نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - أثر الأحوال السياسية والاجتماعية فى نشأته

كان للخلافات السياسية بين المسلمين منذ أواخر عصر الخليفة عثمان بن عفان أثر في مجال الحياة الدينية، والسياسية، والاجتماعية للمسلمين. وبدأت تظهر العصبية القبيلة مرة أخرى. واستمرت الخلافات السياسية في عصر الإمام علي بن أبي طالب، وانقسم المسلمون بعد ذلك إلى أمويين، وشيعة، وخوارج، ومرجئة، واستمر الصراع بين الأمويين وخصومهم زمنًا طويلًا.

ويمكن أن يعتبر مقتل عثمان بداية للاضطرابات السياسية التي أضرت بالإسلام ، ولم يكن هذا الخلاف السياسي ليبتعد عن الدين، لأن كل فريق من المتنازعينكان يلجأ إلى نصوص الدين دائمًا ليؤيد موقفه ويبرره، وهذا يدعو إلى الاجتهاد في فهم النصوص أو تأويلها تأويلًا خاصًا. عندئذ صار كل حزب سياسي فرقة دينية لها معتقداتها، وعمد أصحاب كل فرقة إلى اصطناع شعراء وعلماء مهرة ليستميلواالناس إلى جانبهم.

واستشعر بعض الصحابة خطورة هذا الجو المشحون بالخلافات والاضطرابات السياسية، وأثاروا أن يقفوا من الفرق المتنازعة موقف الحياد، ولعلهم فعلوا ذلك إيثارًا للسلامة، وابتعادًا عن الفتنة، وحبًّا في حياة العزلة، وهم بهذا كانوا يتجهون إلى نوع من الزهد، كسعد بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مَسْلَمَة الأنصاري، وأسامة بن زيد بن حارثة، فإن هؤلاء اعتزلوا عن علي، وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه .

وعند حدوث الفتنة بين الحسن بن علي والأمويين، وتنازل الحسن لمعاوية، آثر بعض أنصار الحسن الاعتكاف في منازلهم، والاشتغال بالعلم والعبادة.

فأنت ترى أن اضطراب الأحوال السياسية كان من شأنه في ذلك العصر أن يدفع بعض المسلمين منذ وقت مبكر إلى إيثار حياة العزلة والعبادة تورعًا عن الانغماس في الفتن السياسية.

فإذا عرفنا أن عصر الأمويين -باستثناء حكم عمر بن عبد العزيز- قد شهد مظالم كثيرة، واضطهادات شديدة لخصومهم، فإنه يكون من الطبيعي أن تقوى النزعة إلى الزهد والعزلة عند أفراد كثيرين.

ومن أمثلة ظلم بني أمية مقتل الحسين بن علي في كربلاء، وقد كان له صدى بعيد في المجتمع الإسلامي آنذاك، واشتد جور بني أمية بعده يومًا بعد يوم، لقد كان العصر الأموي بحق عصر إراقة الدماء، وقد انتهكت فيه حرمة مكة والمدينة، وعامل فيه عمال بني أمية، كعبيد الله بن زياد والحجاج الثقفي، الناس معاملة قاسية للغاية، وذهبت أرواح كثير من الأبرياء، وعاش كثير من الناس في رعب، فدعاهم هذا إلى الزهد في الدنيا؛ لأنه لم يعد للدنيا آنذاك في نظرهم قيمة.

ويضاف إلى ما تقدم أن حياة المسلمين الاجتماعية في العصر الأموي تغيرت كثيرًا عما كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلموالخلفاء الراشدين، فقد فتح المسلمون بلدانًا كثيرة، وغنموا كثيرًا، وبدأ الثراء يظهر في المجتمع الإسلامي مقترنًا بحياة الترف وما قد تستتبعه من انحراف أخلاقي، وهنا وجد المسلمون من الأتقياء أن من واجبهم دعوة الناس إلى ما كان عليه السلف من تقلل، وزهد، وورع، وعدم انغماس في الشهوات، ومن أمثلة الدعاة إلى ذلك الصحابي أبي ذر الغفاري الذي انتقد حياة الأمويين المترفة، وأساليبهم في الحكم، نقدًا شديدًا، ودعا إلى الأخذ باشتراكية الإسلام العادلة.

وظهر من الأتقياء الذين نَاوَأُوا حكم الأمويين –أيضًا- سعيد بن المسيب المتوفى سنة 90هـ، وهو من التابعين.

شهد القرن الأول الهجري إذًا ظهور حركة الزهد الإسلامية وانتشارها نتيجة لهذه الاضطرابات السياسية والتحولات الاجتماعية. وقد أجاد نيكولسون تصوير ذلك قائلًا: «وقد انفرد القرن الأول في الإسلام بالعوامل الكثيرة التي شجعت على ظهور الزهد وانتشاره. فالحروب الأهلية الطويلة الدامية -التي وقعت في عهد الصحابة وبني أمية- والتطرف العنيف في الأحزاب السياسية، وازدياد التراخي والاستهانة في المسائل الخلقية، وما عاناه المسلمون من عسف الحكام والمستبدين الذين يملون إرادتهم وآراءهم الدينية على غيرهم ممن أخلصوا في إسلامهم، ورفض هؤلاء الحكام علانية كل فكرة تتصل بالخلافة الدينية ؛ كل أولئك عوامل حركت في نفوس الناس الزهد في الدنيا ومتاعها، وحولت أنظارهم نحو الآخرة، ووضعت آمالهم فيها. ومن هنا ظهرت حركة الزهد قوية عنيفة وانتشرت على مر الأيام، فكان زهدًا دينيًّا خالصًا في بادئ الأمر، ثم دخل إليه بالتدريج بعض العناصر الصوفية حتى تحولت في النهاية إلى أقدم صورة نعرفها للتصوف الإسلامي. وظلت هذه الحركة تحمل طابع مذهب أهل السنة الدقيق طيلة حكم بني أمية، أي نحوًا من قرن من الزمان (661-750م)، وكان القائمون عليها من أشهر الأتقياء المسلمين، بل كان منهم القراء، وأهل الحديث، وعلماء الدين. ومن هؤلاء جميعًا استمدت قوتها وشبابها».

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث فسنجد كنموذج سيىء أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر منذ عام 1830م، حينما أراد أن ينال من العقيدة الإسلامية؛ مجَّدَ التصوف الكاذب الذي يشيع الخرافات والأباطيل، على نحو ما نراه في مؤلفات «لويس ماسينيون»، وكما يقول الدكتور محمود قاسم عن هذا المستشرق إنه: «خصص حياته للكتابة في الحلاج؛ فجعله صورة من المسيح في الإسلام، وأعتقد أن ماسينيون ما كان يعنى بالحلاج قدر عنايته بتنفيذ مخطط استعماري أحكم صنعه؛ فقد ملأ كتابه الضخم عن الحلاج بحشد هائل من الخرافات والترهات والأباطيل؛ حتى يعمق الهوة بين طائفتين تُوجدان بالجزائر: طائفة تتمسك بالقديم فتنساق حسب ظنه إلى اعتقاد أن هذه الخرافات والهذيانات هي صميم الإسلام، وطائفة مثقفة بالثقافة الحديثة، تتجه من جانبها إلى السخرية والزراية بهذا الإسلام الخرافي؛ بل من الإسلام كله»(1).

وكان ابن باديس في الجزائر، يرى أن التصوف الخادع، هو من معوقات الإصلاح؛ لأنه نابع عن سوء فهم للدين، وكان يريد أن يستنفذ من الطرق الصوفية بعض العناصر الصالحة؛ حتى لا يدوروا في فلك المستعمر مثل غيرهم.

ومع هذا يقول الدكتور قاسم عن الزعيم الروحي: «لكنَّا نميل إلى أنه كان متصوفًا سنيًّا بمعنى الكلمة، ولم تكن شخصيته بحاجة إلى أن تستكمل من طريق هؤلاء»(2).

هكذا كان التصوف السني الصحيح تصوفًا عمليًّا جعل من صاحبه زعيمًا روحيًّا مهذب النفس، يجابه أعداء الله والدين والوطن؛ فكان رجلًا بحق، أو كما يقول أبو حفص الحداد النيسابوري (المتوفى عام نَيِّفٍ وستين ومائتين): «التصوف كله آداب: لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب، ولكل حال أدب؛ فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الآداب؛ فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول»(3).

المرجع : - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 78- 83).

- أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 49-50).


(1)    د. محمود قاسم: الإمام عبد الحميد بن باديس، الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، ص7، طبع 1968م، دار المعارف بمصر.

(2)    المصدر نفسه، ص48-49.

(3)    الهُجْويري: كشف المحجوب، ص237.


التقييم الحالي
بناء على 53 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث