نسخة تجريبيـــــــة
الكرامات وموقف د/ عبد الحليم محمود

لفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الإمام الدكتور عبد الحليم محمود حديث شائق – كعادته – عن قضية الكرامات ، تعرض لها أثناء تأليفه لكتابه الشهير "قضية التصوف – المدرسة الشاذلية"، يقول رحمه الله تعالى:

حينما بدأت في تأليف هذا الكتاب فوجئتُ مباشرة بمشكلة، هي مشكلة الكرامات المنثورة في كل الكتب القديمة التي أرَّخت لأبي الحسن، وهي من الكثرة بحيث لا يمكن إغفالُ الحديث عنها.

هل أنقلها جميعًا وأدع مسئولية روايتها على الذين ذكروها؟.

وإذا ما نقلتها جميعًا فهل أكون بذلك قد أحسنت بالنسبة لأبي الحسن، أم أكون قد أسأت بالنسبة إليه؟.

إن كثيرًا من المثقفين في العصر الحاضر يمجون ذكر الكرامات هكذا بدون حساب وفي إسراف مسرف، ومما لا شك فيه أن أتباع الولي أينما كان وأينما كانوا، يحاولون الإشادة بذكره فيروُون عنه الكرامات الكثيرة، فيصادق ذلك قبولًا وارتياحًا عند البعض، ونفورًا وإعراضًا عند الآخرين.

ولقد وصل الأمر ببعض المنكرين للكرامات أن أنكروا كل المعجزات الحِسِّيَّة التي ذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم  في السنة الصحيحة وفي الأخبار التي محصها رجال الحديث، واكتفوا -في المعجزات- بالقرآن الكريم، نافين كل شيء غيره ممَّا ذكرته كتب الصحاح على اختلاف ألوانها.

إن روحَ الكثيرين في العصر الحاضر تنادي بإنكار الكرامات، وتسخَر في وضوح أو في إشارات بكل من يروي كرامة لولي.

هل أجاري هؤلاء أو أولئك؟.

ومع قيام هذه المشكلة أمامي في وضوح فإنني لم أتردد قط في أن أبدأ كتابي هذا، بعد المقدمة، بكرامة لأبي الحسن -تلك التي رواها أبو العباس رضي الله  عنه- وما شككت قَطُّ في ثبوتها، وما شككت قَطُّ في صحة النقل، ثم وجدتني أنقل هذه الكرامة في مناسبة، وتلك في أخرى، ولم أجِد في ضميري عتابًا، ولا في شعوري تراجعًا، ولا في ذوقي نفورًا، حقيقة أني لم أنقل كل الكرامات ولا أغلبها، ولكني نقلت منها ما رأيت له مناسبة في كتابي.

لماذا لم أجد حرجًا في نقل بعض الكرامات في كتابي هذا؟.

لماذا؟.

للأسباب الآتية:

1- إن القرآن الكريم يحدثنا في أسلوب لا لبس فيه عن المعجزات التي تفضَّل الله بها على رسله وأنبيائه، ويحدثنا عن الكرامات التي منحها سبحانه لأوليائه وأصفيائه.

ألم يحدثنا القرآن بصورة لا تحتمل التأويل بأن عيسى — كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وأنَّه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله؟.

ألم يحدثنا عن سيدنا موسى بأنه ألقى عصاه فإذا هي تلقَف ما يأفكون، وبأنه أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين؟.

وسيدتنا مريم ألم تحمل بسيدنا عيسى من غير أب خارقة بذلك قوانين الطبيعة، وكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا، قال: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله.

2- ثم إن ما نسميه قوانين الطبيعة إنما هو في الواقع «عادات» الطبيعة، وخرقها ليس بمستحيل عقلًا، وخرقها لا يترتب عليه مستحيل.

وعادات الطبيعة لا تسيطر على رب الطبيعة.

3- ثم إن هؤلاء الذين تجري على أيديهم المعجزات أو الكرامات لا ينسبونها لأنفسهم، وإنما ينسبونها إلى المتفضل الوهاب، صاحب القدرة والقهر، إنهم ينسبونها إلى من هو على كل شيء قدير.

4- والملاحَظ في منكري الكرامات على مر العصور أنهم يتميزون بألوان من الغلظة وقساوة القلب، فلا تجِد فيهم رِقَّة الشعور، ولا صفاء البصيرة، ولا ملائكية الروح، وهم -إن لم يكونوا من الملاحِدَة- من الصنف الذي لم يخالط الإيمان شغاف قلبه، وإنما بقي صورة عائمة على السطح.

5- وجمهرة المسلمين على مر العصور -عامتهم وخاصتهم، وقممهم الشوامخ في العلم والدين- من الذين يثبتون الكرامات ويؤمنون بها.

تلك هي الأسباب العامة التي لم تجعلني أتحرج من نقل بعض كرامات أبي الحسن، وأضيف إليها بعض الأسباب الأخرى الخاصة، وأضيفها لأواجه المشكلة في صراحة، أضيفها معلنًا في غير كبرياء ولا فخر بأنني من الأشخاص الذين لا تلعب بهم الأوهام ولا التخيلات، ولم أكن في يوم من الأيام فريسة أباطيل أو خرافات، ولقد باعد الله سبحانه -وله الفضل والمنة- بيني وبين التأثر بالإيحاء الموهم، فإذا أضفت أسبابًا خاصة فإنما أضيفها عن يقين وثقة، ولعل الله يهدي بها بعض من لا يزال في قلوبهم الاستعداد للخير، وفي أرواحهم أسس الاهتداء إلى الحق.

في فترة من الفترات ابتلاني اللهُ بموضوع شق على نفسي وعلى نفس المحيطين بي، واستمر الابتلاء مدة كنا نلجأ فيها إلى الله طالبين الفرج.

وذات يوم أتى عندي بعض الصالحين -وكان على علم بهذا الابتلاء- وأعطاني ورقة كتب فيها صيغة من صيغ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: اقرأها، واستغرق فيها، وكرِّرْها منفردًا في الليل؛ لعل الله يجعلها سببًا في تفريج هذا البلاء.

والصيغة هي: اللهم صلِّ صلاة جلال، وسلم سلام جمال على حضرة حبيبك سيدنا محمد، واغشه اللهم بنورك كما غشيته سحابة التجليات، فنظر إلى وجهك الكريم، وبحقيقة الحقائق كَلَّمَ مولاه العظيم الذي أعاذه من كل سوء.

اللهم فرج كربي كما وعدت ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل:62]، وعلى آله وصحبه، آمين.

واعتكفت في غرفة بعد صلاة العشاء، وأضأت نور المعرفة، وأمسكت الورقة بيدي وأخذت في تكرار الصيغة واستغرقت فيها، وإذا بي أرى فجأة أن الحروف التي كتبت بها الصيغة تتلألأ نورًا، ومع أن الغرفة كانت مضيئة فإن الحروف كانت تتلألأ نورًا في وسط هذا النور.

ولم أصدق عيني فغمضتهما وفتحتهما عدة مرات فكان النور على ما هو، فوضعت الورقة أمامي ووضعت يدي على عيني أدلكهما وأدعكهما، ثُمَّ فتحت عيني فإذا بالحروف على ما هي عليه تتلألأ نورًا وتشع سناء.

فحمدت الله، وعلمت أن أبواب الرحمة قد فتحت، وأن هذا النور رمز ذلك، وفعلًا أزال الله الكرب وحقق الفرج بكرامة هذه الصيغة المباركة.

وأمر آخر من خوارق العادات شاهدته بنفسي:

في ذات صباح كنت جالسًا في المنزل، في غرفة المكتب كعادتي، وكنت في تلك اللحظة مطأطئ الرأس، ثم رفعت رأسي ناظرًا أمامي وإذا بي أجد أمامي إنسانًا فأخذت في تأمله دون أن أشعر قَطُّ بخوف أو فزع.

كان طويلًا، أقرب إلى النحافة منه إلى السمنة، يميل لونه إلى السمرة، وعلى رأسه شال أبيض أو ما يسميه الحجازيون «الغطرة»، وكان في وقفته منحنيًا قليلًا، وقد تأملت ملابسه أيضًا في تفاصيلها وشكلها.

لم يتحدث معي، ولم أتحدث إليه.

وبعد فترة ونحن على هذا الوضع، أنظر إليه في تحديق، ويمد عينيه إليَّ في نظرات ثابتة أخذ يشف شيئًا فشيئًا، وألاحظ أنا في وضوح التدرج في هذه الشفافية وانتهت الشفافية بزواله تمامًا دون أن يتحرك من موضعه، ذلك ما شاهدته بنفسي، وماذا يكون خرق العادات غير هذا؟.

إن الذين يُنكرون خرق العادات، وينكرون الكرامات لأولياء الله، إنما ينكرون شيئًا أثبتته تجارب الإنسانية منذ أن وُجدت الإنسانية، وأثبته القرآن الكريم، وأثبته جمهور الأمة، وقد رأيت أنا خرق العادات بنفسي وبعيني كما رويت سابقًا.

ومن أجل كل ذلك أثبتُّ ما أثبتُّ في الكتاب من كرامات أبي الحسن، وبدأته بعد المقدمة مباشرة بكرامة من كراماته، رواها أقرب تلاميذه ومريديه إليه وهو القطب الكبير أبو العباس المرسي الذي كان شاهد عِيان فيها.

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص  162 - 167.

 


التقييم الحالي
بناء على 5 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث