نسخة تجريبيـــــــة
موقفه من المعرفة والروحية الحديثة

كيف نصل إلى المعرفة, المعرفة الحقة, معرفة ما وراء الطبيعة؟ كيف نخترق الحجب, ونكشف المساتير, ونزيل النقاب عن الملأ الأعلى, فنصل إلى الروح, وإلى الملائكة, وإلى الله؟ كيف نصل إلى اليقين؟ أيكون ذلك عن طريق الرُّوحانية الحديثة, أم عن طريق الفلسفة الحديثة؟.

سنذكر فيما يلي رأي الشيخ عبد الواحد يحيى (رينيه جينو) في هذين الأمرين اللذين يعدهما بعض الناس خطأ وسائل للمعرفة.

ثم نُتبع ذلك بالوسيلة الصحيحة للمعرفة في نظره وهي التصوف.

1- الرُّوحانية الحديثة وخَطَؤهَا:

من أخطر الأغلاط الغربية الحديثة، واحدة ثبتت في أمريكا منذ أقل من مئة سنة([1])؛ أي: سنة 1847م، وعرفت باسم [الروحانية الحديثة] ويمكن تحديد معناها بأنها ثبوت إمكان الاتصال بالموتى بواسطة وسائل مادية، أمَّا كيف بدأت أولًا، فإنَّها لاحت في بعض ظواهر طبيعية كانبعاث أصوات وتحرك أشياء في أحد المنازل بدون ما سبب واضح لها.

أما هذه الظواهر فقد لوحظت في كل زمان ومكان, فلا يمكن القول بأنها ظواهر شاذة, فلماذا إذن يستولد مِنْهَا الغربيون عقيدة جديدة في تلك الحالة الخاصة في حين لم يُفَكِّرْ أحد في شيء من ذلك من قبل؟!.

الحق أنهم ثاروا على تلك المادية المنتشرة في العالم فعملوا على إيجاد وسيلة سرية نعمل على هدمها, ولكن إذا اعتبرنا أن غايتهم من ذلك حسنة؛ فإن الوسائل التي استعملوها لبلوغ غايتهم لم تكن كذلك.

وحقيقة أن الباطل هو شَرٌّ دائمًا؛ ولذا يمكننا أن نوافق على ما يدعيه البعض من أن الغاية تبرر الواسطة، وفي الواقع أنَّ الواسطة إذا لم تكن صالحة تمامًا فإنَّها كثيرًا ما تنقلب سريعًا ضد الغاية المرجوة, وإنَّنا إذا تَخَيلنا صورة الحياة بعد الموت, على مثال صورة حياة الجسم على الأرض, وهي التي انقاد إليها أتباع العقيدة الجديدة, فيمكننا أن نعتبر أن ما يسمى «الرُّوحانية الحديثة» ما هي في الحقيقة إلا مادية من نوع آخر, بل أكثر ضررًا من المادية؛ لأنها تخلق الأوهام والتخيلات في حقيقة طبيعتها، حتى تتمكن من التأثير في الذين لم يَقْبَلُوا الآراء المادية الصريحة الشائعة, أكثر من هذا أنَّ فيها خطرًا آخر, ويكفي أن نرى كم من الأشخاص -بواسطة ما يسمى الاتصال بالموتى- أصيبوا بالجنون أو الخراب ثم الانتحار!.

عند ذلك يكون لنا الحق في التصريح بأنَّ هذا التعليم الذي يجلِب مثل هذه العواقب, هو لعنة على بني الإنسان, وهذه العدوى المزمنة التي رسخت في عقول الكثيرين من الأشخاص الطاهري السريرة, وذوي النوايا الطيبة, هذا الخطر ينتشر في الشرق, بل لا نغالي إذا قلنا إنه امتدَّ إلى الشرق الأقصى حيث نلاحظ -منذ سنوات قليلة- انبعاثَ دين جديد من الهند الصينية يسمى «كاؤداي» ويدعي أنصاره أنه لا يستمد تعاليمه عن طريق الوحي، بل يستمدُّها مباشرة من الله بواسطة «سلة» متحركة.

وينبغي أن يفهم القارئ أننا بعيدون جدًا عن إنكار حقيقة أنواع الظواهر المختلفة التي يرى فيها «الروحانيون الحديثون» برهانًا على وجهة نظرهم, فإنَّ هذه الظواهر
-كما سبق القول- كانت معروفة دائمًا عند القدماء, بل كانوا أكثر علمًا بها ممن يعرفونها الآن.

ولكننا ننكر تفسيرها الحديثَ الذي تفسر به هذه الحقائق بنسبتها إلى فعل «الأرواح المجردة», وهي التي يقصد بها الشخصيات الإنسانية التي زالت عن عالم الوجود الأرضي.

كيف يقبل التفكير السليم أنَّ «الأرواح المجردة» يُمكنها تحريك مائدة, أو استيلاء قوة خفية على اليَدِ تجعلها تكتب أو ترسم, أو تفعل أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل؟.

مثل هذه الإثباتات لا تدل إلَّا على عدم العلم -الذي أصبح تقريبًا هامًّا في وقتنا هذا- باختلاف الظروفِ في حالات الوجود المتباينة, وينبغي أن نذكر أنَّه إذا أمكن الإنسان أن يتصل بالأرواح -إنسانية أو غير إنسانية- فإن ذلك لا يكون إلَّا بأن يصير نفسُه متيقظًا في حالة وجوده الخاصَّة التي تُطَابق الحالة نفسها، والتي تكون فيها تلك «الأرواح» فعلًا، ولكن هذه مسألة أخرى ليس لها أية صلة بتعاليم وأفعال «الروحانية الحديثة».

وفي الحقيقة تُوجد عناصر كثيرة من أنواع مختلفة ربما ساعدت على إيجادها, على حسب الحالات المختلفة, ولكن ينبغي أن نُفرق بين هذه العناصر بدقة، وسنشير بإيجاز إلى أنواعها المختلفة حيث لا يمكننا أن نفسر كلًّا منها تفسيرًا كاملًا مفصلًا؛ لأن ذلك لا يتسع البحث فيه الآن:

(أ) من أهم العناصر التي تُحدث هذه الظواهر تلك التي تحدث في معظم الحالات، وكثيرًا ما تكون منفردة، وهي التي في قوى الإنسان العقلية، هذه القوى التي يمكن أن تتسع وتكبر أكثر مما يظنه علماء النفس الحديثون, أو الذين يشتغلون بدراسة الحالات الشاذَّة.

هذه القوى كامنة في كل إنسان، وإذا نَمَت واتسعت بطبيعتها فإنَّ ذلك يكون في حالات نادرة، لكن يمكن تنميتها صناعيًّا في بعض الأشخاص بوضعهم في حالات خاصة, مثل تلك الحالات المعروفة تحت الاسم العام «التنويم المغناطيسي»، وهي التي فيها يمكن الإنسان أن يُحس بأشياء بدون أن يتصل جسمه بها، وكذلك يمكنه تحريكها، كما يمكنه أيضًا رؤية أشياءَ مخفاة عن حواسه العادية، أو بعيدة عنه في الزمان أو في المكان وغير ذلك.

ولا يمكن لغير الرجل المادي -في أضيق حدود معنى هذه الكلمة- أن يقول بأن الإنسان محدود بالقياس إلى جسمه، ولكنَّ الرُّوحانِيين -بتسميتهم هذه التي دَرَجَتْ في الفلسفة الغربية- يشكُّون جدًّا في قدرة الإنسان على احتمال ما هو فوق مستوى قواه الجسمية، أو تلك القوى التي تتصل وثيقًا بالجسم، وتظهر في الحياة المعتادة لأي فرد, ومن جهة أخرى ينبغي أن نذكر أن تلك التي تُسمى القوى الشاذة -وهي التي نتكلم عنها- ليس فيها شَيْءٌ روحي في الحقيقة أكثر من القوى المعتادة.

وإن التصور الذي جعل الإنسان الحَيَّ يتكون من جزأَين أو عُنْصُرين فقط -وهو ما انتشر في الفلسفة الحديثة خاصة وفي العقل الغربي عامة- هذا التَّصور هو الذي سبب هذا الاضطراب؛ لأنه صَيَّرَ الناس جاهلين بالفرق الأساسي بين النفس والروح, وإن طبيعة المقدِرة التي تظهر في الأشخاص الذين ينامون تنويمًا مغناطيسيًّا -وهم الذين يسمونهم «الروحانيون الحديثون» بالوسطاء- ليست «روحية» بالمرة, بل هي «نفسية» تمامًا, وهي تخص الحالات التي يمكن وصفها بأنها ألطف من الحالات العادية كما أنها أكثر اتساعًا, وأعلَى منزلة أيضًا في درجات الوجود، كما يجب أن تكون الحالات الروحية.

وإنما مثل هذه القوى في الإنسان هو إنماء الإحساس بالاتساع لا الإحساس بالارتفاع.

هذه الحالات النفسية التي تظهر إمَّا في التنويم المغناطيسي, أو في بعض حالات من الأمراض العقلية، ينشأ عنها ما يسميه علماء النفس خطأ «بالشخصيات المتعددة»؛ لأنها تظهر منفصلة عن الحالات العادية، وربما كان هذا خطأ في استعمال الكلمات, وإلا فإنه يكون خطأ فاحشًا؛ لأنه لا يمكن لعقلٍ ما أن يتصور أن الإنسان الحي له أكثر من شخصية واحدة.

وحقيقة أنَّ كل حالات الكائن ما هي إلا مظاهر جزئية لشخصية واحدة غير متغيرة.

وصحيح أن الإنسان في حالاته العادية لا يحس بالأعمال التي يؤديها, أو المعارف التي يستقيها في الحالات الأخرى، ومن السهل جدًّا أن ندرك هذا؛ لأن الحالة العادية هي أضيق الحالات مجالًا, كما أنها لا تعتمد إلا على الشروط الجسمية في حين الحالات الأخرى تكون مطلقة الحرية، وإننا لا نجد غرابة في هذا لو فكرنا فقط في التفرقة التي توجد عادية في كل فرد بين شعوره بحالة اليقظة وشعوره بحالة النوم.

ينبغي أن نوجه بحثنا نحو نقطة واحدة: هي أن كل ما يسمى «بالظواهر» إما أن يصدر من القوى العقلية في الحالات العادية, أو من قوى الحالات النفسية الأخرى, هذه الظواهر تمثل فقط الجزء الظاهري من الكائن, وواضح من الكلمات نفسها أن «الظواهر» -من أي نوع أو درجة- هي كلها من الظاهر وليست من الباطن؛ أي إنها تعديلات سطحية للكائن وليست عناصر مكونة لذاته الباطنية العميقة, والقوى التي يمكن تسميتها تمامًا باطنية ينبغي أن يبحث عنها في حالات تختلف تمامًا عن الحالات النفسية, وتسمو كثيرًا عن الظواهر العادية أو الشاذة.

(ب) إذا رجعنا إلى الحالات النفسية التي تكلمنا عنها فينبغي أن نقرر أن الإنسان في هذه الحالات -كما في الحالة العادية- يحاط بقوى فعالة مختلفة ألطف من تلك التي في عالم الجسم والحس, ولكن بعضها ربما كان مشابهًا -لا ذاتيًّا- لقوى مثل الكهرباء وغيرها, ولا يخفى أن هذه القوى يمكن للطبيعي العادي الاستدلال عليها بتأثيراتها المحسوسة.

هذه القوى النفسية التي كان يعبر عنها [الطاو - صي] الصينيون بأنها «قوى سابحة» كان لها قوانين مثل أي قوانين أخرى طبيعية، وربما كان الغرض منها علميًّا فإذا أمكن أن تجمع وتركز بشروط خاصة, فإنه ينبعث منها تأثيرات ربما تظهر غريبة لمن يجهلون مثل هذه الأشياء، مثلها في ذلك مثل ظهور التأثيرات الكهربائية لمن يجهلون الطبيعات.

أضف إلى هذا أن الإنسان إذا اتصل بمثل هذه القوى يمكنه -بدون أن يشعر- أن يلبسها لوقت ما شخصية ظاهرية بزوال شخصيته الخاصة، ومن هذا يمكننا تفسير ظواهر كثيرة.

وهنا يمكننا أن نرى أحد الأسباب للأخطار التي يقع فيها من يمارس «الروحية الحديثة» أو ما يماثلها، يعرض الفرد نفسه لتأثيرات ربما أثرت فيه أحوال كثيرة فتبعث في كائنه الخاص عناصر الاضطراب, وعدم الاتزان النفسي, تذهب به أحيانًا إلى نوع من الوحدة والعزلة، ويمكننا أن نجد ما يماثل هذه الوحدة في بعض ما يسمى «بالشخصيات المتعددة» التي تكلمنا عنها سابقًا.

هذه الأخطار لا يستهان بها, وربما لا يمكن تجنبها إذا كان الأشخاص الذين يتصلون بهذه القوى جاهلين تمامًا بطبيعتهم، كما هي الحال مع الأكثرية العظمى لمعاصرينا, وخاصة «الروحانيين الحديثين» الذين هم في الحق كالأطفال يلعبون بالنار.

(جـ) الإنسان في حالته العقلية أو النفسية يجد نفسه متصلًا -كما في الحالات العادية- بكائنات أخرى موجودة في حالات تتفق مع حاله، وأهم ما نقصده هنا بالكائنات هم بنو البشر، وهذا هو ما يحدث لهؤلاء الذين يشتركون في «جلسات» الروحانية الحديثة بدون رغبة منهم أو معرفة فيوصلون أفكارهم إلى الوسيط, وليست أفكارهم هي المطابقة للواقع حينئذ فحسب، بل أيضًا وغالبًا أفكارهم البعيدة التي تلوح لهم كأنهم نسوها لبعد العهد بها، فيعجبون جدًّا من اكتشافها, ويمكن للأشخاص الغائبين أيضًا أن يتصلوا بأنفسهم مهما كانوا بعيدين إذا كانوا في مثل هذه الحال متجردين من كل القيود الجثمانية، ويمكن إجراء هذه التجربة بشعور من الأشخاص، أو بدون إحساسهم، وتحدث الأولى في الحالات النادرة للأشخاص الذين لهم معارف خاصة، والذين يعملون هذا لغرض محدود كما حدث عند ابتداء العلم «بالروحانية الحديثة».

وتحدث الثانية في الحالة العامة وهي اتصال أي فرد -وخاصة أثناء النوم- ويجدر بنا أن نضيف إلى ما ذكر أنه يوجد المظاهر في الحيوانات؛ لأن لهذه أيضًا حالات لطيفة في كائنها الخاص.

(د) وفي بعض الحالات تحدث الظواهر-طبيعية كانت أو مفتعلة- بعناصر تنبعث حقيقة من الموتى، ولكن ليس اتصالًا فعليًّا بشخصياتهم الحقيقة، وهذه العناصر ما هي إلا بقايا نفسية مشابهة لبقايا الجسم التي يتركها الميت بعده بتحلله.

لأنه يوجد في الطبقة النفسية عناصر تلازم الخالد من الكائن، وهذه العناصر أقرب إلى الحالة الجسمية؛ ولذا يمكنها أن تولد تأثيرات حسية، وهذه البقايا النفسية تمثل حقيقة حالات خاصة من «القوى السابحة» التي سبق ذكرها قبلًا، وإذا ذكرناها على حدة، فإن ذلك لأن مظاهرها جميعها يمكن اعتبارها كمظاهر حسية للموتى، ولكن في معنى يختلف تمامًا عما يقصده «الروحانيون الحديثون»، مثل هذه العناصر يمكن أن تأخذ مظهرًا مؤقتًا للحياة، ثم تعطي حينئذ إجابات آلية تعكس بعضًا من أفكار الفرد التي سبق أن كانت تختص به.

وهذا الطيف من الشخصية -إذا أمكن تسميته كذلك- هو ما كان يسميه اليهود القدماء [أوب] كما يرى في بعض الكتب المقدسة، وقد أعطى إجابات في «الاستحضارات» التي استعملت بين معظم الناس، ولو أن الدين يحرمها بصفة عامة.

(هـ) وأخيرًا ليكون الموضوع تامَّا؛ ينبغي أن نذكر إمكان تداخل تلك الكائنات التي ليس لها حياة جسمية، هذه الكائنات -التي تعتبر غير إنسانية- ليس لها مطلقًا طبيعة روحية خالصة، ولكنها بالعكس تقرب جدًّا من العالم الحسي؛ ولهذا يمكنها أحيانًا أن تحدث تأثيرات فيه.

ونريد هنا أن نشير بصفة خاصة إلى فعل الجن -ولكن ليس هنا مجال الإفاضة في هذا الموضوع- وبما أنه لا يوجد شيء روحي في كل هذه الأشياء أكثر من تلك التي لها اتصال بالحياة الأرضية، فلا ضرورة للقول بأنه لا يمكن المقارنة بينها وبين الأشياء الأخرى التي تختلف في طبقتها، كوحي الأنبياء عليهم السلام أو التي في طبقة أقل ارتفاعًا، كالمقدرة الخاصة للأولياء { وهي التي تنبعث في مبدئها من العالم الروحي، وينبغي أن نقرر أن هذا المبادئ تختلف في حقيقتها، في حين تتفق في المظاهر الخارجية، ولكن هذه أيضًا مسألة أخرى تلك مسألة «المؤثرات الروحية» وليس لها صلة بموضوعنا الحالي، أما من حيث الظواهر النفسية فإننا سنصف هذا.

بعض الغربيين -وليس هؤلاء الذين يقبلون فحسب وجهة نظر الروحانية الحديثة، بل الذين يسمونها أغراضًا علمية- يحاولون بكل جهدهم أن يكتشفوا أشياء كانت معروفة تمام المعرفة في الأزمنة السحيقة عند الأمم الشرقية، ويلاحظون بعض الحقائق، ولكن يعجزون عن تفسيرها، في حين يوجد -كما سبق أن أوضحنا باختصار- كل ما نحتاج إليه لتفسير هذه الحقائق نفسها، بل حقائق أخرى كثيرة لم يكن لديهم أقل فكرة عنها.

والنتيجة: أن كل من يود معرفة حقيقة مثل هذه الموضوعات، لا يمكنه أن يجد ضالته في البحوث الغربية الحديثة، بل عليه أن يرجع إلى المعارف الشرقية القديمة.

 2- الروحانية الحديثة «رد على رد»:

لو كان الأستاذ فريد بك وجدي قد قرأ ما كتبناه منذ عشرين سنين تقريبًا عن موضوع «الروحانية الحديثة»([2])، فإنه ما كان ليكلف نفسه عناء جمع هذه الملاحظات التي كتبها في الجزء الماضي من هذه المجلة؛ لأننا أجبنا عن كل منها إجابةً تامة، وأكثر إسهابًا مما يمكننا ذلك في هذه الصفحات القلائل، ومع ذلك سنحاول هنا ثانيًا أن نحدد مركزنا في مثل هذا الموضوع، حتى لا يبقى مجال آخر لذلك الاضطراب الذي نشأ من هذا البحث.

ينبغي علينا أولًا ألَّا ننكر أنه منذ ابتداء ما يسمى بالعصور الحديثة -أي منذ ثلاثة أو أربعة قرون- شك الغربيون في كل معارف القدماء، ولكن ذلك إنما حدث لأنهم لم يدركوا تمامًا معنى وطبيعة هذه المعارف، وفي نفس الوقت يظهر أنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا أي شيء خارج عن دائرة التجارب الحسية، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك ظهور وانتشار المادية واتساع دائرة البحث اتساعًا غير عادي في بعض علوم خاصة تختص بالمادة فقط.

وقد كان هذا الأمر في الغرب فحسب، أما الشرق فإنه لحسن الحظ لا يزال محتفظًا للآن بمعرفته القديمة، ولم يقبل هذه الحدود المتعسفة ولم يستسغ أيضًا تعاليم فرنسيس باكون، أو تعاليم ديكارت التي لا توضح شيئًا ما للعقول الشرقية النقية؛ أي التي لم تتأثر بسموم الأفكار الغربية.

والآن إن فكرة محاربة المادية المنتشرة في الغرب بواسطة العمل المادي نفسه هي فكرة خاطئة، ولا تؤدي إلى نجاح ما؛ لأن هذه الوسائل ليس لها من قيمة إلا في دائرة خاصة ضيقة جدًّا، وإذا تعدتها تكون عديمة القيمة، ويظهر أن هذه الفكرة نشأت من توهم أن مثل هذه الوسائل هي الوحيدة [الوسائل العلمية] التي يمكن الاعتماد عليها في محاربة المادية، ولكن هذه أيضًا أوهام غربية، وفي الحق أن لدينا علومًا أخرى لا تقل في أهميتها وحقيقتها عن سابقتها، تستخدم وسائل مخالفة تمام المخالفة، غير معروفة للغربيين الحديثين.

وإذا قلنا ذلك ينبغي أن نميز بين حقيقة مسألة الظواهر الشاذة التي نتحدث عنها هنا، والتفسيرات المختلفة التي أعطيت لها هناك، وإننا لنستغرب جدًّا أن الأستاذ فريد بك وجدي لا يزال يصر على النقطة الأولى «للظواهر»؛ لأننا قلنا إن حقيقة هذه الظواهر لا تقبل الشك، وإنها كانت معروفة في كل العصور وفي كل الأقطار، فإن مثل هذه الحقائق شائعة الوجود وليست نادرة، ولها من الأنواع ما يكثر عما يدركه الغربيون «الروحانيون الحديثون» أو غيرهم من الذين يحاولون دراستها.

وإننا لنأسف على أن الأستاذ فريد بك وجدي -في هذه المسألة- يعدد كثيرًا من أسماء العلماء الأوربيين والأمريكيين الذين اشتركوا في هذه الدراسة، كأننا ملزمون أن نقبل ما يمليه علينا هؤلاء العلماء، وإننا لنأسف لأننا لا يمكننا أن نسيغ للشرقي أن يعتقد أنه ملزم بأن يتبع الغربيين ويتقبل تعاليمهم، وخاصة في أشياء لا تزال حقيقتها معروفة دائمًا في الشرق، في حين أن الغرب ليس إلا باحثًا فيها فقط، وليس من حاجة إلى القول بأن الذين يبحثون عن شيء هم الذين لا يعرفون حقيقة هذا الشيء.

وأضف إلى ذلك أن الأشخاص الذين ذكروا ليست قيمتهم متعادلة فلا يمكننا أن نضع في صف واحد رجلًا [طبيعيًّا] نقدره حق قدره مثل: وليم كروكس مع آخر نعتبره «متجرًا بالعلوم» مثل: كاميل فلاماريون، كما علينا أن نضيف أنه إذا كان بعض الرجال قد قبل «الروحانية الحديثة» فإن كثيرًا منهم اختلفوا في وجهة نظرهم، أو ربما صدوا أنفسهم عن أي نظرية أو تفسير، وإننا نجد بين هؤلاء الذين صاروا «روحانيين حديثين» من اشتغل -لأسباب لا صلة لها- بالعلم مثل: سيزار لومبروزو، وأولفرلودج؛ فإن الأول اشتغل بها بعد موت والدته، والثاني بعد أن قتل ابنه في الحرب، وهذا يظهر لنا أن مثل هؤلاء الرجال -بصرف النظر عن علومهم الخاصة- ضعاف القول جدًّا.

وينبغي أن نضيف إلى ذلك أيضًا أن بعض العلماء لم يمنعهم تعليمهم من أن يخدعوا بالظواهر المصطنعة، كما حدث لوليم كروكس مع وسيطته فلورنس كوك، وكما حدث حديثًا مع شارل مريشيه في الجزائر، وحدوث ذلك سهل الإدراك جدًا؛ لأن هؤلاء الأشخاص-وهم بعيدون عن حدود علومهم- ليس لهم أية كفاية أكثر من أي إنسان جاهل آخر، بل ربما وقعوا في الخطأ بسهولة أكثر من أي شخص آخر؛ لأنهم حين ذاك يبحثون في أشياء تختلف طبيعتها وقوانينها اختلافًا تامًّا عن تلك التي اعتادوها، ولأنهم يحولون استعمال وسائلهم العادية في هذه الأشياء في حين هذه الوسائل لم توضع لمثل ذلك مطلقًا.

وماذا نقول في ذلك التاجر الغني الذي كان يتاجر بالنبيذ «جان ماير» الذي مات، ولقد صرف هذا الرجل ملايين عديدة، لأنه طمع في أن يصير يومًا ما بابا «الروحانية الحديثة»، وقد أثار حربًا بلا شفقة على هؤلاء «الإخوان الدينيين» الذين تعمدوا أن يؤسسوا جمعيات ومكاتب مستقلة، واضطروا أن يذعنوا لقوة المال، وكان ذلك بالطبع تحت اسم [الإخوة - والإخاء]، وقد أسس هذا الرجل نفسه في باريس معهدًا (علميًّا) لغرض إخضاع الباحثين الأحرار، ونقصد بهم الذين لم يكونوا «روحانيين حديثين»، وبتسلمهم منه إعانات مالية لم يكونوا قادرين على أن يعارضوا شيئًا من «الروحانية الحديثة».

وفي الحق إننا لنجد عارًا في اضطرانا إلى التصريح بمثل هذه الأسماء والوقائع على صفحات هذه المجلة التي ننزهها عن ذكر مثل هذه الأعمال.

أما الأخطار التي تنتج من «الروحانية الحديثة» فإننا نؤكد للأستاذ فريد وجدي بأن الجنون والحوادث الأخرى التي تنتج منها ليست شاذة بالمرة، بل كثيرة الحدوث في الواقع، فإذا قال لنا إنها تحدث لغير المتعلمين، أجَبْنا بأن هؤلاء في الواقع هم العدد الأكبر بين «الروحانيين الحديثين» في كل الأقطار، وليس لنا الحق في أن نترك هؤلاء الناس معرضين بدون وقاية من مثل هذه الأخطار التي تنشأ من انتشار الأفكار الضارة، وهم على استعداد لقبولها بدون فحص ولا روية.

بل ينبغي أن يكون العكس تمامًا، ونضيف فوق ذلك أننا لا نظن مطلقًا أن التعاليم الخارجية كما تحصل في المدارس والجامعات الغربية، يمكن أن تحفظ صاحبها من هذه الأخطار ألبتة؛ وذلك لأن ما يسمون بالأشخاص «المتعلمين»، أو حتى مشاهير «العلماء» يجهلون تمامًا هذه الأشياء التي تبحث هنا.

أما تفسير الظواهر بواسطة مقدرة «الوسيط» نفسه فهذا صحيح، ولكننا غير ملزمين بأن نقبله أو نرفضه؛ لأن بعض الغربيين استساغه، حدث من هذا القبيل أنهم قرروا أشياء -بدون علم منهم- لم تكن بمستحدثة بالمرة، بل كانت معروفة في الشرق منذ آلاف السنين، ولسوء الحظ نرى أن الغربيين، يفهمونها في معنى ضيق جدًّا؛ لأن معرفتهم بطبيعة الإنسان الحقيقية ومقدرته ناقصة؛ ولذلك لم يستطيعوا استعمال ذلك التفسير في حالات كثيرة يناسبها تمامًا، ولا ينبغي أن نذكر أن تلك القوى التي لها نصيب هام في توليد هذه الظواهر هي قوى عقلية، بل هي قوى نفسية تختلف تمامًا، ويتسع مدلولها ومعناها أكثر من الأولى، ولكن ينبغي أن نكرر ثانيًا أنها نفسية وليست روحية بالمرة، مثل تلك العناصر التي يتركها الرجل بعد موته، والتي ليست لها صلة بالجزء الخالد من كائِنِه.

ونحن إنما نصر على هذه النقطة؛ لأنه برغم أننا أوضحناها سابقًا فإن الأستاذ فريد بك وجدي يجعلنا نتكلم عن هذه كأنها عناصر روحانية، وإذا قلنا إن هذه ألطف، وليست «من القوى التي في الجسم»، بل «من تلك التي في عالم الجسم والحس»؛ أي إنها من تلك التي تدرس بواسطة العلوم الطبيعية الحديثة، فإنها تتسبب من طبيعتها النفسية؛ وذلك لأن عبارة «العالم اللطيف» هي ترجمة أدبية للتعبير الهندي الذي يقابل «العالم النفسي»، هكذا يعبر عنه للمقارنة بينه وبين العالم الحسي، ولا يمكن أبدًا أن يطابق «العالم الروحي».

وعلى أية حال، فإن القوى التي تعمل في هذه الظواهر سواءً كانت تخص الوسيط نفسه أو أي حي آخر سواه، أو كانت قوى أخرى خارجية مثل القوى السابحة أو قوى تنبعث من أحياء مثل الجن، هذه القوى كما ذكرنا سابقًا تقرب جدًّا من العالم الحسي، ويجب أن تعتبر حقيقة من طبيعة منحطة، وفي مثل كل هذه الحالات لا تتداخل القوى العلوية مطلقًا، ولو أن الأستاذ فريد بك وجدي يؤكد ذلك، ويعطينا سببًا معقولًا لهذا التأكيد، ونحن مضطرون لأن ننكر ذلك إنكارًا باتًا وحينئذ يسقط من تلقاء نفسه كل ما يحتم علينا أن نصدق ظهور شخصية أحد الموتى، ولو أنه ينبغي علينا ألَّا نقرر كذب ذلك، مثلما نقرر إذا رأينا أحد القردة يقلد حركات الإنسان، وتستمد هذه القوى مظهر الحس من الأشخاص الذين تظهر بينهم؛ ولذا فإن الأفكار التي تعبر عنها هذه القوى تطابق تمامًا ما يجول في خاطر الأشخاص الذين يتسمعونها، وهذا يفسر لنا لماذا تتناقص ما تسمى «الأرواح» بعضها مع بعض؟.

خذ مثلًا لذلك: بينما تشيع نظرية «التقمص» في فرنسا؛ إذ لا يعرف بها في إنجلترا وأمريكا، فإننا رأينا «أرواحًا» مادية في بعض الرسائل التي تسلمت في هولندا منذ عشرين سنة، تنكر الخلود وتثبت أن حياة الإنسان تبقى بعد الموت على الأكثر لمدة 150سنة.

والآن ينبغي أن نضيف ما يأتي:

توجد أشياء لا يمكن أن تخضع لوسائل العلوم الغربية الحديثة المادية؛ ولذا يقال عنها إنها خرافات أو من خيال القدماء، في حين هي في الواقع المنفذ الذي يؤدي إلى نوع آخر من العلوم يختلف تمامًا عن العلوم المادية، وهذا العلم القديم هو الذي يجدر بنا أن نسميه -بحق- العلم الصحيح.

وإننا لا نخاف إذا قررنا وجود نفوس بالكواكب، وأن لها تأثيرًا فعالًا على الحوادث الأرضية، ولا نخاف أيضًا إذا اعترفنا -كما علمنا القدماء- بأن العناصر ليست أربعة بل خمسة، وأنه لا يوجد أكثر من ذلك أو أقل، وأن هذه العناصر ليس لها أية صلة بما تسميه الكيمياء الحديثة «المواد الأولية البسيطة»، لأنها -أي العناصر- ليست أجسامًا، بل هي تلك التي تكون منها الأجسام.

لا يمكننا أن نعطي أي أهمية -إذا نظرنا إلى المعرفة الحقة- للعلوم الحديثة، وهي على الدوام متغيرة غير ثابتة في تفسيراتها، فإذا سلمنا بالنتائج العلمية التي تنتج من أشياء كثيرة كالكهرباء مثلًا بدون معرفة لطبيعتها، فلا نسمي هذا علمًا، بل يجب أن يسمى فقط صناعة.

فلا نستطيع مشاركة الأستاذ فريد بك وجدي في تفاؤله بنتائج البحوث الغربية، التي تظهر لنا كأنها تحاليل لا نهاية لها، ظاهرية لا نفع فيها.

وبما أننا نرى أن التقدم في هذه البحوث يؤدي إلى عكس كل ما هو طبيعة روحية، فإننا لا نشك في صعوبة، بل استحالة الوصول بهذه البحوث إلى فتح الطريق إلى العالم الروحاني.

وإذا افترضنا حدوث ذلك بأي حادث كان، فإن ذلك سيكون نهاية العلم الحديث، والمدنية كما يفهمها الغربيون، ومع ذلك فمن المحتمل جدًّا، أن يصل الغربيون إلى ذلك.

وأخيرًا نقول: إن الشرق يجب أن يحفظ بعلمه الخاص، فإنه أصدق وأتم وأكثر انتشارًا في كل الوجود بدلًا من تضييق دائرته في عالم المادة فقط.

ولسنا كما يظننا الأستاذ فريد بك وجدي نعيش في زمن غير زمننا، لأن زمننا يختلف عن زمن الغربيين، فبينما يحلم هؤلاء «بالتقدم» حتى يستيقظوا على صوت إحدى الكوارث نعرف أن العهد الذهبي كان في الحق عند ابتداء التاريخ البشري؛ إذ أعطيت كل المعرفة للإنسان في المبدأ، أخذت تختفي عنه تدريجيًا بتوالي العصور، وتنتقل رويدًا من عالم الروح إلى عالم المادة، وأخيرًا نحن نؤكد أن تلك العقول التي تأثرت بالفكر الغربي سوف تتهمنا بأن كل ما نقرره خرافات، ولكن ذلك لا قيمة له من جهتنا، وإنما نحن نوجه كلامنا هذا لا إلى مثل هؤلاء الأشخاص، بل إلى الشرقيين الحقيقيين الذين يصرون دائمًا على أن يكونوا -كما هو الواجب عليهم- محافظين على الحكمة الأبدية.

3- القوى السابحة:

عندما بينا العناصر([3])المختلفة التي تتضافر في إحداث تلك الظواهر التي ينسبها عندما الروحانيون المحدثون إلى ما أسموه «بالأرواح»، أشرنا بصفة خاصة إلى واحد منها يلعب دورًا خطيرًا، هو عنصر القوى اللطيفة التي أسماها «الطاو- صى» الصينيون [بالقوى السابحة]، ولقد يكون من المهم الآن أن نعطي تفسيرًا تكميليًا لهذه النقطة، حتى نتجنب الخلط الذي يقع فيه بسهولة أولئك الذين لهم دراية بالمعارف الغربية الحديثة أكثر مما لهم من علوم الشرق القديمة، وهم لسوء الحظ كثيرون في أيامنا هذه.

لقد نبهنا إلى أن القوى التي نعنيها هنا -لكونها ذات طبيعة نفسية- تكون بالضرورة ألطف من قوى العالم الحسي أو الجسمي؛ ولهذا فينبغي ألَّا نخلط بينهما حتى ولو تشابهت نتائجها مع نتائج القوى الحسية بعض الشبه، مثل هذا التشابه يوجد في الواقع على وجه الخصوص مع نتائج الكهرباء، ولكن هذا التشابه يفسره ما يوجد من تطابق بين سائر القوانين التي تسير كل العوالم وكل الحالات، ذلك التطابق الذي بواسطته يتحقق التناسق والانسجام في درجات الوجود كلها.

ولهذه القوى السابحة أنواع متباينة تمام التباين، ونحن نجد في العالم الحسي أنواعًا عديدة من القوى، ولكنا نجد في العالم النفسي أن الأمور أكثر تعقيدًا مما هي هنالك؛ ولهذا فالميدان النفسي أكثر امتدادًا من الميدان الجسمي، وأقل ضيقًا منه إلى حد كبير.

ويندرج تحت هذه التسمية العامة «القوى السابحة» كل القوى الخارجة عن الأفراد، وأعني بذلك كل القوى التي تفعل وتؤثر في الوسط الكوني من غير أن تدخل في تركيب أي كائن معين، وفي بعض الحالات تكون هذه القوى بذاتها، وفي حالات أخرى تكون صادرة عن عناصر نفسية منحلة كانت تخص فيما سبق كائنات حية، ومن بينها الإنسان كما أوضحنا ذلك في المقال السابق، على أن المقصود في كل الحالات إنما هو صنف معين من القوى الطبيعة التي لها قوانينها كما لغيرهما من القوى، والتي لا تشذ عن تلك القوانين كما لا يشذ غيرها من القوى عن قوانينه، وإذا لاح أن فعلها إنما يجرى غالبًا اتفاقًا ومصادفة ومن غير نظام، فما ذلك إلا لجهلنا بقوانينها، ويكفي أن نلقي نظرةً إلى نتائج صاعقة مثلًا، النتائج التي ليست أقل غرابة من هذه القوى لنعلم أنه لا يوجد ألبتة شيء في هذا العالم لا يجزي وفق قانون.

وهذه القوى -كغيرها- يمكن أن يجمعها ويستخدمها أولئك الذين يعرفون قوانينها، وهنا يجب علينا أن نميز بين حالتين:

تدبير هذه القوى والتصرف فيها على الوجه المتقدم، يمكن أن يكون بواسطة كائنات تنتسب لنفس العالم اللطيف كالكائنات المعروفة بالجن أو بواسطة أناس أحياء يوجد لديهم حالات مطابقة لذلك العالم اللطيف مما يؤهلهم للتأثير فيه، وهؤلاء الذين يتصرفون في هذه القوى بإرادتهم -سواء أكانوا من الإنس أم من الجن- يلبسون تلك القوى نوعًا من الشخصيات المصطنعة المؤقتة، وتلك الشخصية في حقيقة الأمر ليست إلا انعكاسًا لشخصيتهم الذاتية وطيفًا لها، ولكنه يحدث أحيانًا أن هذه القوى عينها يمكن أن تجتذب وتدبر من غير شعور بواسطة كائنات تجهل قوانينها، ولكنها هُيئت وأعدت لذلك بما لها من خصائص شاذة في طبائعها، ومثل تلك الكائنات ما اتفق اليوم على تسميته [بالوسطاء] وهؤلاء أيضًا يعيون القوى التي ينقلون بها شخصية ظاهرية، ولكنهم يخسرون بإزاء ذلك سلامة حالاتهم النفسية التي يعتريها من تلك القوى اضطرابات قد تصل إلى حد الانحلال الجزئي في الشخصية.

ولنا على هذا النوع من الاستحواز اللاشعوري، أو اللا إرادي الذي يقع فيه الكائن تحت رحمة القوى الخارجية بدلًا من تسلطه عليها.

ملاحظة هامة: هي أن جاذبية هذا النوع يمكن أن تؤثر في هذه القوى ليس فقط بوساطة أناس [وسطاء] كما تقدم ذكره، ولكنه يحدث أيضًا بوساطة كائنات حية أخرى، بل حتى بوساطة أشياء غير حية، أو بوساطة أمكنة معينة تتركز فيها تلك القوى فتنتج بعض الظواهر الشاذة، هذه الكائنات والأشياء إذا جاز لنا أن تستعمل اصطلاحًا يبرره التشابه بقوانين القوى الطبيعية، إنما تقوم مقام «الأجهزة المكثفة»، وهذا التكثيف قد يتم من تلقاء نفسه، ومن جهة أخرى يستطيع الذين يعرفون قوانين هذه القوى اللطيفة أن يركزوها أيضًا بطرق خاصة وذلك بالاستعانة بمواد أو أشياء معينة طبيعتها توافق النتائج المرغوب في تحصيلها.

 وعلى عكس ما تقدم يمكن هؤلاء أيضًا أن يحلوا تكاثف تلك القوى اللطيفة التي كونوها قصدًا بأنفسهم أو بواسطة غيرهم، أو التي تكونت بذاتها من غير تدخل.

ولهذا التحليل لم يجهل الإنسان -في أي عصر من العصور- ما للأطراف المعدِنية المدببة من منفعة في تحليل أو تفريع القوى المكثفة، وفي هذا مشابهة شديدة بتفريع الظواهر الكهربائية، وإنه ليحدُث إذا ما لمس الإنسان بطرف معدني مدبب نفس النقطة التي يوجد منها ما يمكن أن يسمى «عقدة التكاثف»؛ فإنه يصدر عن ذلك شرار، ولو أنَّ هذا التكثيف قام به ساحر -كما يحدث كثيرًا- فإنَّه يجوز أن يُجرح أو يقتل برد فعل الضربة مهما كان موضعه، ومثل هذه الظواهر شُوهدت في كل زمان وفي كل مكان.

وعمليتا التكثيف والتحليل المُشار إليهما، لهما نظائر في حالات تستخدم فيها قوى من نوع آخر كَمَا في علم الكيمياء؛ لأنهما إنما ترجعان إلى قوانين كلية شاملة كانت معروفة في العلم القديم وخاصة في الشرق، ولكنها مجهولة عند الحديثين بتاتًا على ما يظهر، وفي الفُرجة التي تنحصر بين هذين الطرفين «التكثيف والتحليل»، يستطيع الشخص الذي يُدبر هذه القوى اللطيفة أن يُلبسها نوعًا من الشعور مِمَّا يجعل لها شخصية ظاهرية تخدع الذين يواجهون تلك القوى المُكثَّفة فيظنون أنها أمام كائنات حقيقة.

وإمكان تكثيف تلك القوى اللطيفة في أشياء تختلف طبائعها تمام الاختلاف ثُم الحصول على نتائج ذات مظهر شاذٍّ غير عادي من ذلك التكثيف، إنَّما يُميط اللثام عن خطأ الرأي الذي يعتنقه المحدثون والذي يذهب إلى أن «الوسيط» لا بد أن يكون إنسانًا، وينبغي أن ننبه هنا إلى أنه قبل الروحانية الحديثة كان استخدام الإنسان كمكثف أمرًا مقصورًا على أحطِّ أنواع السحرة، لما يحيق بالوسيط من مخاطر مهلكة من جزاء ذلك الاستخدام.

ونضيف إلى ما تقدم أنَّه بخلاف ما سبق من وسائل التكثيف، توجد وسيلة أخرى مخالفة لها تمامًا، لا تقوم على مبدأ تكثيف القُوى اللطيفة في كائنات أو أشياء خارجة عن الشخص الذي يقوم بهذا العمل، ولكنَّها تقوم على مبدأ تكثيفها في نفسه؛ وذلك كيما يستخدمها وفقًا لإرادته، وكيما يوجد تحت تصرُّفه إمكان مستديم لإنتاج ظواهر معينة، واستعمال هذه الطريقة أمر مراعَى في الهند على وجه الخصوص، ويحسن بنا أن نشير هنا إلى أن هؤلاء الذين يتوفرون على الحصول على نتائجَ غير عادية بهذه الطريقة، أو بغيرها مِمَّا سلف ذكره، ليسوا أهلًا لما يُسبِغُه الناس عليهم من جدارة وتفوق، وإنَّما هم في الحقيقة أناس وقف نموهم الباطني في درجة معينة -لسبب من الأسباب- فلم يستطيعوا أن يسيروا إلى أبعدَ منها، فنتج عن ذلك أنهم توفروا على بذل نشاطهم في أشياء من نوع أعلى.

على أنَّ المعرفة التَّامة الدقيقة بتلك القوانين التي تَسمح للإنسان بأن يتصرف في القوى اللطيفة إنَّما كانت على الدوام مقصورة على عدد يسير من الناس؛ وذلك لما ينتج من المضار إذا ما ذاعت بين من لهم مقاصد سيئة، ويوجد في الصين كتاب منتشر جدًّا عن «القوى السابحة»، ولكنه لا يتناول غير تطبيق ضيق لتلك القوى على نشأة الأمراض وكيفية علاجها، وما عدا هذا ألَّا يكون في الحقيقة غير موضوعِ دراسةٍ شفوية محضة، ومع ذلك فإن الذين يعرفون قوانين القوى السابحة معرفة تامة، يكتفون بتلك المعرفة ويزهدون تمام الزهد في تطبيقها واستخدامها عمليًّا، وهم ينكرون على أنفسهم أن يُثيروا أي ظاهرة من ظواهر تلك القوى بقصد إدهاشِ الناس أو بقصد إشباع نزعة حُبِّ الاستطلاع عندهم، وإذا تَحَتَّم عليهم مع ذلك أن يحدثوا بعض الظواهر -لأسباب مباينة تمامًا لِمَا تَقَدَّم ذكره من الأسباب وفي ظروف خاصة- فإنَّهم يفعلون ذلك بوسائل مخالفة تمامًا لما هو معروف، ويستعملون فيه قوى من نوع آخر، ولو تشابهت النتائج الظاهرة.

وإذا وجد هناك تشابهٌ بين القوى الحسية كالكهرباء، وبين القوى اللطيفة أو النفسية؛ فإنَّه يوجد أيضًا مثل هذا التشابه بين هذه الأخيرة وبين القوى الروحية التي يمكن -مثلًا- أن تتركز بدورها في أمكنة معينة، أو في أشياء معينة أيضًا، ويمكن أن تَصْدُر نتائج تتشابه في الظاهر عن تلك القوى المتباينة في طبائعها وهذه المشابهات الظاهرية، هي مصدر الخلط والانخداع الكثيرين اللذين لا يمكن أن يتحاشاهما الذين يتوفرون على تحقيق تلك الظواهر.

فالسَّحَرَةُ يمكنهم -ولو إلى حَدٍّ محدود- أن يقلدوا بعض كرامات الأولياء، ومع هذا التشابه الظاهري في النتائج؛ فإنه ليس يوجد شيء مشترَك بين مصادرها المتباينة فيما بينها تمامًا.

وليس يدخل في موضوعنا هذا التكلم عن فعل هذه القوى الرُّوحِية، ولكننا مما تقدم نستطيع على أقلِّ تقديرٍ أن نستمد النتيجة المهمة، وهي: أنَّ الظواهر بمفردها لا تقوم دليلًا، ولا تنهض حُجَّةً على شيء من الأشياء، وأنَّها لا تستطيع أن تثبت صحة نظرية من النظريات أيًّا كانت؛ إذ إن نفس الظواهر تجِب أحيانًا أن تفسر بصورة تختلف باختلاف الأحوال والظروف، وإنه ليندُر ألَّا يوجد لظواهر معينة إلَّا تفسير واحد ممكن.

ونخلص من هذا كله إلى أن العلم الحقيقي لا يُمكن أن يتكون إلا إذا بدأ من فوق؛ أعني من «مبادئ عالية»، نطبقها على الوقائع التي ليست في الحقيقة إلَّا نتائج لتلك المبادئ تقرب أو تبعد عنها، وهذا نقيض ما يفعله العلم الغربي الحديث تمامًا، ذلك العلم الذي يريد أن يبدأ من الوقائع ليستخرج منها تفسيرًا شاملًا، كما لو كان الأكثر يمكن أن يستخرج من الأقل، وكما لو كان الأوضع يتضمن الأرفع، وكما لو كانت المادية يمكن أن تكون معيارًا للروح وحدًّا لها.

في الحضارة الروحانية لا يتصور أن إنسانًا يزعُم أنه صاحب فكرة معينة ابتدعها أو اخترعها، وإذا زعم ذلك شخص، فإن هذا يكفي في إزالة الثقة بفكرته، لأنها تعد حينئذ مجرد خيال؛ إذ إنَّ الفكرة إذا كانت حقيقة، فهي مَشاع بين كل من هم أهل لفهمها، أما إذا كانت خطأ فإنَّه لا يفتخر أحد بادعاء اختراعها، والفكرة الحقيقة لا يمكن أن تكون «جديدة»؛ ذلك أنَّ الحقيقة ليس نتاج العقل الإنساني، إنها موجودة مستقلة عنَّا، ومهمتنا أن نعرفها، أما إذا خرجنا عن دائرة هذه المهمة فإنه لا يمكن أن نُخرج إلا الخطأ، ولكن أيبحث الحديثون عن الحقيقة؟ وهل يعلمون معنى هذه الكلمة؟ إنَّ الكلمات فقدَت معانيها في هذا العصر الحديث، فأصحاب مذهب «البرجماتسم» المعاصرون يعرفون «الحقيقة» بأنها كل ما يصل بالإنسان إلى منفعة عملية، وهم في هذا يبتعدون كل البعد عن النظام الروحاني.

إن الفلسفة الحديثة -لأنها فردية شخصية- قد وصل بها الأمر إلى إنكار البصيرة، ووضع العقل فوق كل شيء، ولقد جعلت منه -وهو الملكة الإنسانية المَحْضَة- الجزء الأسمى من القوة الداركة، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك فصرت القوة الداركة على العقل، وهذا هو مذهب «العقليين»([4])، والمؤسس الحقيقي له هو في الواقع ديكارت، وقصر القوة الدراكة على العقل ليس إلَّا مرحلة أولى؛ إذ إن العقل نفسه أخذ ينزل شيئًا فشيئًا عن صفته النظرية إلى أن حدد عمله بأنه على الخصوص الناحية العملية، وهذا التحديد كان تابعًا لزيادة الاهتمام بالتطبيق العملي، ذلك الاهتمام الذي يجعل الناحية العلمية النظرية في المرتبة الثانية، على أنَّ ديكارت نفسه كان في الحقيقة معنيًّا بالتطبيق العملي أكثر من عنايته بالعلم البحث، وليس هَذَا كل شيء؛ فإن الفردية الشخصية في الفلسفة قد أدت بالضرورة إلى المذهب الطبيعي([5])؛ لأن كل ما هو خارج عن الطبيعة بعيد عن متناول الفرد باعتباره فردًا.

والمذهب الطبيعي وإنكار ما وراء الطبيعة، هما شيءٌ واحد، وإذا كانت الفلسفة الحديثة قد أنكرتِ البصيرة، فإنَّه لم يعُد هناك مجال للبحث فيما وراء الطبيعة؛ بيد أنَّه إذا كان بعض الأشخاص لا يزالون يصرون على إقامة مذاهب «مزيفة» فيما وراء الطبيعة، فإن غيرَهم قد اعترف في صراحة بعدم إمكان ذلك؛ ومن هذه النظرة نشأ «النسبيون»([6]) في مختلف صورهم، سواء في ذلك «المذهب النقدي»([7]) لــ «كانت»، أو «الفلسفة الوضعية»([8]) لأوجيست كونت، وبِمَا أن العقل نفسه نسبي، ولا يمكن أن يثمر حقيقة إلَّا في محيط نسبي كذلك؛ فإنه من الواضح أن مذهب «النسبية» هو النهاية المنطقية للمذهب العقلي.

وبذلك يهدم المذهب العقلي نفسه؛ ذلك أن «الطبيعة» و«الصيرورة» يعنيان في الواقع شيئًا واحدًا؛ ولذلك كان الطبيعي المنطقي المنسجم مع منطقه فيلسوفًا من فلاسفة الصيرورة، ومثله الأعلى يتحقق في مذهب «النشوء والارتقاء» وهذا المذهب هو الذي ينتهي إلى معارضة «المذهب العقلي» في أنَّه يأخذ على العقل أنه لا يمكنه أن يقوم بدوره قيامًا صحيحًا في دائرة التغير والصيرورة والكثرة، إنَّه يعجز عن أن يجعل قواعده تحتوى على التغيرات الحسية اللانهائية المتأرجحة، ومن هنا كانت الصورة الحديثة التي لبسها مذهب النشوء والارتقاء؛ أعني مذهب «الحدْس» لبرجسون وهو مذهب فردي لا يتمشى مع الاتجاه الروحاني، مثله في ذلك مثل «المذهب العقلي».

وإذا كان صاحب مذهب الحدس قد انتقد المذهب العقلي، فإنه قد نزل إلى مرتبة دنيا حينما التجأ إلى ملَكة أحقر من العقل هي الحدث الحسي الذي لم يُحدده برجسون تَمَام التحديد، والذي امتزج قليلًا أو كثيرًا بالخيال وبالغريزة وبالعاطفة، وهكذا وَصَلَ بنا الأمر أنَّنا لم نعد بصدد البحث عن «الحقيقة» ولكن بصدد البحث عن «الواقع»، بل «الواقع» المقتصر على الدائرة الحسية مفهومة على أنها في جوهرها متغيرة متأرجحة بين هذه النظريات جردت القوة الدَّاركة عن جميع أقسامها السامية، واقتصر فيها على أدنى أجزائها، بل إنَّ العقل نفسه لم تَعُدْ له من قيمة إلَّا في الأعمال الصناعية، وبعد كُلَّ ذلك لم يعد إلا خطوة واحدة هي الإنكار المطلق لقيمة القوة الدَّاركة، وللمعرفة ووضع «المنفعة» بدل «الحقيقة»، وهذا هو مذهب «البرجماتسم»([9])، وهو مذهب لا يستشرف المعرفة الرُّوحانية، ولا يتجه إلى السماء يستلهمها الرشاد الحق، بل إنه لا يقف بنا عند حد المعرفة البشرية الإنسانية كالمذهب العقلي، إنَّه ينزل بنا إلى مرتبة أقلَّ من المرتبة الإنسانية، مرتبة تستضيء «باللاشعور» الذي يجعله وليم جيمس الواسطة إلى الاتصال بالألوهية، وفي هذا قلب للأوضاع الطبيعية.

تلك هي خاتمة الفلسفة في العصر الحديث وهي خاتمة ما كان يمكن أن توجد في حضارة روحانية.

لا نريد أن نطيل في الحديث عن الفلسفة الحديثة؛ فإنه يجب ألا نعطيها من الأهمية أكثر مما ينبغي لها، إنها من وجهة نظرنا لا تعدو أن تكون نصًّا يعبر عن اتجاه البيئة في زمن معين، إنَّها تعبر عن اتجاه البيئة ولكنها لا تنشئها، وإنه لمن المؤكد أن الفلسفة الحديثة تنتسب في أصولها إلى ديكارت، ولكن تأثير ديكارت -في عصره أولًا، ثم فيما تلاه- ما كان يمكن أن يوجد لو لم تكن الآراء التي قال بها تتجاوب مع اتجاهات سبقته وعاصرته، إن الروح الحديثة وجدت في الديكارتية مرآة تصورها، فلما نظرت في المرآة تبينت نفسها في وضوح أوضح، على أننا نجد في كل الميادين أن الظواهر التي تشبه الديكارتية هي نتائج أكثر منها مبادئ مبتدعة، إنها ثمرة عمل موجود وإن كنا لا نشعر به في وضوح، وإذا كان ديكارت أوضح مثل للانحراف الحديث فإنه ليس المسئول عن ذلك وحده، بل ليس أول مسئول عن ذلك.

 

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 314 - 338.

 



([1])   «مجلة المعرفة»: صفر سنة 1350هـ, يولية سنة 1931م.

([2])   «مجلة المعرفة»: ربيع الثاني 1350هـ، سبتمبر سنة 1931م.

([3])   «مجلة المعرفة»: جمادى الآخرة 1350هـ، نوفمبر سنة 1931م.

([4])   Rationalismeمذهب فلسفي يرفض الوحي كمصدر للمعرفة، ويزعم تفسير كل شيء بواسطة العقل وحده.

([5])   Naturalismeالمذهب الطبيعي، هو المذهب الذي يعزو كل شيء إلى الطبيعة، ويرى أنها المبدأ الأول.

([6])   المذهب النسبي Relativismeمذهب فلسفي يرى أن المعارف الإنسانية كلها نسبية.

([7])   Criticismeمذهب فلسفي لــ «كانت»، يبحث في الحدود التي يجب أن يتخطاها العقل إذا أراد السير في دائرته التي خلق لها.

([8])   Positivismeهو مذهب فلسفي أسسه أوجيست كونت، يَزعُم أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف في دقة إلَّا الحقائق التي تستمد عن طريق الملاحظة أو التجربة.

([9])   عقيدة تجعل الفائدة العملية مقياس الحقيقة، فالحقيقة في هذا المذهب تطلق بكل بساطة على كل ما له فائدة عملية.


التقييم الحالي
بناء على 2 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث