نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - الفتوة

إن الفتوة لدى الصوفية هدفٌ نبيل من أهداف التصوف، ويستحق أن نفرد له حديثًا خاصًّا.

فهناك نوع من الفُتوة صُبِغَ بصِبغة صوفية، تلتقي فيه الصبغات الإسلامية الكريمة بتعاليم الصوفية.

كان أول ظهور هذا النظام من الفتوة، في دائرة الحسن البصري رحمه الله تعالى، الذي أُطلق عليه (سيد الفتيان)، وكان من أوائل الذين مهَّدوا للتصوف الإسلامي.

لكن هذه الحركة لم تكتمل إلا حين اشتد عود التصوف، وكملت تعاليمه، وظهر أعلامه؛ فهنا نرى مزجًا عجيبًا بين الفتوة ومبادئ التصوف.

وأخذ الصوفية من تعاليم الفتوة الإسلامية(1)أهم ميزاتها، وهو «الإيثار» وأضافوا إليها صفات أخرى متصلة بها، مثل كف الأذى، وبذل الندى، وترك الشكوى، وإسقاط الجاه، ومحاربة النفس، والعفو عن زلات الآخرين.

يقول أبو بكر الأهوازي موضحًا معنى الفتوة لدى الصوفية: «إن أصل الفتوة ألا ترى لنفسك فضلًا واحدًا».

ويقول القشيري في الفصل الذي عقده عن الفتوة: «أصل الفتوة أن يكون العبد أبدًا في أمر غيره»(2).

وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء:60]: إن الفتوة هنا هي كسر الصنم الوارد في القصة، وصنم كل إنسان نفسه؛ فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة(3).

والمقصود هنا ليس تأويل الصنم بالنفس؛ وإلا لتساوى الصوفية بالباطنية، ولكن مقصودهم هنا التنبيه على أن الإنسان إن اتبع هواه وغلبته نفسه، صارت له كالصنم ، وهم فى ذلك يفهمون قصة إبراهيم فى ضوء قوله تعالى {أرأيت من اتخذ إلهه هواه}، وكل إله اتخذ غير الله تعالى ينبغى أن يكسر كما كسر إبراهيم الأصنام، ومن خالف هواه فقد كسر صنم نفسه.

وبذلك حاول الصوفية أن يتوسعوا في معنى الفتوة، وحمَّلوها أكثر مما تحتمل بهذه الصورة.

والتصوف الإسلامي قد أخذ من الفتوة الإسلامية أشياء عديدة، من أهمها الشجاعة والكرم ونُكران الذات وغيرها والفروسية ؛ وليس الأمر كما يرى الأستاذ عمر الدسوقي: «مسخ الفتوة العربية مسخًا، ولم نعد نرى صفات الفروسية والكفاح والنضال في سبيل الشرف، وإنما نرى زهدًا وبُعدًا عن الدنيا»(4).

ونحن نختلف مع هذا الرأي؛ لأن الصوفي الحق الذي يبحث عن مكارم الأخلاق، ويجتهد في دقائق الأمور الظاهرة والخفية، لا يمكن أن يهجر مكرُمة كالفروسية والجهاد في سبيل العقيدة والشرف، وقد كان الصوفية العظام على رأس المرابطين والمجاهدين فى سبيل الله والمدافعين عن حوزة الإسلام شرقا وغربا.

وإنما يمكن القول: إن هذا المسخ للفتوة قد تم فعلًا على يد قوم انحرفوا عن جادَّة التصوف، وجهِلوا حقيقة الزهد، ومالوا إلى البِطالة والتدني، وهؤلاء يحسب سلوكهم على أنفسهم لا على طائفة السالكين، الذي دققوا في اعتناق الشرعية في كل صغيرة وكبيرة.

وقد فهم الأستاذ عمر الدسوقي أن الصوفية يُضعفون أجسادهم لتقوية أرواحهم؛ حتى تتصل بالذات العلية، وهذا غير صحيح إلا إذا قلنا: إن صيام رمضان لإضعاف الجسد، وإنما الحق أنه لتحقيق الضبط والتوازن بين الجسد والروح؛ فكذلك التصوف الحق، وقد كان أصحابه فرسانًا وأبطالًا مع قوة روحهم.

ويستشهد الأستاذ عمر بالنص المعروف للإمام الغزالي من كتاب (المنقذ من الضلال)، وهو: «طريقةٌ أولُ شرائطها: تطهير القلب بالكلية عما سوى الله، ومفتاحها: استغراق القلب بذكر الله، وآخرها: الفناء بالكلية في الله تعالى».

والتأمل في النص لا يوحي بأن الغزالي يهدِف أبدًا إلى إضعاف الجسد، ولا أنه يشترط ذلك في تطهير القلب، وهذا لا يمنع أن نجد فريقًا من أهل التصوف يحاول إضعاف جسده، وهذا وهم كبير، وسوء فهم لتعاليم الإسلام ولمنهج التصوف.

ولعل نظرة الأستاذ عمر أيضًا إلى هذا الفريق الخاطئ، هو الذي جعله يعمم الحكم على الصوفية، حيث يرى أن إقبال الفتيان على التصوف لا يتفق مع أخلاق الفتوة، كما عرفها العرب والمسلمون من قبل؛ فهو يقول: «لأن الفتى العربي إذا كان ثمة ما يدعو إلى الغضب؛ يغضب لشرفه، ويغضب لعقيدته، ويغضب إذا امتُهِن أو أهين، وهو لا يحب الجبن ولا يعرفه؛ فيكف يتفق مع التصوف الذي يدعو إلى إزالة القوة الشهوانية والغضبية في الإنسان»(5).

ومن الواضح أن هذا فهمٌ خاصٌّ لمعنى التصوف لا يبلغ كنهه، وقد وجدنا في الصوفية نماذج عالية في الجهاد والغَيرة على الدين وعلى حرمات الله تعالى.

واستكمالًا لموقف الصوفية من الفتوة؛ فإنهم قد استعملوا كلمة «فتوة» وأكثروا منها في أحاديثهم، وأخذوا من تعاليمها بعضَ الصفات.

فالفتى الصوفي:من كانت له دعوى يدافع عنها ويضحي بنفسه في سبيلها، وتختلف هذه الدعوى من شخص لآخر حسب استقامته على أصول الإسلام، وما نظن المستقيمين إلا أنهم أصحاب دعاوى طيبة كقولهم:

- «الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوان».

- «الفتوة: ألَّا ترى لنفسك فضلًا على غيرك».

- «الفتوة: اتباع السنة».

- «الفتوة: الوفاء والحفاظ»؛ أي حفظ الحدود وعدم تعديها وغير ذلك(6).

هذا وقد اعتنق الفتوة إلى جانب منهج التصوف، من أُطْلِقَ عليهم «أهل الملامة» حيث سموا أنفسهم: «الفتيان»؛ لأنهم كانوا يؤثرون إخوانهم على أنفسهم، مع أخذ أنفسهم بالزهد الكامل.

المرجع: أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 54-59)، بتصرف وزيادة.


(1)    فضلنا هنا استعمال كلمة الفتوة الإسلامية؛ لأنا وجدنا الأستاذ عمر الدسوقي يكرر الحديث عن الفتوة العربية لدى الصوفية؛ مما يشعر بأنهم استفادوا من أخلاق الجاهلية العربية، وعلى كل حال فإننا مدينون بالفضل في هذا الموضوع لأستاذنا رحمه الله تعالى. انظر له: الفتوة عند العرب، من ص220 إلى225، ط3، 1959، مكتبة النهضة بالقاهرة.

(2)    الرسالة القشرية، ص176.

(3)    نفس المصدر، ص177.

(4)    الفتوة عند العرب، ص221.

(5)    الفتوة عند العرب ص222- 223.

(6)    الرسالة القشيرية، ص177.


التقييم الحالي
بناء على 3 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث