لقد كان للشيخ عبد الواحد يحيى دوره الذى لا ينكر فى دفاعه عن الإسلام.
لقد أخذ المبشرون منذ زمن بعيد يختلقون الأباطيل ضد الإسلام، ولكنهم كانوا كناطح الصخرة يرتد عنها واهن القوى، والله غالب على أمره.
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9], لقد اتهم المبشرون الإسلام بأنه لا يثمر الروحانية العميقة؛ فرَدَّ الشيخ عبد الواحد هذه الشبهة ردًّا عنيفًا في فصل عن التصوف الإسلامي، مقارنًا بينه وبين التصوف المسيحي, وسنتحدث عنه فيما بعد.
واتهم المبشرون الإسلام بأنه دين سيف, لم ينتشر بالبرهان, وإنما انتشر بحد الحُسام, وأرجفوا بأن الحضارة الإسلامية لم تتسم بالقوة الذاتية التي تجعلها تؤثر في أقاليم غير التي نشأت فيها؛ ولذلك كانت حضارة إقليمية محلية تُسهم في التقدم الإنساني.
وكما ردَّ الشيخ عبد الواحد على التهمة الأولى في أبحاثه عن التصوف الإسلامي, فقد رد كذلك على التهمتين الأخيرتين بما لا يدع لأراجيف المبشرين مكانًا, ونحن نذكر رده فيما يأتي:
1- الإسلام والسيف:
تعود الغربيون أن ينظروا إلى الإسلام على أنه دين يتميز بطابعه الحربي, وإذا ذكر السيف في النصوص الإسلامية فهمه الغربيون فهمًا حرفيًّا, ولم يتأتَّ لهم قَطُّ أن يسألوا أنفسهم عمَّا إذا كان معنى آخر.
ومما لا شك فيه أن الإسلام لا يخلو من جانب حربي, ولكن ذلك ليس خاصًّا بالإسلام, فإنه يوجد في أكثر الأديان, ويوجد في المسيحية.
إننا لا نريد في هذا المقام أن نذكر كلمة المسيح نفسه: «لم آتِ لأحمل إليكم سلامًا وإنما أتيت بالسيف»؛ لأنها قد تُحمل محمل السخرية.
ولكن تاريخ المسيحية في العصور الوسطى -أعني تلك العصور التي انتشرت فيها وازدهرت- يقدم لنا الدليل الكافي على جانبها الحربي، بل إن الديانة الهندية, التي يأخذ عليها كثير من الناس أنها لا تدعو إلى العمل, لا تخلو من الجانب الحربي الذي يتمثل في بعض نصوصها.
إن أيَّ شخص لم يعمه رأي فطير عن رؤية الحق, من السهل عليه أن يفهم أن الحرب ما دامت موجهة ضد هؤلاء الذين يعبثون بالنظام الاجتماعي, فإنَّها تعتبر مشروعة, من أجل إعادة النظام واستتبابه, إنَّها ليس إلا مظهرًا من مظاهر «العدل» حينما يفهم العدل بمعناه الأعم، لا بد إذن من الجانب الحربي في كل دين؛ لتحقيق العدالة, وإشاعة الأمن, ونشر الطمأنينة والنظام.
ومع ذلك فإن هذه النظرة إلى الحرب على أنها رمز للجهاد العنيف الذي يجب أن يقوم به الإنسان ضد أعدائه الذين بين جنبيه, أعني ضد كل العناصر التي تعمل في داخله ضد النظام والوحدة.
وسواء كُنَّا بصدد النظام في المجتمع أو بصدد النظام الروحي للشخص, فإن الحرب يجب أن تتجه أيضًا, وباستمرار إلى توطيد التوازن والتناسق -من أجل ذلك تعلقت حقيقة «بالعدل»- وإعادة الوحدة نوعًا ما بين مختلف العناصر التي تتعارض وتتصارع فيما بينها, وهذا يرشد في وضوح إلى أن نتيجة الحرب الطبيعية هي الانسجام.
والعلة الوحيدة التي تبرر وجودها في الإسلام إنَّما هي السلام, والسلام لا يتأتى حقيقة إلا بالاستسلام التام للمشيئة الإلهية: الإسلام.
وأظن أننا لسنا في حاجة إلى أن نبين العَلاقة الوثيقة في اللغة العربية بين كلمة الإسلام والسلام؛ فإن ذلك من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تبيان، وفي السنة الإسلامية يتمثل هذان المعنيان للحرب, وتتمثل نسبة أحدهما إلى الآخر واضحة جلية في حديث شريف قاله الرسول > عند رجوعه من إحدى الغزوات وهو: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
فالحرب المقدسة الخارجية هي الجهاد الأصغر, في حين الحرب الداخلية -حرب النفس-هي الجهاد الأكبر، وأهمية الجهاد الأصغر إذن تعتبر ثانوية بالنسبة لأهمية الجهاد الأكبر، وفي مثل هذه الأحوال يكون من الطبيعي جدًّا أن ما يُستعمل في الحرب الخارجية قد يُتخذ رمزًا فيما يتعلق بالحرب الداخلية, ويتمثل ذلك على الخصوص فيما يتعلق بالسيف.
وممَّا ينبغي ملاحظته أن الخطيب في أثناء خطبة الجمعة يمسك بيده سيفًا، وإنه لمن الواضح أن الخطيب حينئذ ليس في حالة حرب بالمعنى العادي لهذه الكلمة؟ على أن سيفه عادة يُتخذ من خشب, فلا يمكن والحالة هذه إلا أن يكون رمزًا، إنه على الخصوص رمز لقوة تأثير الكلام في النفس.
أما حدَّاه فإنهما رمز للبناء والهدم بواسطة الأسلوب, إن الخطيب يمكنه بالخطابة أن يقود المستمعين إلى الإيمان بفكرة, أو أن يَنفي من رءوسهم الإيمان بها.
وهذه المعاني الرمزية للسيف لا توجد في الإسلام فحسب, وإنَّما وجدت في غيره من الديانات، والسيف -أحيانًا- رمز للمحور, وهذه الفكرة نفسها تذكرنا بالهدف الذي اتخذه الإسلام للحرب المقدسة, سواء كانت داخلية أم خارجية -أعني التناسق والانسجام- ومن البَيِّنِ الواضح أن المحور هو المكان الذي ينسجم عنده المتعارضون, ويزول تعارضهم, أو بتعبير آخر: هو مكان التوازن الكامل, وهو الوسط الذي لا يطرأ عليه التغير.
ومِمَّا ينبغي ملاحظته بالنسبة للإسلام, أنه يفرق بين «حرب» و «جهاد»؛ فإذا كان الأمر أمر مباديء عليًا, أمر إعلاء كلمة الله؛ فالواجب «الجهاد» أعني الحرب المقدسة؛ الحرب من أجل الحق، وذلك هو المشروع في الإسلام، أما غير ذلك فإنه حرب وليس بجهاد. وهكذا يرمز السيف في الإسلام إلى التوازن الاجتماعي «العدالة»، وإلى سيطرة الإنسان على أهوائه «الجهاد الأكبر» وإلى وجوب انسجام الفرد والمجتمع في وحدة لا تعارض فيها كوحدة المحور الذي لا يعتريه التغير أبدًا.
إن ما سبق إنَّما هو جمع لبعض الملاحظات التي كان من الممكن أن نتوسع فيها ونتعمق، ولكنها -على ما هي عليه- تبين في وضوح أن الذين لا يفهمون من معنى السيف في الإسلام إلَّا المعنى المادي بعيدون كل البعد عن الحقيقة.
2- أَثَرُ الثقافة الإسلامية في الغرب:
إنَّ كثيرًا من الغربيين لم يدركوا قيمة ما اقتبسوه من الثقافة الإسلامية, أو يفقهوا حقيقة ما أخذوه عن الحضارة العربية في القرون الماضية، بل ربما لم يدركوا منهما شيئًا مطلقًا؛ وذلك لأن الحقائق التي تلقى إليهم حقائق مشوهة, حظها من الصحة قليل, فإنها تبالغ كل المبالغة في الحط من شأن الثقافة الإسلامية, والتقليل من قدر المدنية العربية, كلما أتاحت الظروف لأصحابها ذلك.
ويلاحظ أن دِرَاسَة التاريخ في المعاهد الغربية لا توضح هذا التأثير، بل إن الحقائق تناولتها يد التحوير والتحريف؛ قصدًا في كثير من الحوادث عظيمة الشأن جليلة الخطر، مثال ذلك ما هو شائع معروف من أن أسبانيا ظلَّت تحت الحكم الإسلامي عدة قرون في حين لا يذكر التاريخ الغربي أن صقلية والجزء الجنوبي الحالي لفرنسا كانا تحت الحكم الإسلامي أيضًا.
وربما عزا البعض هذا الإهمال من المؤرخين إلى تعصبهم الديني, ولكن ما هي حُجَّةُ المؤرخين المعاصرين –وغالبهم لا ديني- في موافقتهم أسلافهم في قلب الحقائق؟.
لهذا ينبغي أن ندرك مقدار زهو الغربيين وكبريائهم, مما منعهم عن إدراك الحقائق الصحيحة, ومقدار ما هم مدينون به للشرق، والأغرب من ذلك كله: أنَّه بينما يعتبر الأوربيون أنفسهم الورثة المباشرين للمدنية اليونانية القديمة, فإن الحق يدحض زعمهم هذا؛ إذ إن الواقع المعروف من التاريخ نفسه, يثبت لنا أن علوم اليونان وفلسفتهم لم تنتقل إلى الأوربيين إلَّا بواسطة المسلمين, وبعبارة أخرى لم تصل المخلَّفات العقلية لليونانيين إلى الغرب, إلَّا بعد أن درسها الشرق.
ولولا علماء الإسلام وفلاسفتهم لظل الغربيون جاهلين بتلك العلوم زمنًا طويلًا؛ بل ربما لم يدركوها كلية، وينبغي أن نلاحظ أننا نبحث هنا عن مقدار تأثير الحضارة الإسلامية لا العربية فحسب, كما يختلط على البعض أحيانًا؛ وذلك لأن معظم من حاولوا نقل هذه الثقافة الإسلامية لم يكونوا من العرب الخُلَّص, وإذا كانت لغتهم عربية, فإن ذلك ناتج عن تأثرهم بدينهم الإسلامي, وما دُمنا قد ذكرنا اللغة العربية فإننا نلاحظ دليلًا واضحًا يثبت لنا انتقال المؤثرات الإسلامية في الغرب، وهو تلك الكلمات العربية الأصل والمنبت, التي تستعمل تقريبًا في كل اللغات الأوربية، بل ما زالت تستعمل حتى وقتنا هذا, على أن معظم الغربيين الذين يستعملونها يجهلون حقيقة مصدرها كل الجهل، وإنما أن الكلمات هي التي تُستعمل لنقل الأفكار, وإظهار ما تُكنه النفوس, فإن من السهل علينا جدًّا أن نستنتج انتقال تلك الأفكار والآراء الإسلامية نفسها, وفي الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية, قد تناول -لدرجة بعيدة وبشكل محسوس- كل العلوم والفنون والفلسفة, وغير ذلك.
وقد كانت بلاد الإسبان مركز الوسط الهام الذي انتشرت منه تلك الحضارة، وليس غرضنا الآن أن نتفحص كل هذه الأنواع بالتفصيل، ونرى مقدار ما خلفته الثقافة الإسلامية فيها، ولكنَّا نركز بحثنا في بعض نقط, نعتقد أنها من الأهمية بمكان, وإن قل من يدركها في وقتنا هذا.
أما عن العلوم فمن السهل أن نفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية, فأما عن الأولى فإنَّا نعلم علم اليقين أنها انتقلت بكلياتها وجزئياتها إلى أوربا, عن طريق الحضارة الإسلامية, مصبوغة بالصبغة الإسلامية تمامًا؛ فالكيمياء احتفظت دائمًا باسمها العربي الذي يرجع أصله إلى مصر القديمة, والذي كان له معنى من أعمق المعاني التي لم يعرفها الكيميائيون الحديثون حقيقة.
ولنضرب مثلًا آخر بعلم الفلك, فإن أكثر اصطلاحاته الخاصة ما تزال محتفظة في كل اللغات الأوربية بأصلها العربي, كما أن كثيرًا من النجوم ما يزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون عليها أسماءها العربية، وهذا يرجع إلى أن مؤلَّفات الفلكيين اليونايين القدماء -مثل بطليموس الإسكندرية- كانت معروفة في التراجم العربية, ومجتمعة مع المؤلفات الإسلامية، ومن السهل جدًّا أن نوضح أن كثيرًا من المعارف الجغرافية الخاصة بالمناطق السحيقة في آسيا وأفريقيا, عُرفت من الرحالة العرب الذين جابوا كثيرًا من الأقطار، وحملوا معهم معلومات جمة.
أما من ناحية الاختراعات -وهي تابعة للعلوم الطبيعية- فقد انتقلت أيضًا بنفس الطريق أي بواسطة المسلمين، وما تزال قصة الساعة المائية التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى الإمبراطور شارلمان عالقة بالأذهان ثابتة الواقع.
أما الرياضيات فيجب أن نعيرها التفاتًا خاصًّا؛ وذلك لأهميتها في هذا البحث, فإن ميدانها الواسع لا نرى فيه علوم اليونان فحسب، بل نرى فيه أكبر الأثر للثقافة الإسلامية, مضافًا إليها علوم الهند أيضًا.
أما اليونان فقد بلغوا درجة الكمال في الهندسة وعلم الأرقام، ويلاحظ أن الأخير يرتبط دائمًا مع الأول في الأشكال الهندسية المناسبة، وهذا التوافق الذي كان للهندسة يظهر لنا جليًّا في الجملة التي حفرها أفلاطون على مدخل مدرسته: «لا يدخله إلا عالم بالهندسة».
ولكن يوجد علم آخر من الرياضيات يتبع علم الأرقام, ولكنه لم يكن معروفًا كالعلوم الأخرى في اللغات الأوربية بالاسم اليوناني؛ لأنه لم يكن معروفًا بين اليونانيين القدماء، هذا هو علم الجبر الذي كان مصدره الأول الهند, والذي يسهل علينا من اسمه العربي أن نعرف طريق انتقاله إلى الغرب.
حقيقة أخرى حان حينُ ذكرها ولو أنها قليلة الأهمية, ولكنها تدل أيضًا على ما قدمناه, وهي أنه من الشائع في كل مكان أن الأرقام التي يستعملها الأوربيون هي نفس الأرقام التي استعملها العرب, ولو أن مصدرها الأول هو الهند؛ لأن علامات العد التي كان العرب يستعملونها قديمًا ما هي إلا حروف الهجاء نفسها.
وإذا انتقلنا من بحث العلوم إلى بحث الفنون, فإنَّنا نلاحظ أن كثيرًا من المعاني التي جادَت بها قرائح الكُتَّاب والشعراء المسلمين في الأدب والشعر, قد أخذت واستعملت في الأدب الغربي، بل أكثر من هذا, فإن بعض كتاب الغرب وشعرائه قد قلدوا تمام التقليد بعض كتاب المسلمين وشعرائهم.
وكذلك نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح, وبصفة خاصة في فن البناء, وذلك في العصور الوسطى؛ فمن ذلك شكل القوس المعقود الذي صار متميزًا بنفسه حتى صار يدل على طريقة خاصة للبناء كان يستعمل فيها، وقد كان مصدره فن البناء الإسلامي, ولو أن كثيرًا من النظريات الخيالية اخترعت لمخالفة هذه الحقيقة، ومما هدم هذه النظريات وجود رواية يتناقلها دائمًا البناءون أنفسهم، وهي تُثبت انتقال هذه الطريقة من الشرق، وقد كان لهذه الحقيقة صفة سرية جعلت لغتهم معنى رمزيًّا, فكانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الأرقام، وقد نسب هذا العلم في مصدره الأول لهؤلاء الذين بَنَوا هيكل سيدنا سليمان.
ومهما يكن من أمر هذا المصدر البعيد فلا يمكن بحال ما أن يكون انتقاله إلى أوربا إلا بواسطة العالم الإسلامي، ومما يحسن ذكره أن هؤلاء المعماريين -وقد كانوا هيئات متحدة لها شعائر خاصة- كانوا يعتبرون أنفسهم كأنهم أجانبُ في الغرب حتى في مساقط رءوسهم، وقد ظلت هذه التسمية حتى الآن، على أن هذه الأمور صارت غير معروفة إلا للقليلين جدًّا.
في هذه النظرة العجلى, ينبغي أن نذكر بصفة خاصة نوعًا آخر هو الفلسفة؛ فقد بلغ التأثير الإسلامي في القرون الوسطى مبلغًا عظيمًا لم يستطع أشد خصوم الشرق تعصبًا أن ينكر قوته، وهذا صحيح فإن أوربا لم يكن فيها من وسيلة أخرى لمعرفة الفلسفة اليونانية في ذلك الزمن؛ وذلك لأن التراجم اللاتينية لأفلاطون وأرسطو -وهي التي استعلمت حينئذ- لم تنقل أو تترجم من الأصل اليوناني مباشرة، بل أخذت من الترجمة العربية السالفة، وأضافوا إليها ما كتبه المعاصرون المسلمون في الفلسفة الإسلامية، ومن أولئك المعاصرين: ابن رشد, وابن سينا, وغيرهما.
والفلسفة التي كانت معروفة في ذلك الوقت باسم «الفلسفة المدرسية» كانت تتميز بها الفلسفة الإسلامية واليهودية والمسيحية, ولكن من الإسلام استمد النوعان الآخران مصدرهما، بل إن الفلسفة اليهودية -وهي التي ازدهرت في أسبانيا- كانت لغتها عربية، وذلك ثابت ويرى في المؤلفات الهامة لموسى بن ميمون، وعنه نقل فيلسوف يهودي آخر -بعد قرون عديدة- كثيرًا من فلسفته الخاصة, ذلك هو «سبينوزا».
وليس من الضروري أن نُصِرَّ على بحث أشياء معلومة لكل من درس شيئًا من تاريخ الفكر, بل يحسن أن نبحث أخيرًا في أشياء أخرى من نوع مختلف لا يعرفه معظم الحديثين, خصوصًا في الغرب, بل لا يكاد يكون لأحد ما أية فكرة ذات أهمية عنه، ولكن من وجهة نظرنا نرى له أهمية كبيرة أكثر من كل المعارف الخارجية التي تحتويها العلوم والفلسفة, وما نقصده بهذا هو التصوف, وما يتصل به, أو يعتمد عليه من أنواع المعرفة الأخرى الثانوية التي تختلف عن تلك العلوم التي يدرسها الحديثون كل الاختلاف.
وليس للغرب -في وقتنا هذا- شيء من أمثال تلك العلوم على حقيقتها, بل أكثر من هذا أن الغرب لا يعرف أيضًا من المعارف الحَقَّةِ -كالتصوف أو ما يماثله- شيئًا مطلقًا على أن هذه الحال لم تكن هي الحال في القرون الوسطى، وهذه المعارف لها أيضًا أثرها الإسلامي البَيِّن الواضح بأجلى وضوح في تلك العصور، ومن السهل جدًّا ملاحظة أثر ذلك في بعض المؤلفات التي تختلف معانيها الحقيقية عن الثمرات الأدبية كل الاختلاف.
وقد بَدَأَ هذا النوع يتضح لبعض الأوربيين أنفسهم, وذلك خلال دراساتهم لأشعار «دانتي» الإيطالي, ولكنهم لم يدركوا ماهية طبيعتها الحقة، ومنذ سنين عدة كتب المستشرق الإسباني «دون ميجيل آسين بلاثيوس» كتابًا عن المؤثرات الإسلامية في مؤلفات «دانتي» جاء فيه أن جزءًا كبيرًا من الرموز والإشارات التي استعملها «دانتي» كان يستعملها قبله بعض المحققين والكُتَّاب المسلمين, وبخاصة سيدي محيي الدين ابن عربي، ولكن لسوء الحظ نرى أن ملاحظاته لم تتعدَّ التخيلات الشعرية، على أن هناك كاتبًا آخر إيطالي الجنس، هو «لويجي فاللي»، تعمق بعض التعمق في البحث، فذكر أن دانتي لم يكن وحده الذي استعمل الإشارات المماثلة لما كان مستعملًا في الشعر الصوفي الفارسي والعربي، بل إن كثيرًا من الشعراء المعاصرين لدانتي في مملكته كانوا أعضاء في اتحاد أو هيئة سرية تسمى «أمناء الحب» وكان دانتي نفسه أحد رؤساء تلك الهيئة.
ولما حاول «لويجي فاللي» أن يحل ألغاز لغتهم السرية لم يتمكن من إدارك ما كانت تتميز به تلك الهيئة، أو ما يماثلها من الهيئات التي وجدت في أوربا أيام القرون الوسطى، على أن الحق هو أن بعض الشخصيات السرية كانت تستتر خلف تلك الهيئات لتكون مصدر إرشاد لها، وقد كانت تلك الشخصيات السرية, تعرف بأسماء مختلفة, من أهمها تلك التسمية «إخوان الوردة والصليب» وليس لهؤلاء قواعد مكتوبة يسيرون عليها، كذلك لم يكن لهم اجتماعات معينة، ولكل ما كانوا يعرفونه به هو أنهم وصلوا إلى حالات روحية خاصة، ويمكننا أن نصفهم بأنهم صوفيون غربيون, أو على الأقل متصوفة في درجات عالية.
وقد قيل إن هؤلاء «الإخوان» الذين كانوا يستترون بألبسة البنائين ورموزهم, كانوا يعلمون الكيمياء وعلومًا أخرى تُماثل ما كان مزدهرًا من العلوم في العالم الإسلامي.
والحَقُّ أنهم كانوا حلقة اتصال بين الشرق والغرب، وكانوا على اتصال مباشر بالصوفيين المسلمين، وقد كان ذلك الاتصال يستتر وراء رحلات مؤسسهم الخيالي، وليس هذا معروفًا في التاريخ الذي لا يتعمق كثيرًا في البحث، بل يكتفي فقط بمظهر الحوادث الخارجي, مع أن هناك المفتاح الحقيقي الذي يفتح لنا مغاليق كثير من الأشياء، ولولاه لاستمرت دائمًا غير واضحة بالمرة.
هذا جزء من كل من آثر الثقافة الإسلامية في الغرب، ولكن الغربيين لا يريدون أن يعترفوا به في وضوح؛ لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بفضل الشرق عليهم، ولكن الزمن كفيل بتبيان الحقائق التي يريدون إخفاءها.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 305- 314.