نسخة تجريبيـــــــة
الطريق الصوفى عند الشيخ أبى الحسن

إن كلمة الإسلام التي وُضعت اسمًا للدين عند الله، الدين الذي لا يقيده زمن، ولا يحده مكان تتضمن في مفهومها الكريم المعاني الأخلاقية السامية؛ فإنها تعني إسلام الوجه لله، وتتسع لأقصى ما يتطلبه الذاهب المجِد في السير إلى الله، لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  -في حديث في مرويات الإمام مسلم- عن الإسلام فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أن يَسلم لله قلبك، وأن يَسلم المسلمون من لسانك ويديك».

وإسلام القلب لله إسلامًا كليًّا على قدر الاستطاعة التي تناسب كل فرد، والتي تختلف في الأفراد لاختلاف طبائعهم، وإنما هو هدف الصوفي.

ولقد كان إسلام القلب لله هدف أبي الحسن، هدفه لنفسه، وهدفه للآخرين وهو حينما وصل في مجاهداته إلى إسلام قلبه لمولاه، حاول ما استطاع أن يصل بأتباعه إلى ذلك، فأخذ يبشر بكل ما يؤدي إلى هذا المعنى.

والجو الذي يعيش فيه أبو الحسن إذن إنما هو جو:

عبودية: وهل العبودية إلا إسلام الوجه لله؟.

وتوكل: وهل التوكل إلا التعبير عن إسلام الوجه لله؟.

وإخلاص: وماذا يكون إسلام الوجه لله إن لم يُبنَ على الإخلاص، وإن لم يثمر الإخلاص؟.

ومحبة: وهل يتأتى إسلام الوجه لله إلا عن المحبة له تعالى؟.

وإسلام الوجه لله يسبقه ويرافقه الذكر والعبادة.

وأخذ أبو الحسن يقود الناس إلى إسلام الوجه لله بالمثال والقدوة، وبالحديث والشرح، وبيَّن لهم أنهم إذا أسلموا وجههم إليه كانوا في كفالته ورعايته، وكانوا بذلك في أمن وسلام، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ[يونس:62-64].

وأراد أبو الحسن أن يسير بحسَب استعدادِه للعروج، وهو يصف القمة وهم أهل الله وخاصته بهذه الكلمات الجميلة:

«أما أهل الله وخاصته فهم قوم قوم جذبهم عن الشر وأصوله، واستعملهم في الخير وفروعه، وحبب إليهم الخلوات، وفتح لهم سبيل المناجاة، فتعرف إليه فعرفوه، وتحبب إليهم فأحبوه، وهداهم السبيل إليه فسلكوه؛ فهم به وله، لا يدعهم لغيره، ولا يُحجَبون عنه، بل هم محجوبون به عن غيره، لا يعرفون سواه، ولا يحبون إلا إياه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب». اهـ.

وليس كل الناس يستطيع ذلك، ولا يطمع أبو الحسن أن يصل بهم جميعًا إلى هذا، ولكن إذا كانت طبيعةُ الأمور تأبى التسوية في الطبائع فإنها لا تأبى إشاعة جو من النور والعبودية والإخلاص يقبس منه كلٌّ بحسب استعداده.

ويحسن بنا -قبل رسم الطريق الصوفي- أن نتحدث عن التصوف في رأي أبي الحسن، يقول رضى الله عنه :

التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية.

وهذا التعريف يشبه التعريف الذي ذكره الخلدي المتوفى سنة 348هـ للتصوف، وهو: طرح النفس في العبودية، والخروج من البشرية، والنظر إلى الحق بالكلية.

ويشبه التعريف الجميل للتصوف الذي ذكره رويم المتوفى سنة (303هـ) وهو: استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد.

وهذه التعريفات للتصوف إنما هي تعريفات بالوسيلة، أي إنها على الخصوص تعريف للطريق الذي يؤدي إلى الغاية، وليست تعريفًا للغاية.

ومن أجل أنها تعريف للطريق، أتى تعريف «الصوفي في رأي أبي الحسن متساوقًا لتعريفه للتصوف؛ فهو يقول عنه: الصوفي فيه أربعة أوصاف:

أ- التخلق بأخلاق الله عز وجل.

ب- المجاورة لأوامر الله.

جـ- ترك الانتصار للنفس حياء من الله.

د- ملازمة البساط بصدق البقاء مع الله.

وما من شك في أن هذه الأحاديث عن التصوف، وبعبارة أدق عن الطريق الصوفي، تتساوى وتتكامل مع ما يتحدث به أبو الحسن عن الصديقين، وعن قربهم من الحق سبحانه ومشاهداتهم في الملأ الأعلى، وبذلك تكمل الصورة عن التصوف وهي:

1- تصفية للنفس كوسيلة.

2- وقرب ومشاهدته كغاية.

والتصوف يتضمن الوسيلة والغاية، أو الطريقة والحقيقة.

لنأخذ الآن في رسم الطريق، ونحن في رسمنا هذا إنما نرسم على الخصوص «جوًّا» روحيًّا، إننا نحاول نشر عبير، ونحاول نفث أريج نأمل أن يهيئ الله لتنسمه الكثيرين من عباده، وأن يهدي له ويهدى به.

وسنحاول -ما أمكن- رسمَه بأسلوب أبي الحسن نفسه ونرجو من الله التوفيق:

1- الإخلاص:

يقول الله تعالى: ﴿أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ[الزُّمر:3]، وهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ومن أجل ذلك لابد من الإخلاص، وهو في ذروته.

«نور من نور الله استودعه قلب عبده المؤمن، فقطعه به عن غيره، فذلك هو الإخلاص الذي لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله»، وإلى ذلك الإشارة بقوله عز وجل فيما يحكي عنه جبريل — لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي».

والإخلاص على ضربين:

أ- إخلاص الصادقين.

ب- إخلاص الصديقين.

فإخلاص الصادقين: لطلب الأجر والثواب([1]).

وإخلاص الصديقين: وجود الحق مقصودًا به، لا شيء غيره، ولا شيء من غيره.

ويتحدث أبو الحسن عن صفات المخلصين فيقول:

رجال جَبَلَهم على حسن عبوديته، وأخلصهم لإخلاص توحيد ربوبيته واتباع شريعته، فيما منع أسرارهم بأنوار حضرته، وأمد أرواحهم بمعاني المعارف وخصائص عنايته، وأجال عقولهم في عظمته، وزكى نفوسهم فأحرزها وأخرجها من ظلمة الجهل، وهداهم بنجوم العلم وشمس معرفته، وأيَّد عقائدهم ببرهان كتابه وسنته، ومحا عزائمهم بتحقيق غلبة مشيئته، وطوى إرادتهم بتيقن وقفها على إرادته، وزينهم بزينة الزهد، وحلية التوكل، وشرف الورع، ونور العلم، وضياء المعرفة، وألهمهم لفضله وطَوله، وتولاهم فأغناهم به عن غيره.

وجعل منهم مفاتيح لقلوب الورى، وينابيع الحكمة الكبرى، يتلقونها شرعًا ويلقونها لأهلها سرًّا وجهرًا، ومنهم من سترته الأقدار، وحجبته عن الأغيار لينفرد بالتمكن في حقيقة الأسرار، تعرف كلًّا بسيماهم، باطنهم مع الحق وظاهرهم مع الخلق، فهم هم، ولا هم هم في الوجود، بوصف الغناء ظاهرين، صفوا وافترقوا في سيرهم سننًا، ظاهرهم الفقر وباطنهم الغنى، يتخلقون بأخلاق نبيهم صلى الله عليه وسلم  كما قال العلي الأعلى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضُّحى:8].

أفتراه أغناه بالمال؟ كلَّا، وقد شد الحجر على فؤاده، وأطعم الجيش من صاع، وخرج من مكة على قدميه صلى الله عليه وسلم ، وركب فوق البراق، وعرج به إلى السماء العلا إلى سدرة المنتهى، ورأى ما رأى، ما كذب الفؤاد ما رأى.

فانظر إلى حال الغنى في الوصفين، واشهد شرف أوصافه في الحالين، فإن قلت بشر؟ قلت نعم لا كالبشر، كما تقول في الياقوت حجر لا كالحجر.

وفي العباد نبي ورسول يدعو بالحق إلى الحق، فأعطى الأولياء منه ميراثًا من النبيين بين الخلق، إذ هم قوم أخذوا في التأسي بجِدٍّ وإتيان، واعتقدوا قول: «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان»، وأقاموا في مقام التوحيد، على قدم التجريد من حظوظ النفس وملاحظة الحظوظ، واقتداء بالسلف رضى الله عنه، هذا قصد القوم، وأصل في الإخلاص والتخصيص فيما لو نظرت إلى حقيقة ذلهم وافتقارهم الذي هو عين العِزِّ والغنى بمولاهم، اشتد تحقيق حالهم إلَّا على ولي في نهايته، أو صِدِّيقٍ ولو في بدايته؛ لأن غايات الأولياء بداية الصِّدِّيقِينَ.

فخذ السر جهرًا إليك، واحبس عليه بكلتا يديك، ولا تكترث بحُسَّادك؛ فقد قال لنبيه —: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ[الفلق:1] حتى قال له: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ[الفلق:5]، ولا تسألني أن أقطعه عليك، فكأنه عز وجل يقول له: سلني أن أكفيك شر حسادك ولا تسألني أن أقطعهم عنك، فإن الحسَّاد مع النِّعَم، ولا بد من نعمة عليك فتأس يا مسكين إن أردت الشفاء، فلعله أن يقع بكشف خطاب، ولا تطمع أن يقع مع الحجاب.

2- التوبة:

وأول ما يبدأ به المريد السالك إلى الله الذي يريد إسلام وجهه إليه، إنما هو التوبة، وتبدأ التوبة بالاستغفار، وحقيقة الاستغفار ألا يكون لك مع غير الله قرار، وهو بهذا الوضع أمان للمستغفر من عذاب الله، قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال:33].

3- النية:

ولا بد في كل عمل يأتيه الإنسان- بل كل أمر يتركه- من النية، ومن الإخلاص في النية؛ وذلك لكي يترتب الأجر والثواب من الله على العمل، ويقول صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».

والنية، والقصد، والعزم، والإرادة، والمشيئة، كل ذلك بمعنى واحد، أو يجب أن يكون بمعنى واحد.

وحقيقة النية عدمُ غير المنوي عند الدخول فيه، وكمالها استصحاب ذلك على الكمال، ووقت النية عند افتتاح العمل، وكيفيتها ارتباط القلب مع الجوارح.

يقول صلى الله عليه وسلم : «من صلحت نيته صلح عمله».

فحسن النية فيما بينك وبين الله بتوجيه القلب بالتعظيم لله، والتعظيم لأمر الله، والتعظيم لما به أمر.

وفيما بينك وبين العباد توجيه بالنصيحة لهم، والقيام بالحقوق، وترك الحظوظ، ونبذ العوراض، مع الصبر لله والتوكل على الله([2]).

ومهما يكن من شيء؛ فإنه بمقدار الإخلاص في النية يكون الثواب ويكون الترقي.

4- الطريق القصد إلى الله تعالى:

والطريق القصد إلى الله تعالى أربعة أشياء، من حازها فهو من الصديقين المحققين، ومن حاز منها ثلاثًا فهو من الأولياء المقربين، ومن حاز منها اثنتين فهو من الشهداء الموقنين، ومن حاز منها واحدة فهو من عباد الله الصالحين.

أولها: الذكر، وبساطه العمل الصالح، وثمرته النور.

وثانيها: التفكير، وبساطه الصبر، وثمرته العلم.

وثالثها: الفقر([3])، وبساطه الشكر وثمرته المزيد منه.

ورابعها: الحب، وبساطه بغض الدنيا وأهلها([4])، وثمرته الوصل بالمحبوب.

5- الخلوة:

وأخذًا في هذا الطريق القصد إلى الله، وتدعيمًا للتوبة، وتثبيتًا للإخلاص، يحسن أن يخلو الإنسان وربه فترة من الزمن، هي فترة العزلة، أو فترة الخلوة، أو فترة الكهف، أو فترة الغار، يلازم فيها: «الذكر والمراقبة والتوبة والاستغفار».

ومهما خالط سره شيء من ذنب أو عيب أو نظر إلى عمل صالح أو حال جميل، فيجب عليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار من الجميع، أما من الذنب فواجب شرعًا، وأما غيره فاعتبارًا باستغفار النبي؛ تسليمًا بعد البشارة واليقين بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا من معصوم لم يقترف ذنبًا قط فما ظنك بمن لا يخلو من ذنب أو عيب في وقت الأوقات.

أما ثمرة العزلة فهي الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة: كشفُ الغطاء، وتنزل الرحمة، وتحقق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة، قال الله تعالى:

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا[مريم:49-50].

6- الجهاد:

ولا بد للمريد من الجهاد.

لا بد له من جهاد العدو، ومن أراد ألَّا يكون الشيطان عليه سبيل فليصحح الإيمان والتوكل والعبودية لله، وليستعذ به سبحانه، قال تعالى:

﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[النحل:99].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ[الحجر:42].

 وقال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ[فصِّلت:36]، ولعلك عن كيفية تصحيح الإيمان فاعلم أنه:

بالشكر على النعماء، والصبر على البلاء، والرضا بالقضاء.

أما صحة التوكل فإنها: بهجران النفس([5])، ونسيان الخلق([6])، والتعلق بالملك الحق، وملازمة الذكر، وإذا عارضك عارضٌ يصدك عن الله فاثبت، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الأنفال:45].

أما تصحيح العبودية فإنه بوضوح الفكرة عن حقيقة الصفات الإنسانية، وحقيقتها أنَّها فقر بالنسبة إلى الله تعالى، وعجز بالنسبة إلى قوته، وذل في مقابلة عزه سبحانه، ومهما يكن من شيء فإن مخازي الشيطان أربعة:

1- إما أن تجلس متفكرًا فيما يقربك إلى الله فتأتيه.

2- أو مفكرًا فيما يُبعدك عنه فتجنبه.

3- وإما أن تجلس متفكرًا فيما سبق من حُسن عملك فتشكر وتستغفر.

4- وإما أن تجلس متفكرًا فيما سبقَ من ذنوبك فتستغفر وتشكر.

7- النفس:

والحديث عن الشيطان يستتبع الحديث عن «النفس»، ومراكز النفس أربعة:

1- مركز للشهوة في المخالفات.

2- ومركز للشهوة في الطاعات.

3- ومركز في الميل إلى الراحات.

4- ومركز في العجز عن أداء المفروضات.

﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ[التوبة:5].

وإذا أردت جهاد النفسِ فاحكم عليها بالعلم في كل حركة([7])، واضربها بالخوف عند كل خطرة، واسجنها في قبضة الله أينَما كنت، واشكُ عجزك إلى الله كُلَّمَا غفلت، فهي التي لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها، فإن سخرت لكم في قضية فجدير أن تذكروا نعمة الله عليكم وتقولوا:

﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ[الزُّخرف:13].

ومهما يكن من شيء فإن موت النفس يكون بالعلم والمعرفة والاقتداء بالكتاب والسُّنَّة، وعلاج من انقطع عن المعاملات ولم يتحقق بحقائق المشاهدات أربعة:

طرحُ النفس على الله طرحًا لا يصحبه الحول والقوة، والتسليمُ لأمر الله تسليمًا لا يصحبه الاختيار مع الله، هذان علاجان باطنان.

وذم الجوارح عن المخالفات، والقيام بحقوق الواجبات، وهذان علاجان ظاهران.

ثم يقعد على بساط الذكر بالانقطاع إلى الله عن كل شيء سواه؛ لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[المزمل:8].

8- الدنيا:

وحينما يُذكر الشيطان، وتُذكر النفس، فإنه تُذكر الدنيا.

والدنيا التي لا حساب عليها في الآجل، ولا حجاب معها في العاجل هي التي لا إرادة لصاحبها فيها قبل وجودها، ولا معها مع وجودها، ولا أسَفَ عليها عند فقدها.

والحُرُّ الكريم من يأخذها منه على المواجهة ويدعها به على المواجهة، لا أثر للأغيار على قلبه، هذا ما يقوله الشاذلي عن الدنيا، وكل ما تريده الصوفية إنَّما هو الابتعاد عن أن يكون الإنسان عبدًا للدنيا، ولا مانع عندهم أن يكون الإنسان من أصحاب الملايين إذا لم يكن قلبه متعلقًا بالدنيا في إقبال أو إدبار، ووجهتهم تحقق الآية القرآنية الكريمة: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ[الحديد:23].

ومع أننا تحدثنا عن «الدنيا» في نظر الصوفية فإننا نريد أن نزيد الأم وضوحًا؛ وذلك لأنه يلتبس دائمًا الأمر في موضوعها عند الصوفية على كثيرين.

إن الدنيا الممقوتة عند الصوفية إنما هي الدنيا التي تشغل وتلهي وتستعبد، إنها الشهوات والنزعات والأهواء، إنها اللعبُ واللهو والغفلة عن الله.

أما امتلاك المال، واقتناء العقار، والثراء عريضًا أو غير عريض -فلا مانع عند الصوفية إذا خلا من المضار، يقول أبو الحسن ضارعًا إلى الله داعيًا:

اللهم وسِّع أرزاقنا، وكثِّر أضيافنا، واجعلنا من المتقين في سبيل مرضاتك قصدًا بلا إسراف ولا تقتير، ووفِّقنا لذلك، واهدنا بهدايتك، وأخلصنا بإخلاصك عن إخلاصنا، وقنا من الشح والبخل والمن، ومن التهمة في الرزق([8]).

وقال رضى الله عنه : اعرِف الله ثم استرزقه من حيث شئت غير مُكِبٍّ على حرام، ولا راغب في حلال.

ومن الدعاء الجميل لأبي الحسن، الدعاء الذي يستنتج منه الإنسان الرأي الحقيقي للصوفية فيما يتعلق بالدنيا، قوله: يا الله، يا ولي يا نصير، يا غني يا حميد، أعوذ بك من دنيا لا يكون فيها نصيب لوجهك، ومن عمل آخرة يكون فيها حظ لغيرك.

وأعوذ بك من كل حركة تعرى من الاقتداء بسنة رسولك، ومن كل ضرورة لا تؤدي إلى حقيقة معرفتك.

واعكف قلبي في حضرتك، وأغنني عن رعايتي برعايتك؛ إنك على كل شيء قدير([9]).

9- العبودية:

وإذا أكرم الله عبدًا في حركاته وسكناته، نصَب له العبودية لله، وستَر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة مع جَرَيَانِ ما قدر له منها، ولا يلتفت إليها كأنه في معزِل مشغول عنها.

وإذا أهان الله عبدًا في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلب في شهواته، وعبوديته لله عنه بمعزل، وإن كان يجري منها شيء في الظاهر.

10- الطاعات:

والعبد الذي أكرمه اللهُ بالعبودية يؤدي كل طاعة في وقتها؛ ذلك أنَّ لكل وقت سهمًا في العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية؛ فلا تؤخر طاعة وقت لوقت، فتعاقب بفوتها أو بفوت غيرها.

وفائدة الطاعات والمحافظة عليها لا تُنكَر، ولقد قيل لأبي الحسن مرة:

ما الذي استفدتَ من طاعتي، وما الذي استفدت من معصيتي؟ فقال: استفدت من الطاعة العلم الزائد والنور النافذ والمحبة.

واستفدت من المعصية: الغم والحزن والخوف والرجاء.

وعليك أيها الأخ بالمطهرات الخمس في الأقوال، والمطهرات الخمس في الأفعال، والتبري من الحول والقوة في جميع الأحوال، وغُصْ بعقلك إلى المعاني القائمة بالقلب، واخرج عنها وعنه إلى الرب، واحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده أمامك، واعبد الله بها وكن من الشاكرين.

والمطهرات الخمس في الأقوال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والمطهرات الخمس في الأفعال هي: الصلوات الخمس، والتبري من الحول والقوة هو قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإيمانك بها.

11- درجات ودرجات:

ومن علم اليقين بالله وبما لك عند الله أن تتعاطى بين الخلق ما لا تصغر به عند الحق، وإن صغرت به في أعين الخلق بلا اعتراض من الشرع ولا منازعة من الطبع، بل من عين اليقين نسيان الخلق عند هجوم الشدايد وتتابع الفوايد بسواطع الشواهد.

بل من حق اليقين الغرق في الشيء كأنك نفس الشيء، كمن اضطر إلى رؤية البحر فركبه، وانكسرت سفينته فتلاطمت عليه أمواجه، فمنهم بعدُ من يفنى ويذهب مع الذاهبين وينقل إلى درجات عليين.

ومنهم من يحيا ويبقى مع الباقين، لا حظَّ للمقتدى فيه؛ بل هو مستور عن الخلق أجمعين، ومنهم من يحيا ويبقى مع الباقين، لا حظ للمقتدي فيه بل هو في الوصفين قدوة للثقلين، ومنهم الإمام الأكبر الفرد القطب الغوث الجامع المختصُّ بالأسماء والصفات والأنوار والأخلاق، وما لا يسع أن يسمعه سامع.

ومن دونهم ممن لا درجة له مع الأولياء والأتقياء والعُبَّادِ والزهاد، ومن أهل النظر بالدليل والبرهان، ولم يَطَّلِعْ بعد على الكشف والعِيان.

ومن دونهم أهل الوسائل بالأعمال والأحوال، وأهل التحليل في الأقوال والأفعال، ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج:18].

12- الذكر:

 وعلى المريد السالك الأخذ في الذكر:

«وعليك أيها الأخ بالذكر الموجب للأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وتمسك به وداوم عليه» وينصح أبو الحسن بالإكثار من صيغة من الذكر وهي: الحمد لله، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقول رضى الله عنه : اجمع بين هذه الأذكار الثلاثة في عموم الأوقات، وداوم عليها تجد بركتها إن شاء الله، فإذا ما فرغ الإنسان لسانه للذكر وقلبه للشكر وبدنه لمتابعة الأمر؛ فهو من الصالحين.

ويرى الصوفية أنهم مهما أشادوا بالذكر، وتحدثوا عن فوائده ومزاياه؛ فإنهم لا يوفونه حقه، إنهم يرون أنه -بعد التوبة والإخلاص- البابُ إلى الترقي في الدرجات وقطع المنازل وطي المسافات إلى المعارج والقربات وإلى الفتح والإلهامات.

يقول الإمام القشيري: الذكر ركن قوي في طريق الوصول إلى الحق سبحانه وتعالى، بل هو العمدة في طريق القوم، ولا يصل أحد إلى الله إلَّا بدوام الذكر.

ومن أجل ذلك كان اهتمام أبي الحسن بالذكر كبيرًا، وكان ما روي عنه في ذلك كثيرًا.

ولقد حاولنا -في الحدود المحدودة بالنسبة لحجم هذا الكتاب- أن نذكر، في الفصل الذي عقدناه عن الذكر إشراقات مختارة من ذلك؛ لعل الله ينفع بها.

13- الورع:

فإذا ما كان الذكر كانت الأحوال وكانت المقامات، فمن ذلك الورع.

والورع نعمَ الطريقُ لمن عُجِّلَ ميراثه وأُجِّلَ ثوابه.

فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله، والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة.

فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم لا يُدبرون ولا يختارون ولا يريدون، ولا يتفكرون ولا ينظرون، ولا ينطقون ولا يبطشون، ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله ولله من حيث يعلمون، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر؛ فهم مجموعون في حين الجمع لا يتفرقون فيما هو أعلى، ولا فيما هو أدنى، وأما أدنى الأدنى فالله يورعهم عنه ثوابًا لورعهم مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم، ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى، وميراثه التَّعَزُّزُ لخلقه والاستكبار على مثله، والدلالة على الله بعلمه، فهذا هو الخُسران المبين والعياذ بالله العظيم من ذلك.

والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه، ومن لم يزدد بعلمه وعمله افتقارًا لربه وتواضعًا لخلقه فهو هالك، فسبحان من قطع كثيرًا من الصالحين بصلاحهم عن مصلحتهم، كما قطع كثيرًا من المفسدين بفسادهم عن موجِدِهم، فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم([10]).

14- الزهد:

وحقيقة الزهد فراغ القلب مِمَّا سوى الرب تبارك وتعالى.

15- التوكل:

والتوكل صرف القلب عن كل شيء سوى الله، وحقيقته: نسيان كل شيء سواه، وسره وجود الحق دون كل شيء تلقاه، وسر سره ملك وتمليك لما يحبه ويرضاه([11]).

ولا يصح التوكل إلا لمُتَّقٍ، ولا تتمُّ التقوى إلا لمتوكل([12]).

16- الرضا:

ومن ذلك الرضا: الرضا عن الله، وعن قضاء الله، لا عن النفس، يقول أبو الحسن: ألقِ بنفسك على باب الرضا، وانخلع عن عزائمك وإرادتك.

17- المحبة:

والذي نختم به الطريق إنما هو المحبة، والمحبة والرضا والزهد والتوكل هي بساط الكرامة عند أبي الحسن، يقولرضى الله عنه : «بساط الكرامة أربع:

1- حب يشغلك عن حب غيره.

2- ورضا يتصل به حبك بحبه.

3- وزهد يحققك بزهد في بريته.

4- وتوكل عليه يكشف لك عن حقيقة قدرته.

ولأبي الحسن كلام جميل عن المحبة، ولا يتأتى أن يخلو كتاب عنه من ذكرها، قال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه : من أحبَّ الله وأحبَّ لله فقد تمت ولايته بالحب.

والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته؛ فإنَّ من ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت، ويعلم ذلك من قوله تعالى:

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[الجمعة:6].

فإذن الولي على الحقيقة لا يكرَه الموت إن عرض عليه.

وقد أحبَّ الله من لا محبوب له سواه، وأحب له من لا يحب شيئًا لهواه، وأحب لقاءَه من ذاق أنس مولاه.

ويتمحض لك الحب له في عشرة فاعتبرها فيما وراءها: في الرسول صلى الله عليه وسلم ، والصديق والفاروق، والصحابة والتابعين، والأولياء والعلماء الهداة إلى الله تعالى والشهداء والصالحين والمؤمنين.

فإذن افترق الأمر بعد الإيمان إلى عشرة أشياء: إلى السنة والبدعة، والهداية والضلالة، والطاعة والمعصية، والعدل والجور، والحق والباطل، فإذا ميزت وأحببت وأبغضت فأحب له وأبغض له، ولست تبالي بأيهما كنت، وقد يجتمع لك الوصفان في شخص واحد، ويجب عليك القيام بحقهما جميعًا، فإذن قد بان لك الحب في العشرة الأُوَلِ؛ فانظر هل ترى للهوى هناك أثرًا، فكذلك فاعتبر حب من حضر من إخوانك الصَّادقين، والمشايخ الصالحين، والعلماء المهتدين، وسائر من حضر ومن لم يحضر ممن غاب عنك أو مات، فإن وجدت قلبك لا تعلق له بمن حضر كما لا متعلق له بمن غاب عنك أو مات؛ فقد خلص الحب من الهوى وثبت الحب لله، وإن وجدت شيئًا يتعلق به فيمن تحب أو فيما تحب، فارجع إلى العلم وأتقن النظر في الأقسام الخمسة من الواجب، والمندوب إليه، والمكروه، والمحظور، والمباح([13]).

وقال الشيخ رضى الله عنه : المحبة آخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء  سواه، فترى النفس مائلة لطاعته والعقلَ متحصنًا بمعرفته، والروح مأخوذة في حضرته، والسرَّ مغمورًا في مشاهدته، والعبد يستزيد فيُزاد، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيُكْسَى حلل التقريب على بساط القربة، ويَمَسُّ أبكار الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائسَ المجرمون.

قال له القائل: قد علمت الحب.

فما شراب الحب؟ وما كاس الحب؟ ومن الساقي؟ وما الذوق؟ وما الشراب؟ وما الري؟ وما السكر؟ وما الصحو؟.

قال: الشراب: هو النور الساطع عن جمال المحبوب.

والكأس: هو اللطف الموصل ذلك إلى أفواه القلوب.

والساقي: هو المتولي الأكبر المخصوصين من أوليائه والصالحين من عباده، وهو الله العالم بالمقادير ومصالح أحبائه.

فمن كشف له عن ذلك الجمال، وحظي منه بشيء نفسًا أو نفسين، ثم أرخى عليه الحجاب، فهو الذائق المشتاق.

ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين فهو الشارب حقًّا.

ومن توالَى عليه الأمر ودام له الشرب، حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة؛ فذلك هو الري.

وربما غاب عن المحسوس والمعقول فلا يدري ما يقال ولا ما يقول؛ فذلك هو السكر، وقد تدور عليهم الكئوس وتختلف لديهم الحالات، فيُرَدُّونَ إلى الذكر والطاعات، ولا يحجبون عن الصفات مع تزاحم المقدورات، فذلك وقت صحوهم واتساع نظرِهِم ومزيد علمهم.

فهم بنجوم العلم وقمر التوحيد يهتدون في ليلهم، وبشموس المعارف يستضيئون في نهارهم: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُون[المجادلة:22].

هذه المقامات من: ورع، زهد، وتوكل، ورضا، ومحبة، وغيرها، إنَّما هي ثمرة «الذكر» المؤسَّسِ على الإخلاص والتوبة والعبودية والاستقامة، ولن يترقى المريدُ إلا بالركن الأساسي في طريق القوم وهو الذكر.

 

المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص96- 115.

 



([1])    «درة الأسرار»، 112- 113.

([2])    «درة الأسرار»، ص154.

([3])    الفقر مما سوى الله إلى الله.

([4])    بغض الدنيا على أنها شهوات، وبغض أهل الدنيا اللَّاهين العابثين.

([5])    أي النزغات السيئة.

([6])    ونسيان الخلق باعتبارهم، فإن المؤثر الوحيد هو الله.

([7])    أي جعل حركاتها تابعة للعلم بما يجب عمله أو يجب تركه.

([8])    «درة الأسرار»،: ص163.

([9])    «درة الأسرار»، ص111.

([10])   يعلق ابن عطاء الله على ذلك فيقول: فانظر -فهمك الله سبيل أوليائه، ومَنَّ عليك بمتابعة أحبائه- هذا الورع الذي ذكر الشيخ رضى الله عنه ، هل كان فهمك إلى مثل هذا النوع من الورع ألا ترى قوله: فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة، فهذا هو ورع الأبدال والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عنه سوء الظن وغلبة الوهم.

([11])   «درة الأسرار»، ص48.

([12])   «درة الأسرار»، ص58.

([13])   ويقول ابن عطاء الله معلقًا على ذلك:

       واعلم أن قول الشيخ: من ثبتت ولايته لا يكره الموت، هذا ميزان أعطاه للمريدين ليزنوا به على نفوسهم إذا ادَّعى فيهم أو ادعَوا ولاية الله؛ فإن من شأن النفوس وجود الدعوى والتوثب إلى المراتب العالية من غير أن يسلك السبيل الموصلة إليها؛ ولهذا قال الله سبحانه: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وقال هنا:﴿فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:94]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم  لحارثة: «لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟»، لمَّا قال لحارثة: «كيف أصبحت؟»، فقال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. ولا يحب الموت من فيه البقايا، ولا من هو مُصِرٌّ على شيء من الخطايا، وجعل الله تمني الموت شاهدًا للولي بولايته، وعدم تمنيه شاهدًا للغَوِي بغوايته، وقال سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ[الرحمن:9]، والموت ميزان على الأفعال والأحوال كما هو ميزان في دائرة الرتب، أما الرتب فكما تقدم، وأما الأفعال والأحوال فإذا التبَسَ عليك أمر أنت فيه لا تدري هل رضا الله في تركه أو فعله، أو حالة أنت بها لا تدري هل قمت فيها بحق أو قمت فيها بهوى؛ فأورد الموت على ما أنت فيه من أفعال وأحوال، فكل حالة وعمل يثبت مع تقدير ورود الموت عليها ولم تنهزم فهي حق، وكل حالة وعمل هزمها الموت فهي باطل؛ إذ الموت حق، والحق يهزم الباطل ويدمغه؛ لقول الله عز وجل: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ[الأنبياء:18]، ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَّامُ الغُيُوبِ[سبأ:48]، ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء:81]، وما كنت فيه قائمًا بحق لم يهزمه الموت؛ إذ هو حق والموت حق والحق لا يهزم الحق.


التقييم الحالي
بناء على 3 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث