وحدة الوجود عند أبي العباس والصوفية
على وجه العموم
هل كان أبو العباس يعتقد في وحدة الوجود؟.
وما موقف شيخه منها؟.
وما رأي تلميذه ابن عطاء الله فيها؟.
إن موضوع وحدة الوجود من الموضوعات التي استخدمها أعداء التصوف في تأليب الجماهير المؤمنة، ونرجو الله أن نوفق الآن إلى إلقاء بعض الأضواء على هذا الموضوع، أضواء نرسمها من جو المدرسة الشاذلية، ومن جو الصوفية على وجه العموم، ومن الجو القرآني.
يقول أبو العباس: كانَ الإنسان بعد أن لم يكن، وسيفنى بعد أن كان، ومن كلا طرفيه عدم؛ فهو عدم.
هذه الكلمة يشرحها ابن عطاء الله مضمنًا كلامه رأيه الشخصي ورأي أبي الحسن رضى الله عنهم ، وهي تصوير لرأي أبي العباس، ويمكن على هذا الوضع أن نقول إنها رأي المدرسة الشاذلية في وحدة الوجود.
يقول ابن عطاء الله: ومعنى كلام الشيخ هذا أن الكائنات لا تثبت لها رتبة الوجود المطلق؛ لأن الوجود المطلق إنَّما هو الله، وله الأحدية فيه، إنما للعوالم الوجود من حيث ما أثبت لها.
واعلم أنَّ مَن الوجود له من غيره، فالعدم وصفه في نفسه، وقد قال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه : الصوفي من يرى الخلق في طي سِرِّهِ كالهباء في الهواء، لا موجودين ولا معدومين حسبما هم في علم رب العالمين.
وقال أيضًا رضى الله عنه وقد تقدم: وإنا لا نرى أحدًا من الخلق هل في الوجود أحد سوى الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فالهباء في الهواء إن فتشته لم تجده شيئًا.
وفي كتاب «الحكم» من كلامنا: العوالم ثابتة بإثباته، ممحوة لأحدية ذاته.
وقد قال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه : كان لي صاحب كثيرًا ما يأتيني بالتوحيد، فقلت له: إن أردت التي لا لوم فيها فليكن الفرق على لسانك موجودًا، والجمع في باطنك مشهودًا. وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال، والظِّل لا وجود له باعتبار جميع مراتبِ الوجود، ولا معدوم باعتبار جميع مراتب العدم، وإذَا أثبتَّ ظلية الآثار لم تنسخ أحدية المؤثر؛ إذ الشيء إنما يُشفَّع بمثله ويضم إلى شكله، كذلك أيضًا من شاهد ظلية الآثار لم تعقه عن الله؛ فإن ظلال الأشجار في الأنهار لا يعوق السفن عن التَّسيار.
ومن ها هنا يبين لك أيضًا أن الحجاب ليس أمرًا وجوديًّا بينك وبين الله، ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي للزِمَ أن يكون أقرب إليك منه، ولا شيء أقرب إليك من الله، فرجعت حقيقة الحجاب إلى تَوَهُّمِ الحجاب، فما حجبك عن الله وجود موجود معه؛ إذ لا موجود معه، وإنَّما حجبك عنه توهم موجود معه، وذلك كرجل بات في مكان وأراد الخروج، فسمع صوت الرياح من كُوة هناك فظنه زئير أسد، فمنعه ذلك عن الخروج، فلما أصبح لم يجد هناك أسدًا، وإنما هو الريح انضغط في تلك الكوة، فما حجبه وجود أسد وإنما حجبه توهم الأسد.
ويقول ابن عطاء الله في مكان آخر من كتاب «لطائف المنن»: الحقيقة تقتضي أن الزاهد في الدنيا مثبت لها؛ فإنه شهد لها بالوجود إذا أثبتها مزهودًا فيها، وإذا شهِدت لها بالوجود فقد عظَّمتها، وهو معنى قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه : واللهِ لقد عظمتها إذا زهدت فيها.
ومثل هذا الزاهد فيما زهد فيه فناء الفاني عما فني عنه، فإثبات أنك فانٍ عن الشيء إثبات لذلك الشيء، فما لا وجود له لا يتعلق به فناء ولا زهد ولا ترك، ولنا في هذا المعنى أبيات كتبتها لبعض الأصحاب يسمى حسنًا.
حسن بأن تدع الوجود بأسره |
* |
حسن فلا يشغلك عنه شاغل |
ولئن فهمت لتعلمن بأنه |
* |
لا ترك إلا للذي هو حاصل |
ومتى شهدت سواهُ فاعلم أنه |
* |
من وهمك الأدنى وقلبك ذاهل |
حسب الإله شهوده لوجوده |
* |
واللهُ يعلم ما يقول القائل |
ولقد أشرتُ إلى الصريح من الهوى |
* |
دلت عليه إن فهمت دلائل |
وحديث كان وليس شيء غيره |
* |
يقضي به الآنَ اللبيب العاقل |
لا غير إلا نسبة مثبوتة |
* |
ليُذمَّ ذو ترك ويحمد فاعل |
وإذا كان هذا هو رأي المدرسة الشاذلية، فهل هو رأي الصوفية على وجه العموم؟
هل يتفق رأي أبي العباس المرسي في هذا، مع رأي الحلاج وابن العربي رضى الله عنهم ؟
وما هو التوجيه الإسلامي في الصلة بين العبد وربه في هذا المجال؟
ونريد أن نبدأ مباشرة بملاحظة تُزيل -بصورة غير متوقعة- حِدَّة المناقشة في هذا الموضوع؛ وذلك أننا بصدد «وحدة الوجود»، ولسنا بصدد وحدة الموجود، والموجود متعدد: سماءً وأرضًا، جبالًا وبحارًا، لونًا ورائحة وطعمًا، متفاوت ثقلًا وخفة... إلخ.
ولم يقل أحد من الصوفيين الحقيقيين -ومنهم ابن العربي والحلاج- بوحدة الموجود، وما كان للصوفية وهم الذروة من المؤمنين أن يقولوا -وحاشاهم- بوحدة الموجود. وقد تتساءل: من أين إذن أتت الفكرة الخاطئة التي يعتقدها كثير من الناس، من أن الصوفية يقولون بوحدة الموجود؟! وتفسير ذلك لا عسر فيه: إنَّ فريقًا من الفلاسفة في الأزمنة القديمة وفي الأزمنة الحديثة يقولون بوحدة الموجود؛ بمعنى أن الله -سبحانه وتعالى عن إفكهم- هو والمخلوقات شيء واحد.
قال بذلك هيراقليطس في العهد اليوناني: والله عنده نهار وليل، صيف وشتاء، وفرة وقلة، جامد وسائل، إنه -على حد تعبيره- كالنار المعطرة تسمى باسم العطر الذي يفوح منها.
تقدس سبحانه وتنزه عما يقول.
والله سبحانه وتعالى في رأي «شلي» في العصور الحديثة، هو هذه البسمة الجميلة على شفتي طفل جميل باسم، وهو هذه النسائم العليلة التي تنعشنا ساعة الأصيل، وهو هذه الإشراقة المتألقة بالنجم الهادي في ظلمات الليل، وهو هذه الوردة اليانعة تفتح وكأنها ابتسامات شفاة جميلة، إنه الجمال أينما وجد، ولكنه أيضًا -سبحانه وتعالى- القبح أينما كان، وكما يكون طفلًا فيه نضرة وفيه وسامة يكون جثة ميت، ويكون دودة تتغذى من جسد ميت، ويكون قبرًا يضُم بين جدرانه هذه الجثة وهذا الدود، أستغفرك ربي وأتوب إليك.
ولوحدة الوجود -بمعنى وحدة الموجود- أنصار في كل زمان.
ولما قال الصوفية بالوجود الواحد، شرح خصومهم الوجود الواحد بالفكرة الفلسفية عن وحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود، وفرق كبير بينهما، ولكن الخصومة كثيرًا ما ترضى عن التزييف وعن الكذب في سبيل الوصول إلى هدم الخصم، والغاية تبرر الوسيلة كما يقولون.
وشيء آخر في غاية الأهمية، كان له أثر كبير في الخطأ في فهم فكرة الصوفية عن الوجود الواحد, وهو أن الإمام الأشعري رضى الله عنه رأى في فلسفته الكلامية أن الموجود هو عين الوجود، ولم يوافقه الكثير في الصوفية على هذه الفكرة الفلسفية.
ولم يوافقه الكثير من مفكري الإسلام وفلاسفته على رأيه، وهو رأي فلسفي يخطئ فيه أبو الحسن الأشعري أو يصيب، وما مثله في آرائه الفلسفية إلَّا مثل غيره في هذا الميدان، يخطئ تارة ويصيب أخرى.
ورأى مخالفوه أنَّ الوجود غير الموجود، وأنه ما به يكون وجود الموجود، ولمَّا قال الصوفية بالوجود الواحد، شرح خصومهم فكرتهم في ضوء رأي الأشعري، دون أن يراعوا مذهبهم ولا رأيهم، ففسروا قولهم بالوجود الواحد على أنه قول بالموجود الواحد، وهذا التفسير على هذه الطريقة يسحب الثقة في آراء هؤلاء الخصوم.
وأمر ثالث يجب ألا نعيره أدنى التفات لأنه أتفه -في منطق البحث- من أن نعيره التفاتًا، وهو هذه الكلمات التي تناثرت هنا وهناك، مخترعة ملفقة مزيفة، ضالة في معناها، تافهة في قيمتها الفلسفية، غريبة على الجو الإسلامي، تنادي بصورتها ومعناها أنها اخترعت تضليلًا وافتياتًا.
إنَّها هذه الكلمات التي يعزونها إلى الحلاج رضوان الله عليه أو إلى غيره، لا توجد في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه، لقد اخترعوها اختراعًا ثم وضعوها أساسًا تدور عليه أحكامهم بالكفر والإضلال، ويكفي أن يتشبث بها إنسان فيكون في منطق البحث غير أهل للثقة.
الوجود الواحد:
وهل في الوجود الواحد من شك؟!.
إنه وجود الله المستغني بذاته عن غيره، وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن، وليس لكائن غيره سبحانه الوجود من نفسه، إنه سبحانه الخالق، وهو البارئ المصور، ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[آل عمران:6].
ومن بعض معاني التصوير قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾[المؤمنون:12-14].
وصلة الله بالإنسان -إذن- هي أنه سبحانه يمنحه الوجود الذي يريده له في لحظة من اللحظات المتتابعة، فشكل حياته في كل لحظة بصورة أمده سبحانه وتعالى بها، وصلة الله بكل كائن إنما هي على هذا النمط:
إنه سبحانه مثلًا: ﴿يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر:41]، إنه يمسكهما وجودًا، ويمسكهما تدبيرًا، ويمسكها تماسكًا وتناسقًا، إنه يمسك فيهما الكيف والكم، وإذا ما سحب إمداده عنهما تلاشتا كمًّا وكيفًا.
إن الله سبحانه وتعالى محيط بالكون مهيمن عليه، قيوم السماوات والأرض، قائم على كل نفس بما كسبت، وقائم على كل ذرة من كل خلية، وقائم على كل ما هو أصغر من ذلك وما هو أكبر، بحيث لا يعزب عن هيمنته وعن قيوميته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
هذه القيومية أخذ القرآن والسنة يتحدثان عنها في استفاضة مستفيضة ليهز الإنسان هزة عنيفة، فلا يخلو إلى الأرض، ولا يتبع هواه، وإنما يرتفع ببصره، ويستشرف بكيانه إلى الملأ الأعلى مستخلصًا نفسه من عبودية المادة، ليوحد الله سبحانه وتعالى في عبودية خالصة، وفي إخلاص لا يشوبه شرك من هوى أو شرك من سيطرة المادة أو الغرائز.
ونريد الآن أن نصور بعض مواقف القرآن في هذا الصدد:
إن الله سبحانه وتعالى يوجه نظرنا في سورة الواقعة إلى مسائل نحن عنها في العادة غافلون: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾[الواقعة:58-59].
﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾[الواقعة:63-64].
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾[الواقعة: 71-72].
وعلى العكس من ذلك لو شاء الله لما خلق هذا الفرد، ولجعل الزرع حطامًا، ولما أنزل الماء من المزن، ولما أنشأ شجرة النار، إنه سبحانه بيده الأمر سلبًا وإيجابًا، وبيده أمر الخلق إيجادًا وإعدامًا.
أرأيت إلى هذه الرمية التي ترميها؟ إنك ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
أرأيت إلى الانتصار في الجهاد؟.
إن هذا الانتصار من عند الله، أما القتلى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ﴾[الأنفال:17].
ورزق الإنسان هذا وطعامه: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾[عبس:24- 32].
هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتًا، إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما لا تدرك ولا تعقل، إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيًّا كانت، وهمهم كل همهم مصبحين ممسين إنما هو ملء البطن، أو كنز الذهب والفضة، أو النزاع على جاه، أو العمل لتثبيت سلطان، إنهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها، وتحيط بهم آثاره فلا ينظرون إليها، وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه فلا يوجههم ذلك إلى الحمد ولا إلى الشكر، إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل في قلوبهم ولا تفكيرهم ولا في بيئتهم قليلًا ولا كثيرًا.
والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذين انغمسوا حقًّا في محيط الإلهية سبحوا في بحارها، واستنشقوا نسائمها الندية، وغمرهم لألاؤها وضياؤها، لقد بدءوا بحمد الله وشكره على نعمائه وآلائه التي تحيط بهم من جميع أقطارهم، فزادهم الله نعمًا وآلاء: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم:7].
لقد اتقوا الله حق تقاته فعلمهم الله.
لقد اكتفوا بالله هاديًا ونصيرًا فهداهم الله إلى صراطه المستقيم، ونصرهم على أنفسهم وعلى أعدائهم، وأخذوا شيئًا فشيئًا يحاولون تحقيق التوحيد قولًا وعقيدةً وتذوقًا وتحققًا، وأخذوا يرون في «أشهد أن لا إله إلا الله» معاني لا يتطلع إليها غيرهم.
وبدأ معنى الشرك يتضح لهم في صورة لا تخطر على بال اللاهين الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم، وبدءوا يحطمون الشرك، يحطمون أصنامه وأوهامه من النفس والهوى والشيطان، ومن الغرائز الحيوانية والغرائز الإنسانية، وأنهار الشرك حتى من همسات الفؤاد، لقد انهارَ الشرك الواضح، وانهار الشرك الخفي، وثبت في أذواقهم واستقر في أحوالهم ومقاماتهم أن «لا إله إلا الله» وأنه: ﴿فَأَيْنَمَاتُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ [البقرة:115].
وأينما كانوا فالله معهم، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وهو أقرب إليهم من جلسائهم ومعاشريهم، إنه يغمر كيانهم، فلا يرونَ غيره سبحانه، لا يرون غير قيوم السماوات والأرض، ولا يرون غيره مصرفًا لليسير من الأمور وللعظيم منها، ولا يرون غيره مالكًا للملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
لقد أصبحوا ربانيين، وأصبح الله في بصرهم وسمعهم وجوارحهم وفي قلبهم من قبل ذلك ومن بعده، يشغله كله فلا يدع فيه مكانًا للأغيار.
وأخذ هؤلاء الصوفية يوجهون أفراد هذا القطيع من البشر اللاهي عن الله، السادر في ضلاله إلى الله تعالى، أخذوا في محاولة جاهدة مستمرة لانتزاع الإنسان من الإخلاد إلى المادة ليتطلع إلى السماء، لقد حاولوا أن يوجهوا نظر الناس إلى الله عن طريق آلائه التي تغمرهم وعن طريق صنعه، وقد أحسن كل شيء خلقه سبحانه.
أخذوا يوجهون نظر الناس إلى الله تعالى، في الزهرة تتفتح، وفي الزرع يسقى متجهًا إلى السماء، وفي الشمس تشرق، وفي القمر يتألق، وفي مواقع النجوم ومداراتها، وفي كل هذا الإبداع الساري في الكون أخذوا يشرحون معنى تلك الآيات الكريمة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك:1-4].
وكانت تعبيراتهم تعبيرات متذوقين، وليست التعبيرات الجافة لعلماء الكلام أو الفلاسفة، وهم في تعبيراتهم يشرحون أن الله سبحانه وتعالى الممد الوجود لكل موجود، إنه يمد القائم بالقيام، ويمد الماشي بالمشي، والمتحرك بالحركة، إنه -على حد تعبير أهل السنة والأشاعرة- الذي يقطع وليست السكين هي التي تقطع، وهو الذي يحرق وليست النار هي التي تحرق، وهو الذي حينما يريد، يقول للنار: كوني بردًا وسلامًا، فتكون بردًا وسلامًا.
ومهما عبِّر الصوفية في هذا الميدان عن الوجود الواحد، فقالوا في ذلك: وزعم الناس أنهم أسرفوا واشتطوا؛ فإنهم لن يبلغوا المدى الذي بلغته تلك الآية الكريمة التي تمثل في روعة رائعة الهيمنة المهيمنة، والاستغراق القاهر، والجلال الشامل، والتي لا تعني وحدة متحدة، ولا اتحادًا متطابقًا بين الخالق والمخلوق، أو العابد والمعبود، والآية هي: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ﴾ [الحديد:3].
وهذه الآيات القرآنية التي ذكرناها، هدفها أن تدفعنا دفعًا إلى الشعور بقيومية الله سبحانه وتعالى مهيمنة، وهيمنته مسيطرة، وإلى الشعور بتوجيهه سبحانه وتعالى للإنسان أن يفر إلى الله في كل أمر من أموره، وأن يسمو بنفسه حتى يتحقق بأن لا إله إلا الله، وما فعل الصوفية أكثر من ذلك، إنهم يهتدون بهدي القرآن والسنة، يريدون للإنسان أن يكون ربانيًّا، فإذا ما استمر الكثير من الناس يخلدون إلى الأرض، وينظرون دائمًا إلى أسفل؛ فليس ذلك ذنب الصوفية فقد أدَّوا واجبهم نحو التوجيه إلى الله خير أداء.
أما إذا لم يكتفِ بعض الأفراد بالإخلاد إلى الأرض، وبالنظر إلى أسفل، وأخذوا يهاجمون من يدعوهم للتطلع إلى السماء ويوجههم إلى الله تعالى، فهؤلاء إنما يحاربون الله ورسوله، وجزاؤهم معروف.
وقد نتساءل: فيم إذن حوكم الحلاج وقضي عليه بالقتل؟!.
إن أمر هذه القضية قضية الحلاج معروف سرها، وما كان سرها خافيًا في يوم من الأيام، لقد كان الحلاج قوة جارفة، كان مركزًا للجاذبية لا يضارع، يلتف حوله الناس أينما حل، ويسيرون معه أينما ارتحل، وكان -ككل صوفي- يحب آل البيت؛ لأنه كان يحب الرسول >، وكان آل البيت إذ ذاك يطمحون في أن تكون الدولة لهم، وما كان بنو العباس يطمئنون إلى شخصية كشخصية الحلاج المحبة لآل البيت نسل رسول الله >، وما دام الحلاج دعاية قوية تسير في كل مكان، وتتجه إلى كل بلد، فيجب -حفاظًا على أمن الدولة، وتحصينًا لاستقرارها- أن ينكل بالحلاج.
وما كان مقتل الحلاج دينيًّا قط، كلا، وإنما كان سياسيًّا بحتًا، ومن السهل على الملوك المستبدين أن يزيفوا القضايا، أو يأتوا بشهود الزور، وأن يعِدوا القضاء بالمال والترقية، وأن ينفذوا أهواءهم.
فكان ما كان من قضية ومن قتل، والدين من كل ذلك براء، والألفاظ التي ينسبونها للحلاج ليست في كتاب من كتبه الموجودة، لا تسند خصومه ولا تؤيدهم.
هذا ما كان من أمر الحلاج، وبقيت كلمة:
إن المنطق الصحيح ألا يفتي المهندس في أبحاث الأطباء، وألا يحكم الأديب باعتباره أديبًا في أعمال المهندسين.
ومن العدالة -على هذا الوضع- ألا يحكم على هذه القمم الشامخة «ابن عربي، الحلاج، ابن الفارض» من لم يبلغ مداهم أو يقاربه.
لقد قيل مرة لأحد شيوخنا الصالحين الأجلاء: إن فلانًا ينتقد ابن عربي في المجلات، فقال رضوان الله عليه: وهل من حق الخنافس أن تحكم على أعمال الأسد، إن الخنافس لا تحكم على أعمال السباع، وليس من حقها أن تتحدث فيما تفعله السباع، ومنطقها دائمًا منطق الخنافس.
أما الإمام اليافعي رضوان الله عليه فإنه يقول عن خصوم سيدنا محيي الدين: «إن حكمهم حكم ناموسة على جبل تريد إزالته من مكانه، وتذهب الريح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، بها تثبت الأرض، وبها يحفظ ميزان الدنيا».
والرأي الذي لا يتأتى غيره من المنصف، الرأي الحق، هو ما قاله الإمام الشعراني عن الصوفية عامة، وعن سيدنا محيي الدين خاصة: «ولعمري إن عباد الأوثان لم يجرءوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فكيف يُظن بأولياء الله أن يدعوا الاتحاد بالحق سبحانه وتعالى! هذا محال في حقهم رضوان الله عليهم». اهــ.
فلا بد أن يبلغ الإنسان المستوى، ويقارب المستوى، وحينئذ سيقول كما قال أسلافنا الذين بلغوا المستوى أو قاربوه: رضي الله عن سيدنا محيي الدين، ورضي الله عن الحلاج وعن ابن الفارض، ونفعنا بهم وبكتبهم.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 248 - 258.