نسخة تجريبيـــــــة
موقفه من التصوف الإسلامى

التصوف الإسلامي هو الوسيلة الصادقة للمعرفة الحقة:

ربما كانت العقيدة الإسلامية -من بين العقائد الموحاة([1])- هي العقيدة التي يظهر فيها بوضوح التفرقة بين جزأين متكاملين هما: «الظاهر» و«الباطن»؛ أعني «الشريعة» وهي الباب الذي يدخل منه الجميع، و«الحقيقة» ولا يصل إليها إلا المصطفَون الأخيار، وهذه التفرقة ليست تحكمية، وإنما تفرضها طبيعة الأشياء؛ ذلك أن استعداد الناس متفاوت، وبعضهم مُعَدٌّ بفطرته لمعرفة الحقيقة.

وكثيرًا ما نجدهم يشبهون الشريعة والحقيقة بالقشر واللب، أو بالدائرة ومركزها، والشريعة تتضمن -فضلًا عن الناحية الاعتقادية- الناحية التشريعية والناحية الاجتماعية، وهما جزءان لا يتجزآن عن الدين الإسلامي، إنها أولًا وقبل كل شيء قاعدة للسلوك، أما الحقيقة([2])فإنها معرفة محضة، ولكن يجب أن نعلم أن هذه المعرفة هي التي تعطي الشريعة معناها السامي العميق، بل هي التي تبرر وجود الشريعة إنها في الحقيقة -وإن لم يشعر بذلك المؤمنون- المركز الأساسي، مثلها في ذلك مثل مركز الدائرة بالنسبة لمحيطها.

بيدَ أن «الباطن» لا يعني فقط الحقيقة، وإنما يعني كذلك السبل الموصلة إليها، أعني الطرق التي تقود الإنسان من الشريعة إلى الحقيقة.

وإذا رجعنا إلى الصورة الرمزية، الدائرة ومركزها، قلنا: إن الطريقة هي الخط الذاهب من محيط الدائرة إلى المركز، وكُلُّ نقطة على محيط الدائرة هي مبدأ الخط، وهذه الخطوط التي لا تحصى تنتهي كلها إلى المركز.

إنها «الطرق» وهي طرق تختلف تبعًا لاختلاف الطبائع البشرية.

ولهذا يقال: «الطرق إلى الله كنفوس بني آدم».

ومهما اختلفت فالهدف واحد؛ لأنه لا يوجد إلا مركز واحد وإلا حقيقة واحدة، على أن هذه الاختلافات الموجودة في المبدأ تزول شيئًا فشيئًا مع زوال الآنيَّة، وذلك حينما يصل السالك إلى درجات عليا تزول فيها «صفات العبد» التي ليست إلا سجنًا: «الفناء»، فلا تبقى إلا الصفات الربانية وقد تحققت «الذات» بها «البقاء».

والطريقة والحقيقة مجتمعتان يطلق عليهما: التصوف، وهو ليس مذهبًا خاصًّا؛ لأنه الحقيقة المطلقة، وليست الطرق مدارس مختلفة لأنها طرق، أي سبل موصلة جميعها إلى الحقيقة المطلقة: «التوحيد واحد».

ويجب أن يلاحظ أنه لا يمكن لأحد أن يطلق على نفسه أنه صوفي، اللهم إلا إذا كان ذلك منه جهلًا محضًا؛ لأنه بذلك يبرهن على أنه حقيقة ليس بصوفي, وذلك أن هذه الصفة «سر» بين الصوفي الحقيقي وبين ربه, ويمكن أن يقول الإنسان عن نفسه إنه متصوف, وهو عنوان يطلق على «السالك» في أي مرحلة كان، ولكن الصوفي بمعناه الحقيقي لا يطلق إلَّا على من بلغ الدرجة العليا، أما أصل هذه الكلمة: صوفي([3]), فقد اختلف فيه اختلافًا كبيرًا, ووضعت فروض متعددة, وليس بعضُها بأولى من بعض, وكلها غير مقبولة, إنَّها في الحقيقة تسمية «رمزية», وإذا أردنا تفسيرها ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية لحروفها, وإنَّ لَمن الرائع أن نلاحظ أن القيمة العددية لحروف «صوفي» تماثل القيمة العددية لحروف «الحكمة الإلهية», فيكون الصوفي الحقيقي هو الرجل الذي وصل إلى الحكمة الإلهية, إنه «العارف بالله»؛ إذ إنَّ الله لا يُعرف إلا به, وتلك هي الدرجة العظمى «الكلية» فيما يتعلق بمعرفة الحقيقة.

من كل ما سبق يمكننا أن نستنتج أن الصوفية ليست شيئًا أضيف إلى الدين الإسلامي, إنها ليست شيئًا أتى من الخارج فألصق بالإسلام، وإنما هي بالعكس تكون جزءًا جوهريًّا من الدين([4])؛ إذ إن الدين بدونها يكون ناقصًا، بل يكون ناقصًا من جهته السامية أعني جهة المركز الأساسي.

لذلك كانت فروضًا رخيصة تلك التي تذهب بالصوفية إلى أصل أجنبي: يوناني, أو هندي فارسي, وهي معارضة بالمصطلحات الصوفية نفسها, تلك المصطلحات التي ترتبط باللغة العربية ارتباطًا وثيقًا، وإذا كان هناك من تشابه بين الصوفية وبين ما يماثلها في البيئات الأخرى فتفسير هذا طبيعي لا يحتاج إلى فرض الاستعارة؛ وذلك أنه ما دامت الحقيقة واحدة فإن كل العقائد السُّنِّيَّة تتحد في جوهرها وإن اختلفت فيما تلبسه من صور.

ويجب ألَّا نعطي عناية كبيرة -حينما نتحدث عن أصل التصوف- لتلك المناقشات التي لا تنتهي بين مؤرخي التصوف خاصة لتحديد الفترة الزمنية التي وجدت فيها لفظة صوفي.

فإن الشيء قد يوجد قبل اسمه الخاص, سواء وجد تحت اسم آخر أو وجد ولم تكن هناك الحاجة لتسميته([5])، وعلى كل حال ففيصل الحق في مسألة أصل

التصوف هو ما يأتي: إن السنة ترشد في صراحة لا لبس فيها إلى أن الشريعة والحقيقة كليهما ينبعان مباشرة من تعليمات الرسول صلوات الله عليه. والواقع أن كل طريقة صحيحة تعتمد على «سلسلة» تصل دائمًا إلى الرسول. وإذا كانت بعض الطرق, فيما بعد, «استعارت» أو بتعبير أصح «تبنت«بعض التفاصيل في الطريق [وإن كان التشابه هنا أيضًا يمكن أن يعزي إلى التماثل في المعارف وعلى الخصوص فيما يتعلق «بعلم المقاطع والأوزان«في مختلف فروعه] فإن أهمية ذلك لا تعدو أن تكون أهمية ثانوية لا تمس الجوهر من قرب أو من بعد. والحق أن التصوف عربي إسلامي, كما أن القرآن - الذي يستمد التصوف أصوله منه مباشرة, عربي إسلامي إذا كان التصوف يستمد أصوله من القرآن, فمن الطبيعي ألَّا يوجد قبل أن يفهم القرآن ويفسر ويتدبر تدبرًا تتفجر عنه ينابيع «الحقائق» التي هي في الواقع معناه العميق، ولقد فسر القرآن أولًا لغويًّا ومنطقيًّا وكلاميًا, ولكن تفسيره صافيًا اقتضى مرور زمن لتأمله في عمق وشمول، وإذا كان القرآن مصدر الشريعة والحقيقة معًا فلا يوجد بينهما تناقض أو اختلاف ما، وكيف يوجد الاختلاف ومصدرهما واحد! وكيف يوجد الاختلاف والحقيقة لا تقوم إلا على الشريعة في أساسها وفي سندها.

التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي المزعوم:

على أنه يجب ملاحظة أن التصوف الإسلامي -خلافًا للفكرة الشائعة حاليًّا عند الغربيين - لا يمت بأية صلة إلى ما يزعمون أنه تصوف مسيحي, أعني ذلك النوع الذي يطلق عليه «الميستيسيسم»، أما أسباب ذلك فإنها سهلة الفهم وقد تضمنها ما سبق من حديثنا وهي:

1- يبدو واضحًا أن «الميستيسيسم» شيء خاص بالمسيحية، وإنه لتشبيه قائم على ضلال, ذلك الذي يستندون إليه في ادعاء وجود ما يماثل «الميستيسيم» في الأوساط التي لا تعتنق المسيحية.

ولا شك في أن هذا الفهم الخاطئ يرتكز على شيء من التشابه الخارجي الذي يتمثل في استعمال بعض التعبيرات، ولكن هذا لا يبرر أبدًا دعوى التشابه؛ وذلك لأن الفروق الجوهرية تفجأ النظر ولا تدع للتماثل مجالًا, فالميستيسيسم خاص بالمسيحية إذن.

2- ثم إنه جزء من الشريعة, إنه من قسم الظاهر, وهدفه بعيد كل البعد عن أن يكون المعرفة المحضة في حين التصوف على خلاف ذلك.

3- ثم إن المسيحي الذي اتخذ «الميستيسيسم» سبيلًا في الحياة ينهج في سلوكه منهجًا سلبيًّا، إنه يقتصر على تلقي ما يأتيه بدون أن يكون له أثر شخصي, إنه لا طريقة له إذن يسلكها هدفًا من وراء سلوكها إلى بلوغ غاية معينة.

ومن أجلِ ذلك لم يكن في المسيحية طرق صوفية؛ ولذلك لا يتخذ المسيحي «شيخًا» وليس عنده فكرة عن السلسلة أو الإسناد الذي بواسطته يصل إليه التأثير الروحي الذي لا بد منه في التصوف.

4- والاختلاف في الهدف أيضًا واضح, فهدف التصوف المعرفة, وهدف «الميستيسيسم» الحب, والنتيجة الحتمية من كل ما سبق هي أن التصوف و«الميستيسيسم» مختلفان كل الاختلاف، بل إن اللغة العربية لا تشتمل على أية كلمة تترجم -ولو تقريبًا- كلمة «ميستيسيسم»؛ ذلك أن الفكرة التي تعبر عنها هذه الكلمة غريبة كل الغرابة عن السُّنَّة الإسلامية.

التصوف والتحلل من الشريعة:

يبدو أن كثيرًا من الناس([6])يشكُّون في ضرورة التزام الشريعة لمن يريد أن يسلك السلوك الصوفي, وهذا في الواقع استعداد نفسي لا يوجد إلا في الغرب الحديث.

ولا شك في أن أسباب ذلك متعددة, ولا يعنينا هنا البحث في مدى المسئولية التي تقع على عاتق رجال الدين أنفسهم الذين يميلون إلى إنكار كل ما يتجاوز حدود الشريعة في مظهرها الحرفي؛ فليس ذلك جوهر بحثنا هنا.

بيد أنَّه من المدهش أنَّ بعض من يزعمون الانتساب إلى التصوف يقعون فيما وقع فيه رجال الشريعة, وإن كان بطريقة عكسية؛ ذلك أنهم ينكرون ضرورة الشريعة أو يهملون العمل بها.

وقد يكون من المحتمل أن نرى أحد ممثلي الشريعة يجهل التصوف, وإن كان جهله لا يبرر إنكاره, ولكن ليس من المحتمل وليس من الطبيعي أن يجهل رجال التصوف ميدان الشريعة, ولو من جانبها العملي؛ ذلك أن الأكثر وهو «التصوف», يتضمن بالضرورة الأقل وهو «الشريعة».

على أن نظرة من يريد أن يسلك السلوك الصوفي إلى الشريعة, من حيث عدم أهميتها, وعلى الخصوص, أهمية الجانب العملي منها بالنسبة له، هذه النظرة تتضمن -ولو نظريًّا-تقليل أهمية الجانب العملي في التصوف نفسه، وفي هذا الخطورة كل الخطورة؛ فإنَّه من المشكوك فيه كثيرًا أن يتوفر للشخص الذي عنده الفكرة الاستعداد الصوفي, ومن الخير له أن يلتزم الشريعة التزامًا كليًّا قبل أن يبدأ السلوك, فإذا لم يمكنه التزامها فلا خير فيه, بالنسبة للجانب الصوفي.

إن تقليل شأن الشريعة إنما هو مظهر من مظاهر الروح التي لا تبالي بما أنزل الله، وإعادة تكوين الرُّوح الخاضعة لما أنزل الله هو أول خطوة في طريق السالكين.

وتجاهل الناحية العملية إنَّما هو سِمَة من سمات الغريب الحديث على الخصوص, ومن الطبيعي أن يقوم الجو الدنيوي الذي يعيش فيه الغربيون عَقَبة في سبيل فهمهم للجانب العملي من الشريعة وممارستهم له؛ بيد أنَّ مقاومتهم لهذا الجو الدنيوي, هو بالضبط العلاج لانحرافهم هذا، وهو السبيل إلى عودتهم إلى النهج المستقيم, أعني التزام الشريعة.

قلنا: إنَّ الاتجاه النفسي الذي نتحدث عنه هنا, إنما هو سمة من سمات الغرب الحديث، وفي الواقع لا يمكن أن يوجد هذا الاتجاه في الشرق؛ ذلك أن الروح الدينية الصحيحة لا تزال مسيطرة في بيئاته.

ثم إنَّ الشريعة والحقيقة متصلتان اتصالًا يجعل منهما مظهرين لشيء واحد, أحدهما خارجي والآخر داخلي, أو أحدهما ظاهر والآخر باطن.

لذلك كان ما يوجد في الغرب الآن, من جماعات تدَّعي أنها على النهج الصوفي, وهي مع ذلك لا ترتكز على أية شريعة إلهية, مجرد خداع, ومن البديهي أن هذه الجماعات- ومن وجهة النظر الصوفية الصحيحة- ليست على شيء.

ولشرح الأشياء بأبسط الطرق نقول:

إن الإنسان لا يشيد القصر في الهواء, إنَّه لا يشيده على غير أساس, وكل فكرة لا ترتكز على أساس من السنة الصحيحة إنَّما هي بناء في الهواء، إنها بناء على غير أساس، والبناء الذي يمكن أن يبقى على الدهر لا بد له من أساس مدعم, وعلى الأساس يرتكز البناء كله, حتى الأجزاء العليا منه, والارتكاز على الأساس يستمر حتى بعد انتهاء البناء.

وعلى هذا النَّمَطِ تكون النسبة بين الشريعة والتصوف, فالشريعة الصحيحة هي الأساس الذي لا بد منه لكل سالك, وكالأساس تمامًا, لا يمكن طرح الشريعة بعد سلوك الطريق.

بل نقول أكثر من ذلك: إنَّه كلما سار التصوف في طريقه واستغرق فيه, بَدَت له ضرورة الشريعة واستنارت معرفته بها, وأصبح فهمه لها أكثر عمقًا وأكثر دراية بحقيقتها من هؤلاء الذين درسوها وآمنوا بها بدون أن يضرِبوا بسهم في الميدان الصوفي؛ ذلك أنهم لا يرون من الشريعة إلا مظهرها الخارجي, ولكن الصوفي يعيش في جوها الروحي, ويحياها إذا أمكن هذا التعبير.

على أنَّ هذا الذي لا يعتنِق شريعة صحيحة ولا يلتزمها, لا يمكن أن يحيا إلا حياة دُنيوية بحتة؛ فلا يمكن أن يُطلق عليه رجل دين, فضلًا عن أن يطلق عليه وصف الصوفي.

على أن الغربيين الذين يجعلون الدين بمعزل عن نشاطهم اليومي, كما هو شأن الأكثرية الساحقة منهم, لا يمكن أن يوصفوا بأنهم متدينون, وإن آمنوا بعيسى وأدوا الشعائر الكنسية.

وإذا كان لا يقبل من رجل الدين أن يعلن تدينه بدون أن يجعل للشريعة السيطرة على قياده, فإنه لا يقبل من باب أولى من رجل التصوف أن يزعم انتسابه إلى الصوفية دون أن تسيطر شعائر الدين والتزاماته على حياته.

وهناك -لا شك- نوعان من الحياة: حياة دينية, وحياة دنيوية, ومع ذلك فالفرق بينهما إنَّما هو من جهة ما تصطبغ به فكرة الإنسان عن الأعمال التي يؤديها.

أريد أن أقول: إنَّ الأعمال في نفسها لا توصف بأنها دينية أو دنيوية, وإنَّما يتأتى لها أحد الوصفين بسبب سيطرة الفكرة الدينية عند القائم بهذه الأعمال أو عدم سيطرتها, وقد يكون العمل واحدًا في نوعه ويؤديه شخصان, فيوصف عند أحدهما بأنه ديني, وعند الآخر بأنه دنيوي.

فإن كان القصد «لله» فالعمل ديني, وإن كان القصد شيئًا آخر فالعمل دنيوي, والحديث الشريف يوضح هذه الفكرة كل التوضيح: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها, فهجرته إلى ما هاجر إليه».

ومن البديهي أن الحديث في أوله عام بالنسبة لكل الأعمال, وإن مسألة الهجرة فيه تطبيق جزئي لقضية عامة.

وفي العصور القديمة لم يكن هناك تفرقة بين دين ودنيا, بل لم يكن مجرد الفهم أو مجرد التخيل لفكرة الانفصال هذه, وإنما نشأت هذه الفكرة حينما تدهورت الإنسانية وانحطت شيئًا فشيئًا, وها نحن أولاء قد وصلنا في هذا التأخر إلى أن الغرب حاليًّا يصعب عليه كل الصعوبة أن يفهم فكرة ضرورة سيادة الروح الدينية في مجتمعاته, إنه على نهج انفصالي لا يوجد في الحياة السليمة.

وإننا نرى ضرورة التزام الشريعة لكل إنسان, ولكننا -ونحن على يقين من الأمر- لهؤلاء الذين يريدون أن يسلكوا الطريق الصوفي بأنهم لن يصلوا حتى إلى أولى مراحل الطريق إذا لم يلتزموا الشريعة التزامًا تامًّا، وبالله التوفيق.

علوم التصوف:

إن التصوف([7])في جوهره معرفة في محيط ما وراء الطبيعة، على أن التصوف وإن كان «معرفة» عُليا فإن بعض العلوم تتصل به اتصالًا وثيقًا, بل إنَّها ليست إلا تطبيقًا لبعض جوانبه, وهذا مما يميزه أيضًا عن «الميستيسيسم», من هذه العلوم علم الفلك القديم, وهو ليس «تنجيمًا» كما يعتقد الباحثون الحديثون, وإنما يتعلق بمعرفة أسمى وأعمق, وكذلك الأمر في الكيمياء القديمة, إنها ليست استخراج الذهب الحقيقي من المعادن الحقيقية, وإنما كانت رمزًا لمعرفة لا صلة لها بالمادة وليس لها بالكيمياء الحديثة أي ارتباط أو تشابه.

إن الباحثين الحديثين لا يعرفون عن المعنى الحقيقي لهذين العلمين شيئًا, على أن هناك علومًا أخرى لا يعرف عنها متفلسفةُ العصر الحديث إلا اسمها, مع أنَّها كانت من الدقة بحيث تبلغ درجة العلوم الرياضية.

من شروط التصوف:

ولا بد في التصوف من شرط جوهري هو «التأثير الروحي» أو بتعبير أدق «البركة» وهي لا تتأتى إلا بواسطة «شيخ([8])»، ومن هنا كانت «الطرق»، ومن هنا كانت السلسلة. وهل السلسلة إلا بركات تنتقل من شيخ إلى مريد يوشك أن يصبح شيخًا فيؤثر بدوره في مريد أو مريدين؟.

ونختم هذه الكلمة بملاحظة جوهرية تعلق بطبيعة التصوف وهي:

أن التصوف ليس عملًا علميًّا ولا بحثًا نظريًّا، إنَّه لا يُتعلم بواسطة الكتب([9])

على الطريقة المدرسية، بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحافز مقوٍّ للتأمل، والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوفًا، على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلًا لفهمه. ولأجل أن يسير الإنسان في طريق التصوف لا بد له من:

1- استعداد فطري خاص([10])لا يغني عنه اجتهاد أو كسب.

2- الانتساب إلى «سلسلة» صحيحة؛ إذا أن البركة التي تحصل من الانتساب إلى السلسلة الصحيحة هي الشرط الأساسي الذي لا يصل الإنسان بدونه إلى أي درجة من درجات التصوف حتى البدائية منها.

3- ثم يأخذ المتصوف الطيب الفطرة الذي باركه شيخه في الجهاد الأكبر «التأمل الروحي»، وفي الذكر؛ أي استحضار الله في كل ما يأتي وما يدع، وفي تركيز الذهن في الملأ الأعلى، فيصل موفقًا من درجة إلى درجة حتى يصل إلى أعلى الدرجات، وهي حالة تسمو على حدود الوجود المؤقت فيصبح ربانيًّا، ذلك هو الصوفي الحقيقي.

مقامات الوصول:

وحينما يقطع الإنسان الطريق يصل إلى الولاية.

والولي إما أن يمكث وليًّا فقط فتكون معرفته خاصة به، أو يختاره الله لتأديه رسالة إلى الآخرين فيكون نبيًّا، أو يكون رسولًا، والرسول نبي ولكن رسالته تأخذ صبغة عالمية، أما رسالة النبي فإنها محددة الأهداف محدودة المكان، إن الرسول مظهر الصفة الإلهية «الرحمن» في جميع أنحاء العالمين، إنه «رحمة للعالمين» فلا تقتصر رسالته على دائرة خاصة، ولا شك أن النبوة أسمى من الولاية، ومع ذلك فقد رأى بعضهم أن مقام الولي «القرب» من الله، في حين أن النبي متجه بطبيعة رسالته إلى الخلق، ولكن ذلك خطأ محض؛ فإن النبوة تتضمن الولاية فهي متضمنة لمقام القرب، ثم إنها أكثر من الولاية، وعلى ذلك فإن حالة الولي «ناقصة» بالنسبة لحالة النبي، إنها ليست قاصرة بالنسبة لطبيعتها الخاصة، ولكنها قاصرة بالنسبة لدرجتها في العموم وهذا العموم يصل إلى أعلى درجات ازدهاره في الرسالة؛ إذ هي عالمية، والرسول -لا غيره- هو حقيقة «الإنسان العالمي».

وللرسول كما للنبي اتجاهان:

1- اتجاه داخلي: إنه الاتجاه نحو الحق.

2- اتجاه خارجي:إنه الاتجاه نحو الخلق.

ودرجة الرسول العالمية أسمى من درجة النبي المحدودة، ودرجة النبي المحدودة أعلى من درجة الولي الخاصة، ومقام الجميع القرب.

 

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 349 - 362.

 



([1])   ترجمنا هذا المقال عن مقالات باللغة الفرنسية للشيخ عبد الواحد يحيى، وحاولنا استكماله واستطعنا بالتعليقات الكثيرة التي اقتطفناها من كتب أئمة التصوف الإسلامي.

([2])   الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، فكل شريعة غير مؤدية بالحقيقة فغير مقبولة وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

       تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر.

            سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول في قوله: إياك نعبد حفظ للشريعة، وإياك نستعين إقرار بالحقيقة: واعلم أن الشريعة حقيقة من حيث إنها وجبت بأمره، والحقيقة أيضًا شريعة من حيث إن المعارف به سبحانه أيضًا وجبت بأمره. [عن «الرسالة القشيرية»].

([3])   هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال: رجل صوفي، وللجماعة: صوفية، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة. وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق والأظهر فيه أنه كاللقب، فأما قوله من قال: إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف, كما يقال تقمص إذا لبس القميص؛ فذلك وجه, ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف، ومن قال إنهم منسوبون إلى صُفَّةِ مسجد رسول الله >، فالنسبة إلى الصُّفَّة لا تجيء على نحو الصوفي. ومن قال: إنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة، وقول من قال: إنه مشتقٌّ من الصف, فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى فالمعنى صحيح, ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف, ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق. [عن «الرسالة القشيرية»].         

([4])   قال الأستاذ ماسينيون في دائرة المعارف الإسلامية, الترجمة العربية, مادة (تصوف): أما دراسة مصادر التصوف فإن الشُّقَّة بيننا وبين استكمالها ما زالت بعيدة, وقد حار علماء الإسلاميات الأول في تعليل ذلك الخلاف الكبير في العقيدة بين مذهب الوحدة الحالي ومذهب أهل السنة الصحيح, فذهبوا إلى أن التصوف مذهب دخيل في الإسلام مأخوذ, إما من رهبانية الشام (وهو رأي ماركس), وإما من أفلاطونية اليونان الجديدة, وإما من زرادشتية الفرس, وإما من فيدا الهنود (وهو رأي جونس) وقد بين (نيكولسون) أن إطلاق الحكم بأن التصوف دخيل في الإسلام غير مقبول, فالحق أننا نلاحظ منذ ظهور الإسلام أن الأنظار التي اختص بها متصوفة المسلمين نشأت في قلب الجماعة الإسلامية نفسها في أثناء عكوف المسلمين على تلاوة القرآن والحديث وتقرئهما, وتأثرت بما أصاب هذه الجماعة من أحداث, وما حل بالأفراد من نوازل, على أنه إذا كانت مادة التصوف إسلامية عربية خالصة فمِمَّا لا يخلو من فائدة أن نتعرف على المحسنات الأجنبية التي أُدخلت عليه ونمت في كنفه.

([5])   اشتهر هذا الاسم قبل المئتين من الهجرة, فهو اسم محدث بعد عهد الصحابة والتابعين (ابن خلدون).

 












ويقول بعض العلماء: إن هذا الاسم معروف في الملة الإسلامية من قبل ذلك، بل يذهب بعضهم إلى أنه لفظ جاهلي عرفته العرب قبل ظهور الإسلام، قال أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي المتوفي سنة 378هـ (988م) في كتاب «اللمع» في التصوف: «وأما قول القائل إنه اسم محدَث أحدثه البغداديون فمحال, لأنه في وقت الحسن البصري كان يعرف هذا الاسم، وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم, وقد روي عنه أنه قال: «رأيت صوفيًا في الطواف فأعطيته شيئًا فلم يأخذه، وقال: معي أربعة دوانيق فيكفيني ما معي».

       وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء.

وقد ذكر في الكتاب الذي جمع أخبار مكة عن محمد بن إسحاق بن يسار وعن غيره، يذكر فيه حديثًا: «إن قبل الإسلام قد خَلَت مكة في وقت من الأوقات حتى كان لا يطوف بالبيت أحد، وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي فيطوف بالبيت وينصرف.

فإن صح ذلك يدل على أن قبل الإسلام كان يعرف هذا الاسم، وكان ينسب إلى أهل الفضل والصلاح والله أعلم».

       ويعقب المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق على ذلك فيقول:

       فاستعمال لفظ صوفي ومتصوف لم ينشر في الإسلام إلَّا في القرن الثاني وما بعده, سواء أكان هذا التعبير عن الزاهد «بالصوفي»حدث في أثناء المئة الثانية كما رأى ابن خلدون المتوفى عام 806هـ (1406) في مقدمته, أم كان لفظًا جاهليًّا على ما ذكره صاحب «اللمع» الذي يحاول أن يبرئ الصوفية من انتحال اسم مبتدَع لم يعرفه الصحابة ولا التابعون.

«عن دائرة المعارف الإسلامية: الترجمة العربية».

([6])   لخصنا هذا الموضوع عن مقال بالفَرَنسية للشيخ رحمه الله.        

([7])   الصفحات التالية ترجمة لكلمات للشيخ باللغة الفرنسية، تحرينا في ترجمتها الدقة التامة.           

([8])   يجب على المريد أن يتأدب بشيخ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدًا، هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الشجرة إذا نبت بنفسها من غير غارس فإنها تورق، لكن لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفسًا فنفسًا، فهو عابد هواه لا يجد نفاذًا. [«الرسالة القشيرية» ص 199].

ويشترط الإمام الرازي في الشيخ أن يكون مخلصًا صادقًا قد انتهج الصراط المستقيم، وأن يكون سالكًا «أما السالك فلأن الوصول تارة بالجذبة على ما قال —: «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين»، وأخرى بالسلوك. والأول لا يصح أن يقتدي به لأنه مثل من وجد كنز فصار غنيًّا فإنه وإن كان ذا مال لكنه غير عالم بكيفية اكتساب المال، فلا ينتفع به التلميذ الطالب لتعلم كيفية الاكتساب وأما الثاني فهو الذي يصلح لتربية المريد؛ لأن من سلك الطريق، وعرف مراحلها ومنازلها، واطلع على متالفها ومعاطيها، أمكنه إرشاد الغير إلى سواء السبيل والإخبار عن كيفية تلك الأحوال على التفصيل». [«شرح الإشارات»، 112].

([9])   من كلام الإمام الغزالي في «المنقذ من الضلال»: «ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل،         وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله.

       وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل «قوت القلوب»لأبي طالب المكي رحمه الله وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم، وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعليم والسماع.





 

 

 

 



فظهر لي أن أخص خواصهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال، وتبدل الصفات، وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة، وحد الشبع، وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحًا وشبعانًا، وبين أن يعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على الفكر وبين أن يكون سكرانًا.

بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه وهو سكران، وما معه من علمه شيء.

       والصاحي يعرف حد السكر، وأركانه وما معه من السكر شيء.

       والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة، وأسبابها، وأدويتها، وهو فائدة الصحة.

       كذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن يكون حالك الزهد، وعزوف النفس عن الدنيا فعلمت يقينًا أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك». [«المنفذ من الضلال»].

([10])  يرى الإمام الرازي أنه لا بد -لتكون الرياضة نافعة- أن تكون نفس المريد: «مستعدة لهذا الحديث، ملائمة له؛ إذ لو لم يكن كذلك ما نجحت فيه الرياضة أصلًا؛ لأن تأثير الرياضة ليس إلا في إزلة العوائق، ورفع الحجب والأستار, وزوال العائق لا يكفي في حصول المطلوب، بل لا بد معه من القابل المستعد، فإذا لم تكن النفس مستعدة لم تُفِد الرياضة سعادة أصلًا، لكنها تفيد السلامة». [«شرح الإشارات»، ص112].


التقييم الحالي
بناء على 2 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث