خيركم الذين يتناولون من كل منهما». وكان كثير البكاء في صلاته.

ومن أقوال أبي عبيدة الجراح: «ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه، ألا رب مكرم نفسه وهو لها مهين، فبادروا -رحمكم الله- السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء، ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته حتى تغيرهن».

ويشير أبو عبيدة هنا إلى ضرورة طهارة باطن العبد، والتوبة من السيئات، وهو يفتح باب الرجاء في الله حين يذكر أن حسنة واحدة تعلو فوق جميع السئيات.

ومما يروى عن عبد الله بن مسعود قوله: «حبذا المكروهان: الموت، والفقر». وقوله: «ما أصبحت قط على حالة فتمنيت أن أكون على سواها».

وكان يقول لأصحابه: «أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة».

ومن تابعي المدينة المشهورين بالزهد سعيد بن المسيب المتوفى سنة 91هـ، والذى وصف بأنه كان سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث، والفقه، والزهد، والعبادة، والورع.  ومما يروى عن زهده في المال أنه عرض عليه نيف وثلاثون ألفًا ليأخذها، فقال: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم. وكان يصف بني أمية بالظلم، ولم يبايع عبد الملك بن مروان، فضرب خمسون سوطًا، وطافوا به أسواق المدينة.

وكان سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد المشهورين بالزهد في المدينة –أيضًا-، وكان معاصرًا لسعيد بن المسيب،ومما يذكر عنه أنه كان متقللًا في مأكله، فقال عن نفسه: «دخلت على الوليد بن عبد الملك، فقال: ما أحسن جسمك! فما طعامك؟ قلت: الكعك والزيت. قال: وتشتهيه؟ قلت: أدعه حتى أشتهيه فإذا اشتهيته، أكلته». وكان يلبس الصوف، ويعمل بيديه. ويذكر أن سليمان بن عبد الملك دخل الكعبة فرأى سالمًا فقال له: سلني حوائجك. فقال: والله لا أسأل في بيت الله غير الله.

من هذا يتبين أن مدرسة المدينة كانت تنحو منحًا سلفيًّا، وتتمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلممن زهد وورع، ولم تفتنها التغيرات الاجتماعية في العصر الأموي، ولا غيرت من مبادئها تحت إرهاب حكام بني أمية. وزهدها بذلك إسلامي خالص يلتزم بتعاليم الإسلام.

(ب) مدرسة البصرة:

يرى ماسينيون أن العرب الذين استوطنوا البصرة كانوا من بني تميم، وكانوا مفطورين على النقد لا يؤمنون إلا بالواقع، كلفوا بالمنطق في النحو، والواقع في الشعر، والنقد في الحديث، وكانوا على مذهب أهل السنة مع جنوح إلى المعتزلة والقدرية، وكان شيوخهم في الزهد: الحسن البصري، ومالك بن دينار، وفضل الرقاشي، ورباح بن عمرو القيسي، وصالح المري، وعبد الواحد بن يزيد صاحب طائفة الزهاد في عبادان.

وأبرز أولئك في الزهد هو الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ، وهو الحسن بن أبي الحسن أبو سعيد، ولد في المدينة سنة 21هـ، وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. ونشأ نشأة صالحة، وتفقه في الدين، وأخذ عن بعض الصحابة. وتروي بعض الروايات أن الإمام عليًّا قد شهد له بالعلم وأعجب به.

وقد وصف خالد بن صفوان الحسن البصري فقال عنه: «كان أشبه الناس علانية بسريرة، وسريرة بعلانية، وآخَذَ الناسِ لنفسه بما يَأْمُرُ به غيره. ياله من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما يديه من دينهم!».

وكان الحسن البصري لجانب علمه بالدين معروفًا بالزهد والورع، وكان لابد في رأيه من اقتران العلم بالزهد. فيروي عنه الطوسي في (اللمع): «قيل للحسن -رحمه الله-: أكثر الناس علم الآداب، فما أنفعهاعاجلًا، وأوصلها آجلًا؟ قال: التفقه في الدين. فإنه يصرف إليه قلوب المتعلمين، والزهد في الدنيا يقرب من رب العالمين، والمعرفة بما لله عليك يحويها كمال الإيمان».

ومن أقواله في الزهد: «الدنيا دار عمل من صحبها بالبغض لها والزهد فيها سعد بها، ونفعته صحبتها، ومن صحبها برغبة ومحبة، شَقِيَ بها، وأسلمته إلا ما لا صبر عليه».

وكان زهد الحسن البصري قائمًا على أساس الخوف من الله، ولذلك يقول عنه الشعراني في (الطبقات) ما نصه: «وكان قد غلب عليه الخوف حتى كأن النار لم تخلق إلا له وحده».

ومن أقواله في الحزن: «يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه».

ويظهر أن الحسن البصري كان متبعًا في زهده هذا بعض الصحابة، على نحو ما يدل عليه: «أدركنا أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم». وهو يقصد بالأقوام من أدركهم من الصحابة.

وكان الحسن البصري بالإضافة إلى ما تقدم يوصي بلزوم رياضة الذكر من أجل تطهير النفس، فقد قال له رجل: أشكو إليك قساوة قلبي، فقال: «ادن من مجالس الذكر».

يتبين مما تقدم أن زهد الحسن البصري كان قائمًا على أساس الخوف من الله، والحزن والتفطر من أجل الوصول إلى الظفر برضا الله تعالى وجنته في الآخرة.

ومن أبرز زهاد البصرة كذلك مالك بن دينار المتوفى سنة 131هـ، والذي وصفه بأنه كان عالمًا زاهدًا كثير الورع، قنوعًا لا يأكل إلا من كسبه، وكان يكتب المصاحف بالأجرة.

ومما ينسب إلى مالك بن دينار قوله: «من وافقني على التقلل فهو معي، وإلا فالفراق». وكان يقول في دعائه: «اللهم لا تدخل بيت مالك بن دينار شيئًا».

وذكر الشعراني –أيضًا- أنه كان يتقوت من عمل الخوص، وكان بيته خاليًا ليس فيه غير مصحف، وإبريق، وحصير.

ومما ينسب إليه قوله: «إذا تعلم العبد العلم ليعمل به كثر علمه، وإذا تعلمه لغير العمل، فجورًا وتكبرًا واحتقارًا للعامة». وفيه إشارة إلى ضرورة الارتباط بين العلم والعمل، وأن العلم بلا عمل ربما أدى إلى الاستعلاء على الغير، وأن العمل يدفع العلم نفسه إلى آفاق جديدة، فيكثر العلم وينمو.

ومن المعروفين بالزهد في البصرة أيضًا صالح المري الذي كان كثير البكاء كأن مفاصله تتقطع، وكان يمكث مبهوتًا إذا رأى المقبرة اليومين والثلاثة لا يعقل ولا يتكلم، ولا يأكل ولا يشرب.

ومنهم أيضا: رباح بن عمر القيسي المتوفى سنة 150هـ، الذي كان يقول: «إنما الدنيا أيام قلائل، لي نيف وأربعون ذنبًا قد استغفرت الله -عز وجل- عن كل ذنب مائة ألف مرة، وما ثم إلا عفوه ومغفرته». وكان يقول –أيضًا-: «كما لا تنظر الأبصار الضعيفة إلى شعاع الشمس، كذلك لا تنظر قلوب محبي الدنيا إلى نور الحكمة».

ومنهم –أيضًا- عبد الواحد بن زيد المتوفى سنة 177هـ، والذى كان يقول: «يا إخواتاه، ألا تبكون شوقًا إلى الله -عز وجل-؟! ألا إنه من بكى شوقًا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه. يا إخوتاه، ألا تبكون خوفًا من النار؟! ألا إنه من بكى خوفًا من النار أعاذه الله منها. يا إخوتاه، ألا تبكون؟! بلى، فَابْكُوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله أن يُسْقِيكُمُوهُ في حظائر القدس مع خير الندماء والأصحاب من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا».

ولعله قد تبين من أقوال بعض زهاد البصرة أنها كانت تدور حول معنى الخوف من عذاب الآخرة، وهو الخوف الذي يستتبع العمل الديني الجاد، والانصراف عن ملذات الدنيا بالتقلل في المأكل والمشرب، وغير ذلك مما لا يخرج عن حدود زهد النبي صلى الله عليه وسلموصحابته؛ ولذلك فنحن لا نرى في أقوالهم ما يدل على تأثرهم أى تأثر بثقافة الهند في الناحية العملية المتمثلة في تعذيب البدن بالصوم ونحوه؛ لتطهير النفس، والتخلص من آفاتها، والصعود بها إلى عالمها العلوي، كما ذهب إليه الدكتور أبو العلا عفيفي، فإن الصوم وتطهير النفس من آفاتها من الأمور التي دعا إليها الإسلام.

وكل ما نلاحظه على زهاد البصرة هو شيء من المبالغة في الزهد والخوف.

(جـ) مدرسة الكوفة:

وأما مدرسة الكوفة فكان أهل الكوفة كما يقول ماسينيون من أصل يمني، وتنزع نزعة مثالية بطبيعتها، ويستهويها الشواذ في النحو، والخيال في الشعر، والظاهر في الحديث، وكان من أهل الكوفة من هم ذوي نزعة للإرجاء في العقائد، كما لا ننسى أن التشيع ظهر في الكوفة أول ما ظهر. ولكن بالإضافة إلى ذلك كان لأهل السنة تواجدا قويا ومؤثرا على الساحة العلمية والدينية فى الكوفة.

وقد ظهر من شيوخ الزهد من أهل السنة في القرن الأول الهحري بالكوفة الربيع بن خثيم المتوفى عام 67 هـ في عهد معاوية. وذكر له الشعراني أقوالًافي الزهد منها قوله: «كن وصي نفسك يا أخي، وإلا هلكت»، وقوله: «كُلُّ ما لا يبتغى به رحمة الله يضمحل»، وقوله: «أنا أحب أن أخذ لنفسي من المهنة». وكان يغلب عليه الخوف من الآخرة، فيذكر الشعراني أنه كان إذا وجد غفلة من الناس يخرج إلى المقابر ويقول: «يا أهل المقابر، كنا وكنتم»، ثم يُحْيَّ الليل كله، فإذا أصبح كان كأنه نشر من قبره.

ومن زهاد هذه المدرسة سعيد بن جبير الذي مات مقتولًا بواسط سنة 95هـ، وهو من التابعين، وقد قتله الحجاج، وفيه قال أحمد بن حنبل: «قَتَلَ الحَجَّاجُ سَعِيدَ بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه». وأرود ابن خلكان حوارًا له مع الحجاج يتبين منه زهده، وورعه، وجرأته في مواجهة الظلمة من الحكام.

ومنهم طاووس بن كيسان المتوفى سنة 106هـ، وهو من التابعين أيضًا، وكان  فقيهًا جليل القدر، نبيه الذكر، وكان محبوبًا من أهل البيت، ووعظ عمر بن عبد العزيز، وعرف له مالك بن أنس فضله، ومن أقواله: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أَشْرَكَهُ الله تعالى في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه».

ومن أبرز زهاد الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة 161هـ، وقد أجمع  الناس على دينه، وورعه، وزهده، وتقشفه، وثقته، ويذكر أن الجنيد كان على مذهبه في الفقه، وأراد المهدي توليته القضاء فهرب منه زهدًا وتورعًا.

ويذكر من زهاد الكوفة –أيضًا- سفيان بن عيينة، وكان إمامًا، عالمًا، ثبتًا، زاهدًا، ورعًا، وتوفي بمكة سنة 198هـ، ومن أقواله: «خصلتان يعسر علاجهما: ترك الطمع فيما أيدي الناس، وإخلاص العمل لله».

ويتحدث الدكتور أبو العلا عفيفي عن أثر الثقافات الأجنبية على زهاد الكوفة، فيرى أنهم تأثروا بالثقافات الآرمية التي كانت امتدادًا للفكر الفلسفي الشرقي الذي تَكَوَّنَ خلال القرون الميلادية الأولى، مستمدًّا مادته من الفكر اليوناني والفارسي، أي أنه كان مزيجًا من الفلسفة الأرسطية، والطب، والكيمياء، والميتافيزيقا الفارسية.

ولكن هذا الأثر -في رأينا وخلافا للدكتور عفيفى - لا يلاحظ في أقوال من ذكرنا من زهاد الكوفة في القرنين الأول والثاني الهجريين، وربما يمكن التماسه عند جابر بن حيان الكوفي المعروف بــ: (الصوفي)، وزهده أقرب إلى زهد الفلاسفة، وله مصنفات في  المنطق، والفلسفة، والكيمياء. ويعده ماسينيون من مدرسة الزهد في الكوفة، ولكنه فيما يبدو لنا صاحب زهد مستقل مختلف في الطابع عن زهد من ذكرناهم من زهاد هذه المدرسة.

(د) مدرسة مصر:

وهناك مدرسة أخرى للزهد في القرنين الأول والثاني الهجريين أغفلها المستشرقون، وهي فيما يبدو لنا إلى الآن سلفية الاتجاه كمدرسة المدينة. وقد دخل مصر منذ الفتح الإسلامي عدد من الصحابة، كعمرو بن العاص، وابنه عبد الله الذي كان معروفًا بالزهد، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وقد ذكر السيوطي في (حسن المحاضرة) شيئًا من أخبارهم.

ويذكر من زهاد مصر في القرن الأول الهجري سليم بن عتر التجيبي، وقد حكى عنه الكندي في كتاب (والولاة والقضاة) أنه كان كثير العبادة، وتلاوة القرآن، وأنه كان يصدق فيه قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِمَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17]. وقد وُلِّيَ القضاء بمصر، وتُوُفِّيَ سنة 75هـ بدمياط.

ومنهم عبد الرحمن بن حجيرة والذي وُلِّيَ القضاء بمصر سنة69هـ، وتوفي سنة 83هـ. وكان زاهدًا في الدنيا، عابدًا ناسكًا، وعَرَفَ له ابن عباس علمه، فقد روى ابن المغيرة: «أن رجلًا سألابن عباس عن مسألة، فقال: تسألني وفيكم ابن حجيرة!».

وكان دَخْلُ ابن حجيرة ألف دينار في السنة، فلا يحول عليها الحول وعنده شيء، يفضل على أهله وإخوانه. وهذا يدل على زهده. ومن أقواله: «إن القاضي إذا قضى بالهوى، احتجب الله -عز وجل- منه واستتر».

ومن الزهاد والذين أقيموا بمصر فترة طويلة نافع مولى عبد الله بن عمر، وهو من كبار التابعين، توفى سنة 117هـ وقيل 120هـ. وقد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر يعلم السنن، فأقام بها زاهدًا ناسكًا.

ولعل أبرز زهاد مصر في القرن الثاني الهجري الإمام الليث بن سعد، وهو شخصية جديرة بالدراسة، وكان مشهورًا بالزهد والتنسك، وهو مصري، ولد بـ: (قلقشندة) إحدى قرى الوجه البحري سنة 94هـ، وتوفى بمصر سنة 175هـ، ومع زهده كان ثريًّا، سخيًّا ، وفقيهًا مشهورًا صاحب مذهب.

ومنهم أيضًا: حياة ابن شريح الفقيه المصري، المتوفى سنة 158هـ، وذكر عنه أنه لزهده كان يأخذ عطاءه وقدره ستون دينارًا ويتصدق به.

ومنهم : أبو عبد الله بن وهب بن مسلم المصري المتوفى سنة 197هـ بمصر، وكان كما وصفه ابن خلكان أحد أئمة عصره، وقد صحب مالك بن أنس، وكان دائم الخوف من الله.

والواقع أن حركة الزهد في مصر في القرنين الأول والثاني الهجريينلمتدرس بعد دراسة كافية، ونرجو أن تتاح الفرصة لدراسة أكثر تعمقًا وشمولًا لها، تربطها بما تَلَاهَا من حركة التصوف المصري في القرن الثالث الهجري وما بعدها، وهي الحركة التي كان على رأسها ذو النون المصري المتوفى سنة 245هـ.

المرجع : - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 83 - 95).


التقييم الحالي
بناء على 51 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث