نسخة تجريبيـــــــة
مجاهدة النفس وتربيتها

مجاهدة النفس وتربيتها

ينبنى على مذهب المدرسة الشاذلية فى إسقاط التدبير مذهبهم فى النفس البشرية، (الشاذلية - تصوفها - إسقاط التدبير).

وقد تناولنا الكلام على النفس عند الشيخ أبى الحسن الشاذلى، (الشاذلية - تصوفها - الشيخ أبو الحسن الشاذلى ومنهجه فى إصلاح النفس).

وعلى طريقته ودربه سارت مدرسته من بعده، وإذا كانت نفس السالك هي الأمارة له بالتدبير وبكل خاطر ذميم، وجب على السالك معرفته التامة بنفسه وبخواطرها وبواعثها، ولذا نجد شيوخ المدرسة الشاذلية كابن عطاء الله -باعتباره شيخًا مربيًا- معنيون بالنفس الإنسانية عناية فائقة، فيعرضون بالتحليل الدقيق لقوى هذه النفس، ويشخصون أمراضها، ويصفون وسائل علاجها، ويصنفون بواعث السلوك الإنساني بوجه عام، وكل هذا عندهم لا لذاته، وإنما من حيث ما يعين السالك للطريق الصوفي على الوصول إلى غاية مزدوجة هي التكمل الخلقي والمعرفة بالله معرفة ذوقية([1]).

ويترتب على معرفة النفس وقواها وبواعثها عند المدرسة الشاذلية ضرورة مجاهدتها، ومجاهدة النفس عندهم هى: محاربة النفس الأمارة بالسوء وتحملها ما شق عليها مما هو مطلوب شرعًا ، وبالمجاهدة تتصف بواعث السالك بالخيرية، وتتدرج نفسه في المراتب المختلفة، كما تترقى في مقاماتها وأحوالها، وتتحقق في النهاية بمعرفة الله ذوقًا، والأساس الذي تقوم عليه رياضة النفس عندهم، هو النظر إلى أوصاف الله ومحاولة التشبه بها على قدر الطاقة الإنسانية، ولذا يبين ابن عطاء الله للسالك أنه لن يخرجه عن وصفه الذميم إلا شهوده لوصف الله، وإليه الإشارة بقوله فى الحكم: «لاَ يُخْرِجُكَ عَنِ الْوَصْفِ إِلاَّ شُهُودُ الْوَصْفِ»([2])([3]).

ويتدرج المريد في مرحلتين من مراحل مجاهدته لنفسه, الأولى : رياضته لنفسه من الناحية الأخلاقية باستبدال صفاتها الخلقية الذميمة بأضدادها من الصفات الحميدة, وذلك ليحقق الكمال الأخلاقي في ذاته من ناحية, وفي سلوكه العملي مع الناس في المجتمع الذي يعيش فيه من ناحية أخرى, والثانية اصطناعه وسائل شاقة كالعزلة والخلوة والذكر وما إليها, وذلك ليهيء نفسه بها لأحوال الوجد والفناء والمعرفة بالله([4]).

وتأتي بعد هذا عند المدرسة الشاذلية مرحلة ثالثة من مراحل مجاهدة النفس, وهي إلزام السالك نفسه بقواعد السلوك أو آدابه. وآداب السلوك عند الصوفية على اختلافهم, هي القواعد العامة التي ينبغي أن يلتزمها السالك في جيمع مراحل سلوكه على اختلافها، وأهم ما يعرضه مشايخ الشاذلية المربون من آداب السلوك العامة آداب التجريد والتسبب, والوقت, والطاب والعطاء والمنع, وآداب الأعمال والعبادات, والإقبال على الله والحذر من الاستدراج على اختلاف صوره([5]).

أما عن تربية النفس ومعالجة أمراضها: فمن أصول التربية عند المدرسة الشاذلية إخراج المريد عن هواه ومراده لنفسه إلى مراد الشارع ، فكان الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنهإذا رأى مريدًا دخل في أوراد بنفسه وهواه، أخرجه منها([6])، وكان يحب دائمًا إخراج المريدين عن هواهم، ويقول لهم مثلًا: "من أحب الظهور، فهو عبد الظهور؛ ومن أحب الخفاء فهو عبد الخفاء؛ ومن كان عبدًا لله، فسواء عليه أظهره أو أخفاه"([7]). ولأجل إخراج المريدين دائمًا عن هواهم يقص عليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمع أبا بكر يقرأ، ويخفي صوته، وسمع عمر يقرأ، ويرفع صوته، فقال لأبي بكر: لم خفضت صوتك؟ فقال : قد أسمعتُ من ناجيتُ. وقال لعمر: لم رفعت صوتك؟ فقال: لأوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال لأبي بكر: ارفع قليلًا. وقال لعمر: اخفض قليلًا. قال الشيخ أبو العباس رضى الله عنه: "أراد أن يخرج كلًا منهما عن إرادته لنفسه، لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلمله"([8]).

كما أن مراعاة قوى النفس وطباعها هى إحدى الخصائص المهمة للمدرسة الشاذلية، فالترقية عندهم إنما تكون من خلال مراعاة قوى النفس البشرية وطباعها ، بحيث لا يحملها على ما تتحملها فيصعب انقيادها، وقد مضت الكثير من أقوال مشايخ المدرسة التى تبين هذه الخاصية ، كقول الشيخ أبى الحسن : «ليس الرجل من دلك على تعبك، إنما الرجل من دلك على راحتك»([9])، وقول شيخه ابن مشيش : «من دلك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك»([10])، وقد مضى الكلام على أن من سمات المدرسة الشاذلية أنها طريق راحة لا تعب.

ويؤكد الشيخ ابن عطاء الله على ضرورة موافقة قوى النفس حتى فى نوع الذكر، فيقول: "لا تأخذ من الأذكار إلا ما تعينك القوى النفسانية عليه بحبه"، ومن ثم يؤكد الشيخ زروق - بعد أن ينقل هذا الكلام عن ابن عطاء - أن من خصائص الطريقة الشاذلية أنها "تعين عليها الطباع لوجود أصلها عندها وهى العبودية التى لا تعب فيها"([11]).

وهنا يأتى دور الشيخ المرشد المربى فى اختيار ما يناسب طبع المريد وقواه النفسية من الأذكار والأوراد ، فإنه "ما ركب فى الطباع معين للنفس على ما تريد حسب قواها ... وإذا انتحل المريد ما ترجحه حقيقته من الأذكار والأوراد كان معينا على مقصده بدوامه، فإنه ما قصر جسد عن مهمته ، ويعين الله العبد على قدر نيته، وما دخل بانبساط كان أدعى للدوام"([12]).

أما علاج الشهوة عند المدرسة الشاذلية ، فيقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه : "من أخلد إلى أرض الشهوة واتبع الهوى ولم تساعده نفسه إلى التخلي وغلب عن التخلي فعبوديته في أمرين:

أحدهما: معرفة النعم من الله فيما وهب له من الإيمان والتوحيد إذ حببه إليه وزينه في قلبه وكره إليه أضداده من الكفر والفسوق والعصيان فيقول: رب أنعمت علي بهذا وسميتني راشدًا فكيف أيأس منك وأنت تمدني بفضلك وإن كنت متخلفًا فأرجوك أن تقبلني وإن كنت زائغًا.

والأمر الثاني: اللجأ والافتقار إلى الله تعالى دائمًا وتقول: سلم سلم ونجني وانقذني فلا طريق لمن غلبته الأقدار وقطعته عن العبودية المحضة لله إلا هذان الأمران فإن ضيعهما فالشقاوة حاصلة والبعد لازم والعياذ بالله"([13]).

ويعطينا الشيخ أبو الحسن ميزانا دقيقا للفرق بين الشهوة التى ينبغى ردها ، والشهوة التى يمكن اتباعها، فيقول : " كل شهوة تدعوك إلى الرغبة في مثلها فهي عدة الشيطان وسلاحه وكل شهوة تدعوك إلى طاعة الله والرغبة في سبيل الخيرات فهي محمودة"([14]).

أما علاج الخواطر والوساوس: فيقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى : "إذا كثر عليك الخواطر، والوساوس فقل سبحان الملك الخلاق {إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز} "([15]).

وبخصوص علاج القطيعة فيقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى: "إذا ثقل الذكر على لسانك، وكثر اللغو في مقالك، وانبسطت الجوارح في شهواتك، وانسد باب الفكرة في مصالحك فاعلم أن ذلك من عظيم أوزارك، أو لكون إرادة النفق في قلبك، وليس لك طريق إلا الطريق، والإصلاح، والاعتصام بالله والإخلاص في دين الله تعالى ألم تسمع إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم الله فأولئك مع المؤمنين}، ولم يقل من المؤمنين، فتأمل هذا الأمر إن كنت فقيهاً"([16]).

وعن القبض والبسط وعلاجهما يقدم الشيخ أبو الحسن الشاذلى وصفا واضحا ومحددا لهما ولأنواعهما، وعلاج كل نوع منه، فيذكر أنه قلما يخلو العبد منهما يتعاقبان علينا كتعاقب الليل والنهار والحق يقتضي منك العبودية فيهما ، فمن كان وقته القبض فلا تخلو أن تعلم سببه ولا تعلمه، وأسباب القبض ثلاثة : ذنب أحدثته ، أو دنيا ذهبت عنك ، أو شخص يؤذيك في نفسك أو عرضك ، فإن كنت أذنبت فاستغفر، وإن كنت ذهبت عنك الدنيا فارجع إلى ربك، وإن كنت ظُلمت فاصبر واحتمل ، هذا دواؤك، وإن لم يطلعك الله تعالى على سبب القبض فاسكن تحت جريان الأقدار فإنها سحابة سائرة . وأما من كان وقته البسط، فلا يخلو من أن يعلم سببًا أو لا يعلمه فالأسباب ثلاثة: السبب الأول: زيادة بالطاعة أو نوال من المطاع كالعلم والمعرفة. والثاني: زيادة من دنيا بكسب أو كرامة أو هبة أو صلة. والسبب الثالث: بالمدح والثناء من الناس وإقبالهم عليك وطلب الدعاء منك وتقبيل يدك، فإذا ورد البسط عليك من هذه الأسباب، فالعبودية تقتضي أن ترى النعمة والمنة من الله عليك واحذر أن ترى شيئًا من ذلك من نفسك وحصنها أن تلازم الخوف ... وأما البسط الذي لا تعلم له سببًا فحق العبودية فيه ترك السؤال والإدلال والصولة على النساء والرجال إلا أن تقول سلم سلم إلى الممات([17]).

وأما علاج الانقطاع عن الطريق : فيواجهه الشيخ، ويصف له علاجا دقيقا عمليا واضحا، فيقول رضى الله عنه: " هل تدري ما علاج من انقطع عن المعاملات ولم يتحقق بحقائق المشاهدات؟ علاجه أربعة: طرح النفس على الله طرحًا لا يصحبه الحول والقوة، والتسليم لأمر الله تسليمًا لا يصحبه الاختيار مع الله، هذان علاجان باطنان. وفي الظاهر: زم الجوارح عن المخالفات والقيام بحقوق الواجبات، ثم تقعد على بساط الذكر بالانقطاع إلى الله عن كل شيء سواه بقوله: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: 8]"([18]).

 


(1) د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (149) .

([2])

(3) ابن عطاء الله السكندرى ، الحكم ، وشرح الرندي على الحكم، جـ2، ص76. وانظر : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (167 ، 174 - 175) .

(4) د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (205) .

(5) د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (205-206) ، وللتوسع بخصوص آداب السلوك عند المدرسة الشاذلية ، راجع : المصدر السابق ، (ص 206 - 230) .

(6) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 145) .

(7) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 57) .

(8) د/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 188) .

(9) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 145.

(10)  الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 58.

(11)  الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 58-59.

(12)  الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 70.

(13) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 73- 74.

(14) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 122.

(15) الشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/5 .

(16) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 29. - وابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص 61 (ط الحلبى) . - والشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/5 .

(17) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 80 - 81. - وابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص 65-66 (ط الحلبى) . - والشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/5 .

(18) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 140.


التقييم الحالي
بناء على 53 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث