نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى - عوامل نشأته

إن الصوفي الحق إنسان سوي حر قرر باقتناع وإرادة حرة أن يسير في الطريق الصوفي وله هدف واضح أن يفر بنفسه من الفتن والذنوب، ويهاجر إلى ربه فهو غايته ومنتهاه.

والإنسان الذي يقرر بمحض إرادته أن يسلك طريقا معينا ومسلكا وعرا يحتاج إلى كل البطولة والفداء والإرادة النفسية القوية ولهذا ينبغي أن يكون إنسانا سويا وليس من ذوي الأمزجة المتقلبة المريضة على ما يفسر علماء النفس، فمن الملاحظ أن كثيرين من علماء النفس الذين درسوا الظواهر النفسية للتصوف - من خلال الإطار الضيق لعلم النفس بمفهومه الغربي المعاصر - لم ينصفوا الصوفية، وهذا راجع إلى بعض الأخطاءالمنهجية في الدراسة، فهم كانوا يحصرون أنفسهم في دائرة التجربة الحسية وحدها، ولم يدققوا في فهم مصطلحات الصوفية التي عبروا بها عن أحوال وجدانية ذاتية خاصة لا تتصف بصفة العمومية(1).

ويقول الدكتور التفتازاني، إن الباحث لكي يحكم على هذا النوع من الحالات الصوفية حكما علميا فلابد له أن يقوم بتجربته، أو يكون لديه استعداد معين لتذوقه.

أما أن يصطنع علماء النفس في بعض الأحيان منهج المماثلة في دراسة حالات التصوف فهذا هو الخطأ بعينه لتعذر مماثلتهم للصوفي في حالاته الوجدانية الخاصة مماثلة حقيقية وهم ليسوا بصوفية. أضف إلى ذلك أن علماء النفس أولئك لا يدرسون صوفية موجودين مثلا، وإنما يكتفون بتحليل ما خلفه الصوفية القدامى من آثار أدبية، وهذا يعني أن دراساتهم ليست دراسات تجريبية بمعنى الكلمة(2).

ويرى الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود أن علم النفس وعلم الاجتماع قد أخفقا إخفاقا كاملا في الوصول إلى كنه التصوف وحقيقته، بل إن الدراسات النفسية الحديثة والدراسات الاجتماعية المعاصرة أفسدت الفكرة عن التصوف إفسادا تاما، شأنها في ذلك شأنها في كل ما اتصلت به من الدراسات التي تتصل بالروح، وبالوحي وبالإلهام السماوي وبالدين على وجه العموم، إن الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة حددت نفسها بالمادة وتقيدت بالظواهر المادية المحسَّة الملموسة: المرئية أو المسموعة، أو المذوقة مذاقا حسيا، أو المشمومة، وهي تعترف اعترافا صريحا لا لبس فيه: أن مجالها إنما هو المجال المادي، وأن كل ما خرج عن المجال المادي، فإنه لا يدخل تحت مرصدها ومخبرها ومسبرها، وإذن لا يدخل في إطار بحثها. والتصوف روح وإلهام وإشراق فلا يدخل في مجالها ومن هنا كان اكتفاء هذه الدراسات بالمظهر والشكل ومن أجل ذلك كان إخفاقها إخفاقا كاملا(3).

والواقع أن العلوم الحديثة واهتمامها بالمادة كأساس لبحوثها ودراساتها تختلف في هذا عن التصوف اختلافا جوهريا، ومن هنا فشلت هذه الدراسات في تفسير التصوف. فالمتصوفة أشخاص محدودون استطاعوا أن يهربوا من سجن النفس(4).

هذا هو التفسير الذي نرتضيه، أما معظم الدراسات النفسية فقد تردت في أخطاء واضحة.

ويضرب الأستاذ الدكتور التفتازاني مثلا لما تردت فيه هذه الدراسات فيقول: «مثلا للأخطاء الشائعة عند علماء النفس اعتبار بعض حالات التصوف حالات مرضية عقلية والحقيقة أن ما يشعر به الصوفي في لحظات معينة يغيب فيها عن ذاته مؤقتا هو الذي يؤدي به إلى القول بأن عالم الظواهر لا حقيقة له، وهذا لا يبرر الحكم على الصوفي بأنه شخص مريض أو غير سوي لأن المرض العقلي يصاحبه فقدان مستمر للشعور بالأنا، والصوفي في كل حالاته لا يفقد استبصاره لذاته مطلقا. ولو جعلنا منه شخصا مريضا لجعلنا كذلك من الشاعر والكاتب والفنان والموسيقي جميعًا مرضى لا لشيء إلا لأنهم يعانون مشاعر خاصة لا يعانيها غيرهم من أفراد الناس العاديين(5).

وهناك تفسير نفسي للأستاذ أميل بوتو يعد من التفسيرات النفسية القليلة التي تعجب الباحث في التصوف يقول بوتو فيما نقله عنه الأستاذ الدكتور التفتازاني في كتابه عن ابن عطاء الله السكندري: «إن نقطة البداية من اللحظة الأولى (بالنسبة لحياة الصوفي النفسية) حالة من حالات النفس من الصعب تحديدها، إنها حالة من الرغبة المبهمة القلقة، شديدة كعذاب نفس، لا يمكن قط تحديدها أو بالأحرى تفسيرها من حيث موضوعها والدافع لها، هي تطلع نحو المجهول، نحو خير لازم للقلب يقصر العقل عن تمثله، وعند الصوفي هي حالة عميقة ومستمرة، وتؤرق النفس.

ويقول بوتو إنها تدفع الصوفي بعد ذلك إلى تصور اللامتناهي الخالد الكامل على أنه الموضوع الأسمى لرغباته، وما ذلك إلا ما يسميه الصوفية المسلمون بالالتجاء إلى الله(6).

ورغم إخفاق الدراسات النفسية في تفسير التصوف فإنه يمكن إلى حد ما أن نعرف التصوف من الوجهة النفسية تعريفا عاما بأنه «سلسلة متصلة الحلقات من الحالات الوجدانية الخاصة، والمتصوف حين يعبر عن حالاته الوجدانية الخاصة بعد زوالها يقوم بعملية تذكر للماضي القريب، والقدرة على الوصف والتحليل والتذكر تختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد، وقد يعمد بعض المتصوفة إلى التعبير عن حالاتهم الوجدانية الخاصة بطريق الرمز، فتغلب على عباراتهم صفة الإبهام والتعقيد، كما تكون اللغة أداة عاجزة عن التعبير عن الوجدانيات تعبيرا صادقا وقد يحدث أحيانا أن يختلف اثنان من المتصوفة في التعبير عن حالة وجدانية معينة اختلافا لفظيا، ونلاحظ أن عبارات المتصوفة تتحمل عادة معنيين أحدهما لغوي ظاهر وهو ما يستفاد من ظاهر الألفاظ والآخر ذوقي باطني وهو ما يستفاد بواسطة التعليق والتعميق، والوصول إلى المعنى الذوقي الباطن أمر شاق»(7).

إن التجربة الصوفية ثرية عريضة لا يستطيع علم النفس أن ينهض بها لاختلاف المنهجين كمًّا وكيفا. ولهذا فإن معظم التفسيرات النفسية للتصوف تعوزها الكثير من الدقة والموضوعية حتى تتخلص من نظرتها إلى المتصوفة وإلى التصوف على أنه حالة مرضية نفسية.

وإذا كان علم النفس لم ينجح تماما في إلقاء ضوء موضوعي حول التصوف والمتصوفة فكذا كان من الصعب على عقل الإنسان أن يخترق مساتير الغيب.

إن العقل الذي وصل بالإنسان للقمر وبه استطاع أن يمخر عباب البحار وينشأ الناطحات ويكشف أعماق البحار والأرض ويدرس نجوم السماء ... هذا العقل العظيم، لا شأن له بالغيب الإلهي، لا شأن له بالمساتير: مساتير الملأ الأعلى، لا شأن له بكشف المحجوب: المحجوب الروحي، لا شأن له بمعارج القدس ولا بمنازل الأرواح(8).

ويقول الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود: وإخفاق العقل في عالم التصوف قضية اعترف بها اعترافا صحيحا: فيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين. واعترف بها: الكندي والفارابي، وابن سينا، واعترف بها الغزالي، وجميع الصوفية على الإطلاق. وقد اعترفوا بها لما علموا أن العقل لا يتأتى له أن يخرج عن دائرة المادة، بل إن الخيال نفسه، بل الوهم كل ذلك لا يخرج عن دائرة المادة، واعترفوا بها لما رأوه من خلال التاريخ الفكري للإنسانية: من أن العقل وقف أمام منازل الروح، ومعارج القدس عاجزا لا يجد جوابا؟(9).

وبعد ذلك كله يحق لنا أن نتساءل لماذا نضع الصوفية وطرقهم ومنهجهم الذوقي تحت مشرط العقل الحاد وداخل مخبر علم النفس التجريبي ونتصور أنهم يمثلون عالما غريبا عنا، أليس من الإنصاف لهؤلاء الصوفية ألا ننسى أنه «مهما بدا الصوفية غرباء بالنسبة لنا فإنهم ليسوا مقطوعين تماما عنا ولا يفصل بيننا وبينهم ما لا يستطاع عبوره فهم ينتمون إلينا، هم آباؤنا وإخواننا العمالقة الأبطال لجنسنا البشري كما أن ما يناله العبقري لا ينسب إليه فحسب، بل ينسب كذلك إلى أمته وإلى مجتمعه وبيئته التي أخرجته وأهدت الحياة به»(10).

المرجع: أ/د عامر النجار، الطرق الصوفية في مصر، نشأتها ونظمها، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، د ت، (ص 17 -21) .


(1)    المدخل إلى التصوف للأستاذ الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني ص13.

(2)    المرجع السابق ص13.

(3)    كتاب العارف بالله أبو العباس المرسي الإمام الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود ص13.

(4)    Mysticism : By : Undethill. London 1949 Page 44.

(5)    المدخل إلى التصوف للأستاذ الدكتور التفتازاني ص14.

(6)    ذكره الدكتور التفتازاني في رسالة الماجستير عن ابن عطاء الله السكندري ص45.

(7)    مجلة علم النفس: مقالة بعنوان سيكولوجية علم النفس للدكتور التفتازاني عدد أكتوبر سنة 1949 ص291، 292.  

(8)    العارف بالله أبو العباس المرسي للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود ص9.

(9)    المرجع السابق ص10.

(10)   التصوف طريقا وتجربة ومذهبا للأستاذ الدكتور محمد كمال جعفر ص21.

ارتبط الطريق الصوفي في مراحله الأولى بالزهاد الأوائل من المسلمين والذين يمكن اعتبارهم بحق أنهم أول من وضع أسس الطريق الصوفي في الإسلام ، فالزهد هو الأساس الأول نظريا للطريق الصوفي، وحركة الزهاد الأوائل تاريخيا هي الأساس التاريخي للطريق الصوفي في الإسلام .

وقد اختلفت آراء الباحثين من المستشرقين وغيرهم في العوامل التي أدت إلى ظهور حركة الزهد في الإسلام إبان القرنين الأول والثاني الهجريين، تلك الحركة التي تعتبر البداية الأولى للطريق الصوفي.

فيرى نيكولسون مثلًا أن الزهد إسلامي النشأة، ولكنه متأثر إلى حد قليل بالمسيحية، فيقول:

«ولكننا مع اعترافنا بأن المسيحية كان لها أثر في تشكيل التصوف في صورته الأولى، لا نرى أن في أقوال متصوفيه الزهاد من أمثال: إبراهيم بن أدهم المتوفى 161هـ، وداود الطائي المتوفى سنة 165هـ، والفضيل بن عياض المتوفى سنة 167هـ، وشقيق البلخي المتوفى سنة 194هـ؛ ما يدل على أنهم تأثروا بالمسيحية، أو بأي مصدر أجنبي آخر إلا قليلًا».

أما جولدزيهر فيرى أن ثمة تيارين في التصوف الإسلامي: الأول الزهد، وهذا في نظره قريب من روح الإسلام، ومذهب أهل السنة، وإن كان متأثرًا إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية. والثاني التصوف بمعناه الدقيق، وما يتصل به من كلام في المعرفة، والأحوال، والمواجد، والأذواق. وهو متأثر من ناحية بالأفلاطونية الحديثة، ومن ناحية أخرى بالبوذية الهندية. 

وعلى هذا فالزهد الإسلامي في رأي جولدزيهر متأثر إلى حد كبير بـ:(الرهبانية المسيحية).

وبذلك يرى هذان المستشرقان أن الزهد في الإسلام وليد عاملين أساسيين هما: الإسلام ذاته، ثم الرهبانية المسيحية. مع اختلاف في مدى تأثير هذا العامل الأخير.

ويرى الأستاذ المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي أن عوامل نشأة الزهد في الإسلام أربعة، وهي عنده على النحو التالي باختصار:

العامل الأول: تعاليم الإسلام نفسه. فإن القرآن يحث على الورع، والتقوى، وهجر الدنيا وزخرفها، ويُحَقِّرُ من شأن الدنيا، ويُعَظِّمُ من شأن الآخرة، ويدعو إلى العبادة، والتبتل، وقيام الليل، والتهجد، والصوم، ونحو ذلك مما هو صميم الزهد. والقرآن يصور الجنة والنار بصورة دفعت كثيرًا من المسلمين إلى التفاني في العبادة طلبا للنجاة، وألقت الرعب في قلوب آخرين خوفًا من الوقوع في النار، فقضوا الليالي في التوبة والاستغفار.

العامل الثاني: ثورة المسلمين الروحية ضد نظام اجتماعي وسياسي قائم على الظلم والفساد فى العصرين الأموي والعباسي.

العامل الثالث: الرهبنة المسيحية. وفي رأيه أن العرب تأثروا قبل الإسلام بالرهبان المسيحين، واستمر تأثيرهم في زهاد المسلمين  بعد ظهور الإسلام. وكان تأثير الرهبنة في الناحية التنظيمية أكثر منه في ناحية المبادئ العامة في الزهد، تلك المبادئ التي ظلت إسلامية في الصميم. وكثيرًا ما نقرأ عن زيارات عباد المسلمين للرهبان في صوامعهم وأخذهم عنهم بعض تعاليمهم.

العامل الرابع: الثورة ضد الفقه والكلام. ويرجع هذا العامل في رأيه إلى ظروف إسلامية بحتة، شأنه في ذلك شأن العاملين الأول والثاني، وذلك أن أتقياء المسلمين لم يجدوا في فَهْمِ الفقهاء والمتكلمين للإسلام ما يشبع عاطفتهم الدينية، فلجأوا إلى التصوف لإشباع هذه العاطفة.

ولعله قد تبين لك من الآراء السابقة اتفاق على أن الزهد من مصدر إسلامي أولًا، ولكن الخلاف بين رأي منها وآخر هو في مدى تأثير المسيحية على نشأة هذا الزهد، فبينما يميل نيكولسون والدكتور عفيفي إلى التقليل من أهميته في تلك النشأة، نجد جولدزيهر يؤكد أن له دورًا كبيرًا فيها، ويضيف الدكتور عفيفي عاملين آخرين في نشأة الزهد هما: ثورة المسلمين على النظام السياسي والاجتماعي، وثورتهم على الفقه والكلام. وقد أشار نيكولسون أيضًا إلى العامل الثاني منهما في بعض بحوثه.

ونحن نوافق الدكتور عفيفي على العاملين الأولين في نشأة الزهد، وهما تعاليم الإسلام، وثورة المسلمين على النظام السياسي والاجتماعي في العصرين الأموي والعباسي، ولكننا نرى أن الرهبنة المسيحية لم تكن عاملًا من عوامل نشأة الزهد الإسلامي، وكذلك فإن ثورة المسلمين ضد الفقه والكلام لم تكن لها صلة بنشأة الزهد، وإن كان لها أوثق الصلة بنشأة التصوف منذ القرن الثالث الهجري وما بعده.

وقد ناقشنا مصادر التصوف فى عدة موضوعات ، راجع:

- (الطريق الصوفي – مصدره الإسلامي من القرآن الكريم).

- (الطريق الصوفي – مصدره الإسلامي من السنة الشريفة).

- (الطريق الصوفي - مصدره من زهد النبي صلى الله عليه وسلم).

- (الطريق الصوفي – مصدره الإسلامي من الصحابة خاصة الخلفاء الراشدين).

- (الطريق الصوفي – مصدره الإسلامي من حياة التابعين).

- (الطريق الصوفي – مصدره الإسلامي من حياة أهل الصفة وبعض الصحابة رضي الله عنهم).

- (الطريق الصوفي – مصدره عند المستشرقين).

المرجع: - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 69- 72).


التقييم الحالي
بناء على 47 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث