نسخة تجريبيـــــــة
بين جيد وجينو

للإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر رحمه الله حديث شيق عن الشيخ عبد الواحد، وكيف تكونت علاقته به، وكان له أيضا فضل تعريف قراء العربية بهذا الشيخ الصوفى الشاذلى الجليل ، الفرنسى الأصل، ومن ضمن حديثه هذا يقول الإمام الأكبر رحمه الله تعالى:

"بين جيد وجينو:

قال صاحبي([1]):

- تحدث مع جيد عن جينو؛ فإنه كثيرًا ما يلتقي الآن بمريد مشهور هو السيد عبد الله.

كنت على صلة بالسيد عبد الله، فقد كان فرنسيًّا اعتنق الإسلام، وكان ينتسب روحيًّا إلى جينو الذي كان يقيم حينئذ في القاهرة، وكانا يتبادلان الرسائل دون انقطاع.

كان جينو في القاهرة الحلقة المركزية -على ما يقولون- التي تصل الشرق بالغرب.

في الناحية الروحية، وكنت أنا وزوجتي قد أخذنا بحظ وافر من الثقافة التي كتبها جينو، وكنت معجبًا بآرائه، واستمر هذا الإعجاب على مر الزمن.

لقد انتقل جيد وعبد الله وجينو من هذا العالم إلى حيث يلقون ربهم؛ أما عبد الله -وكان يسمى بالفرنسية جورج- فقد توفاه الله في مكناس، توفاه الله صوفيًّا، وحيدًا، مضطجعًا على فراش صلاته، مسجى في ثيابه البيضاء، وفي يده المسبحة.

لقد وجدوه نائمًا على فراشه، عيناه مسبلتان، وسبابته تشير إلى السماء.

كان عبد الله في حياته يعيش عيشة الزاهد، ويسير متواضعًا في ثيابه النظيفة الطاهرة، كان متحدثًا لامعًا، وكان لحديثه -وهو ينساب من بين شفتيه في سهولة ويسر- جاذبية لطيفة، كان قد تعلم لغة الضاد، وكان يفهم نصوصها في دقة، ولم يكن على شيء من العجب أو الادعاء الكاذب، وكان يضم بين جوانحه الإيمان الحار والتواضع المثالي.

قال صاحبي: تحدث مع جيد عن جينو ... وتحدثت.

قال جيد: إذا كان جينو على حق؛ فإنه من الواضح أن كل آرائي تصبح عديمة القيمة، إنها تنهار انهيارًا تامًّا.

فقال أحد الحاضرين: ويرافقها في الانهيار كثير من آراء أئمة الفكر، آراء الفيلسوف «منتني» مثلًا.

فاستغرق جيد في التفكير، وبدا عليه عدم الرضا بهذا الاحتمال؛ بل بدا عليه القلق، ثم أعلن في صراحة: إنني حقًّا ما أجد شيئًا قط أعترض به على ما كتبه جينو، إن ما كتبه لا يتطرق إليه النقض.

وساد المجلس صمت عميق، ولم يجرؤ أحد على أن يتعرض لنقض ما أعلن جيد نفسه أنه لا ينقض؛ بل بدا على وجوه القوم الرضا بما قال جيد، وإن كان ما قاله لم يكن متوقعًا، وقطع جيد الصمت بتصريح لم نكن أيضًا نتوقعه منه:

لقد قضي الأمر، وبلغت من الكبر عتيًّا، وتخطيت السن التي كان من الممكن أن يقلب الإنسان فيها حياته رأسًا على عقب.

وتابع حديثه: ثم إنني أحب الحياة، أحبها في قوة، وأحبها في تنوعها، ولا أريد أن أحرم نفسي من متعها مختلفة الألوان، لا أريد أن أضحي بكل ذلك في سبيل الوحدة، الوحدة المبهمة، اللامحدودة([2]).

ومما كتبه جيد بقلمه في «جرناله»: إن السيد عبد الله الذي اعتنق الإسلام، قد مهد لي الفرصة لقراءة كتب جينو([3]).

ماذا كنت أصير لو صادفت هذه الكتب في ريعان شبابي، في ذاك الوقت الذي استغرقت فيه في قراءة (طريقة للوصول إلى الحياة السعيدة)، في ذاك الوقت الذي كنت أنتبه فيه إلى دروس الفيلسوف فيشت هادئًا وديعًا؟

ولكن كتب جينو لم تكن قد ألفت حينئذ، وإذا كانت موجودة الآن فإن السن قد تقدمت بي، «لقد قضي الأمر ولم يعد في الإمكان عمل أي شيء».

لم يعد في الإمكان الرجوع القهقرى إلى سن الشباب المقدام، لقد أصبح ذهني مجردًا عن المرونة، وليس من السهل عليه أن يتقبل هذه الحكمة القديمة، حكمة جينو، إنني على مذهبي ديكارت وبيكون، وسأظل كذلك.

حقًّا إن كتب جينو رائعة، وإنه لعلى هدى فيما يتعلق بآرائه الخاصة بالنتائج السيئة للقلق الذي يسود العالم الغربي؛ ولكن المخاطرة الخطرة «الحضارة الحديثة» التي ألقينا بنفسنا فيها مجازفين غير متحفظين، هي أهل لأن نتحمل من أجلها ما تثيره لنا من متاعب، ومع ذلك فإننا لا نستطيع الآن -ولو حاولنا- أن نعود إلى الوراء، يجب أن نسير إذن فيما شرعنا فيه إلى الأمام، وأن ننتهي به إلى غايته مهما كانت هذه الغاية. (انتهى باختصار).

من هو جينو؟ كيف كانت حياته؟ وما هي آراؤه؟".

هذا سيكون حديث مقالات مستقلة تحدثنا عن حياة الشيخ وبعض آرائه.

 

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 285 - 288.

 

 



([1])   من حديث جرى في الجزائر بين الكاتب الفرنسي هنري بسكو، وبين أشهر كتاب فرنسا وأدبائها في العصر الحديث أندريه جيد، نشرته مجلة فرنسا - آسيا [باختصار].

([2])   عن العدد 80 من مجلة فرنسا - آسيا الخاص «بجينو».

([3])   ألف جينو ما يقرب من سبعة عشر كتابًا بالفرنسية، وقد ترجم منها الكثير إلى اللغة الإيطالية والإنجليزية، وترجم منها إلى الإسبانية والبرتغالية والألمانية.

       ومن الطريف أن كتابين من كتبه قد ترجما إلى لغة التبت، ولأجل أن تنتشر ترجمتها في أكبر عدد ممكن؛ وضعها المترجم كشرح لوصية «الدالاي لاما» الثالث عشر.

       وكان الشرح -وهو الترجمة-يبتدئ بالعبارة: قال لاما عظيم عربي ... ولم يدر بخلد أهل التبت شك في أن هذا اللاما العربي العظيم كان يشرح حقيقة وصية رئيسهم الديني.


التقييم الحالي
بناء على 3 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث