يقول ابن عطاء الله السكندري معبرًا عن رأي المدرسة الشاذلية:
«إذا كان من الكائنات ما هو غني بوضوحه عن إقامة دليل، فالمكون أولى بغناه عن الدليل منها»([1]).
وهذه الفكرة إنَّمَا هي عودة إلى الطريق الصواب فيما يتعلق بما سماه المتكلمون: «إثبات وجود الله»، وهي فكرة وَجَّهَ إليها الشيخ أبو الحسن مريديه أكثر من مَرَّةٍ، فهو يقول: «كيف يُعْرَفُ بالمعارف من به عُرِفَتِ المعارف، أم كيف يُعْرَفُ بشيء»([2]).
ويقول أيضًا: «إنَّا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان فأغنانا ذلك عن الدليل والبرهان، وإنَّا لا نرى أحدًا من الخلق: هل في الوجود أحد سوى الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء، إن فَتَّشْتَهُ لم تجده شيئًا». اهـ.
ويتابع أبو الحسن الحديث فيقول: ومن أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إليه، فليت شعري هل لها وجود معه حتى توصل إليه، أو هل من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المُظْهِرَةُ له؟!.
ويقول: وكيف تكون الكائنات مظهرةً له وهو الذين أظهرها، أو معرفة له وهو الذي عَرَّفَهَا.
هذا الاتجاه الذي علمه أو الحسن لتلاميذه ونشره بينهم، أخذ ابن عطاء الله السَّكَنْدَرِيُّ في إذاعته وكتابته على أنحاء شتى، فمن ذلك قوله:
«وأرباب الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان؛ لأنَّ أهل الشهود والعيان قدسوا الحق في ظهوره أن يحتاج إلى دليل يدل عليه، وكيف يحتاج إلى الدليل من نَصَّبَ الدليل؟ وكيف يكون معروفًا به وهو المُعَرِّفُ له؟». اهـ.
إن أبا الحسن عَادَ بأتباعه إلى النَّهْجِ الإسلامي الصادق فيما يتعلق بوجود الله، إنَّ وجودَه سبحانه أوضح وأظهر من أن يحتاج إلى دليل، وإنَّ تقديسَ اللهِ سبحانه يَنْأَى بالمؤمن عن أن يتخيل -مجرد تخيل- أنَّ اللهَ يحتاج إلى إثبات وجوده، وإنَّ جلالَ الله
-وهو جزءٌ من عقيدة المؤمن- يَسْمُو بالمؤمن عن أن يَنْزِلَ إلى هذا المستوى من الانحراف.
والواقع أن كل محاولة لإثبات وجود الله إنَّما هي انحراف عن النهج الإسلامي السَّلِيمِ، وإذا كان أبو الحسن قد وَجَّهَ أتباعه إلى هذا النهج، فإنَّمَا يتبع في ذلك المنهج القرآني؛ وذلك أنَّ القرآن الكريم وجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، قد نَزَّهَوا اللهَ عن أن يحاولوا الاستدلال على وجوده، وقدسوه عن أن يكون وجوده في حاجة إلى حُجَّةٍ وبرهان.
ولقد سَارَ الإمامُ الشاذلي على هذا النَّسَقِ متبعًا ومقتديًا.
بيدَ أنَّ فكرته أصحبت الآن غامضة كل الغموض؛ ذلك أنَّ بدعة إثبات وجود الله شائعة حتى في الأوساطِ المستغرقة في التَّدَيُّنِ، ومن أجل ذلك يتساءل الكثيرون: أكان أبو الحسن محقًّا في رأيه هذا؟.
ومن أجل إيضاح فكرة أبي الحسن، ولأن الموضوع في نفسه جدير إلى حد بعيد بالاهتمام؛ فإنَّنَا نستفيض هنا في شرح هذا الموضوع عسى أن يسود توجيهُ أبي الحسن، فيرجع الناس عن البِدْعَةِ إلى التوجيه السليم، على أن من حق أبي الحسن علينا -ونحن نكتب عنه- أن نستفيض في شرح فكرة من أفكاره، كان للعادة والإلف وكان للزمن والظروف دخل في أن أصبحت غير مفهومة فهمًا واضحًا، أو غير مقدرة تقديرًا صحيحًا.
حين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الجهر بدعوته، بعد نحو ثلاث سنوات من الإسرار بها، فإنَّه صلوات الله وسلامه عليه لم يبدأ بإثبات وجود الله، وإنَّما بدأ بالبرهنة على صدقه هو، وتحدى العرب بصدقه، ومن قبل ذلك حين فاجأه المَلَكُ في الغار ونزل الوحي، ولم يبدأ الوحي بإثبات وجود الله، وإنما بدأ الأمر بأن يقرأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه باسم ربه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1].
ومضى القرن الأول كله ولم يحاول إنسان قَطُّ، أن يتحدث حديثًا عابرًا أو مستفيضًا عن إثباتِ وجودِ الله تعالى، ومضى أكثر القرنِ الثاني والمسألة -فيما يتعلق بوجود الله- لا توضع موضعَ البحث؛ ذلك أن وجود الله، إنَّما هو أمر بدهي لا ينبغي أن يتحدث فيه المؤمنون نفيًا أو إثباتًا ولا سلبًا أو إيجابًا، إن وجود الله من القضايا المُسَلَّمَةِ التي لا توضع في الأوساط الدينية موضع البحث؛ لأنها فطرية، وإن كل شخص يحاول وضعها موضع البحث إنَّما هو شخص في إيمانه دَخَلٌ وفي دينِه انحراف، فما خفي الله قَطُّ حتى يحتاج إلى أن يثبته البشر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ومن المعروف أن الدين الإسلامي لم يجئ لإثبات وجود الله، وإنما جاء لتوحيد الله، وإذا تصفحت القرآن، أو التوراة حتى على وضعها الحالي، أو الإنجيل حتى في وضعه الراهن؛ فإنَّك لا تجد أن مسألة وجود الله قد اتَّخَذَتْ في سِفْرٍ منها مكانه تجعلها هدفًا من الأهداف الدينية، أو احْتَلَّتْ مكانًا يشعر بأنها من مقاصد الرسالة السماوية.
والقرآن الكريم يَتَحَدَّثُ عن بداهة وجود الله حَتَّى عند ذوي العقائد المنحرفة، يقول سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[لقمان:25].
إنهم يقولون إنَّ الخالق هو الله، مع أنهم مشركون أو منحرفون بوجه من الوجوه، في إيمانِهِم بالله تعالى، وما نَزَلَتِ الأديان قط لإثبات وجود الله، وإنَّما نزلت لتصحيح الاعتقاد في الله أو تصحيح طريق التوحيد.
أمَّا الآياتُ الكثيرة التي يَظُنُّ بعض الناس أنَّها نزلت لإثبات الوجود، فليست من ذلك في قليل ولا في كثير، إنَّها تُبَيِّنُ عظمة الله وجلاله وكبرياءه وهيمنته الكاملة على العالم، ما عظم من أمره وما دَقَّ مِنْهُ، لا تفوت هيمنته صغيرة ولا كبيرة، ولا يخرج عن سلطانه ما دَقَّ وما جَلَّ.
وقد أتت على هذا الوضع لتقود الإنسان إلى إسلامِ وجهه للهِ إسلامًا كاملًا، بحيث لا يصدر ولا يرد إلا باسمه سبحانه، ولا يأتي أو يدع ما يدع إلا في سبيله تعالى.
ومَضَى القرن الأول على ذلك، ومَضَى القرن الثاني أو أكثره على الفطرة، ثم...
ثم كانت الفلسفة اليونانية.
والفلسفة اليونانية فلسفة وثنية؛ لأنَّها تَصْدُرُ عن العقل لا عن الوحي، وكل فكرة تصدُر عن العقل لا عن الوحي في عالم ما وراء الطبيعة؛ أي في عالم العقيدة -إنما هي فكرة وثنية؛ أي إنها فكرة لا حَقَّ لها في الوجود؛ لأنَّ عالم العقيدة إنَّما هو من اختصاص الله، بَيَّنَهُ على لسان رُسُلِهِ، وكل تدخل من الإنسان في هذا العالم إنَّما هو تدخل فيما ليس للإنسان التدخل فيه؛ لأنه اقتحام لساحة مُحَرَّمَة مقدسة، لا ينبغي أن يدخلها الإنسان إلَّا دخول الساجد الخاشع الخاضع المُسَلِّمِ لما جاء به الوحي الإلهي.
إن الفلسفة اليونانية في عالم العقيدة فلسفة وثنية، إنَّها وثنية حتى حين تُثْبِتُ وجود الله، ولا يخرجها إثباتها وجود الله عن أن تكون وثنية، إنَّها وثنية بالمبدأ الذي قامت عليه، وهو مبدأ تأليهِ العقل البشري، ويستوي بعد ذلك أن تكون قد أثبتت وجود الله أو أنكرته.
وهي حِينَمَا تثبت وجود لله عقليًّا، ليس في ذلك كبير فائدة، ولا يبرر ذلك وجودها، ولا قيمة لما تُثْبِتُهُ، وإثباتُهَا والعدم سواء؛ ذلك أن العقل الذي أثبت هو العقل الذي يُمْكِنُهُ أن ينكر، وهو العقل الذي ينكر بالفعل.
ولا لزوم إذن للطنطنة والتصفيق الذي نحيي به كل عبقرية فكرية في الشرق أو في الغرب تحاول فكريًّا أن تثبت وجود الله.
إننا لا نقيم عقيدتنا على فكر بشري مهما كان هذا الفكر عبقريًّا، ويجب على المؤمن ألا يقيم وزنًا -أيَّ وزن- لأي نتاج فكري في علم ما وراء الطبيعة، سواء أخالف معتقده أم وافقه، إنَّه في معتَقَدِهِ يدين للهِ وحده، وكفى بالله مصدرًا، وكفى بالله هاديًا، وكفى بالله مرشدًا، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن يعتصم بالله فهو حسبه.
إن كل ما عدا الهدى الإلهي في عالم الدين، إنَّما هو وثنية وضلال.
كانت الفلسفةُ اليونانية فلسفة وثنية بشرية، وقد أرادت أن تجد لجامًا يعصِمُهَا من الخطأ؛ فاخترعت فنًّا وثنيًّا آخر، هو فن المنطق، فما أجدى ولا أغنى ولا تقدم بالفكر الوثنى في عالم الصواب شروى نقير.
وبقيت هذه الفلسفة -عبر القرون- على ما هي عليه، فيها كل سمات الوثنية من ضلال وخُرَافَاتٍ.
ولقد كانت الأمة اليونانية معذورة بعض العذر، فما كان في ربوعها دين مُنَزَّلٌ من السماء تلجأ إليه مهتدية مسترشدة، وما كانَ مثلها في ذلك إلا كمثل العصر الجاهلي في الجزيرة العربية، فَلَجَأَتْ إلى العقل وألَّهَتْهُ، وأخذت تثبت به وتُنْكِرُ فضَلَّتْ وأَضَلَّتْ.
وجاءت الديانة النصرانية مُصَحِّحَةً للوضع، فنزهت فكرة الألوهية عن تدنيس الوثنية، وسَمَت بالله جل جلاله عن أن تضع وجوده موضع البحث، ثم تسللت إليها
-كميكروب خبيث- وثنية اليونان، فجعلت من وجود الله -مجرد وجود الله- بابًا ضخمًا من أبواب البحث، أو من أبواب اللاهوت الكَنَسِيِّ، ونزلت بذلك الفكرة الدينية المقدسة عن الله، إلى مستوى الجو الوثني البشري.
وجاء الإسلام تطهيرًا كاملًا للعقيدة وتزكية تامَّة للإيمان، وأعلن بمجرد التسمية «الإسلام» الحرب على التدخل البشري في دين الله ورسالته.
فما «الإسلام» إلَّا الاستسلام المطلق لله سبحانه وتعالى، إنَّه الاسترسال مع الله ما يرضيه، وهل للإنسان غير هذا بالنسبة لله، وهل للمؤمن أنْ يتصرف تصرفًا آخر؟ وهل إذا تصرف تصرفًا آخر يسمى مؤمنًا؟.
إن الاسترسال مع الله على ما يحب هو الإسلام، وهو الدين ولا دين غيره، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ﴾ [آل عمران:19]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران:85].
وإن كان من لا يستسلم لِلهِ في وحيه استسلامًا مطلقًا، فإنَّه يبتغى -في قليل أو في كثير حسب انحرافه- غيرَ الإسلام دينًا.
ولقد كان الإسلام توجيهًا، وكان مبادئ.
ومن توجيه الإسلام: أنَّ وجودَ اللهِ لا ينبغي أن يُوضع موضع البحث، وكل من وَضَعَهُ موضع البحث فإنَّه بذلك يعدل عن توجيه الله تعالى إلى توجيه بشري، إنه يبتغي غير الإسلام موجِّهًا.
وابتغى المسلمون الأُوَلُ الإسلام توجيهًا، كما ابتغوه مبادئَ، وسارَ الأمر على ذلك إلى أن تَسَلَّلَتْ الفلسفة اليونانية -كميكروب خبيث- إلى الجَوِّ الإسلامي، تَسَللَتْ في عهد المأمون، وتولى كبر هذا التسلل المأمون، وشجعه على ذلك معتزلة
عصره، وقابلَ المؤمنون ذلك بكثيرٍ من النفور، وحُقَّ لهم ذلك، فما كان منطق الدين ولا منطق الفطرة السليمة يقضي بأنْ تكونَ رايةُ العصمة -أي راية الدين الإلهي- مرفوعة، ترفرف على ربوع الأمة الإسلامية في محيط العقيدة، فنميل بهذه الراية قليلًا أو كثيرًا؛ لنرفع بجوارها راية أرسطو، أو راية أبيقور.
ورفع المأمون راية الانحراف والوثنية بجوار راية الهداية المعصومة.
وعارضَ المؤمنون واحتجُّوا وبَيَّنُوا أن الوثنية، ولو وافقت الدين، فهي وثنية.
ولكن النهج الوثني أخذ يَقْوَى شيئًا فشيئًا، ثُمَّ طلب التصريح بالإقامة واستوطن، ومعاذ الله أن تكون عقائد الإسلام الكبرى -الإيمان بالله وبالرسالة وبالبعث- قد تلوث بالوثنية، كلَّا، وغنما الذي تلوث بالوثنية -وإلى حد كبير- إنَّما هو النهج والنزعة والاتجاه في البحث ومنهج البحث، وليس ذلك بالأمر الهين، أو الذي لا يُؤْبَهُ له، كلَّا، فذلك له خطورته في جانب قوة الإيمان وضعفه.
وفرقٌ بين أن تأخذ قضايا الوحي مأخذَ المستسلم المسترسل معها على ما تريد، وأن تأخذها محكمًا فيها عقلك مؤولًا لها، أو عادلًا بها إلى اتِّجاه خاص، أو شارحًا لها على نزعة معينة.
وبتعبير آخر: فرق بين أن تصدر عن الوحي متفهمًا له بعقلك، وبين أن تصدر عن عقلك متفهمًا للوحي، ولَعَلَّ بعض الناس لا يرى فرقًا في التعبيرين، ولكن الفرق كبير إذا نظرنا إلى الوضع الإنساني، فهو إمَّا أن ينطلق عن الوحي قائدًا العقل إلى الخضوع له، وإمَّا أن ينطلق عن العقل محاولًا تأويل الوحي بِمَا يوافق النتائج التي وصل إليها العقل.
والأول: طريق المؤمنين المسلمين، والثاني: طريق الفلاسفة أو نهج الوثنيين، والنهج الوثني -نهج إثبات وجود الله- هو الذي أتاح الانحراف الكامل؛ أي إنكار وجود الله، فما دام النهج الوثني قد أعطى حق الوجود، فإن الوثنية كمنهج تأتى بالوثنية كنتائج.
إن وضع مسألة وجود الله موضع البحث هو الذي هَيَّأَ لذوي الفِطَرِ المنحرفة أن يلحدوا في دين الله، وأن يكفروا به سبحانه، وهذه نتيجةٌ أُولَى.
أما النتيجة الثانية: فَإِنَّهَا ضعف الإيمان، وإذا كنت تضع الوجود الإلهي -مجرد الوجود- موضع بحث، فمعنى ذلك أنَّك وضعته موضع شك ورِيبَةٍ، ولو لم يكن كذلك لَمَا وضع موضع البحث.
وإذا كان الوجود الإلهي-مجرد الوجود- موضع شك وريبة فماذا بقي من أمور الدين لا يوضع موضع شك ورِيبة؟ إن الإيمان في هذه الأوضاع الوثنية لا يتأتى إلَّا أن يخبو فشيئًا حتى يصبح كلَا إيمان.
وهذا هو ما حَدَثَ في الأمة الإسلامية، لقد وصل إيمانُها إلى درجة يَكَادُ معها أن يكون معدومًا، وما ذلك إلا لتَغَلْغُلِ النهج الوثني في بحث قضايا الدين ومبادئه، لقد أصبحت قضايا الدين كل قضاياه موضع بحث، وهل يتأتى أن تبقى قضية من قضايا الدين في مجال اليقين بعد أن وُضِعَ وجود الله -مجرد وجوده سبحانه- موضع البحث؟! نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
ونعود فنقول: إنَّ الدين في نفسه محفوظ بحفظ الله لكتابه العزيز: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].
ولكن الذي نشكوا منه إنَّما هو النهج، أو المنهج، أو النزعة، أو الاتجاه في البحث، إنَّ الذي نشكو منه إنَّما هو منهج البحث الوثني، وإذا شئت قلت: إنَّما هو منهج البحث اليوناني.
سُئِلَ أحد العارفين عن الدليل على الله، فقال: الله.
فقيل له: فما العقل؟ فقال: العقل عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.
أما الإمام الكبير العارف بالله ابن عطاء الله السكندري الذي جمع بين رئاسة الشريعة ورئاسة الحقيقة؛ فإنَّه يقول: «إلهي، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكونُ لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي أظهر كل شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر بكل شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر في كل شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الظاهر قبل وجود كل شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو أظهر من كل شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الواحد الذي ليسَ معه شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو أقربُ إليك من كل شيء».
«كيف يتصور أن يحجبه شيء، ولولاه ما كان وجود شيء».
«شَتَّان بين من يُستدَلُّ به أو يُسْتَدَلُّ عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلَّا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟!».
رحم الله أبا الحسن، وجزاه الله ومدرسته خير الجزاء على هذا التوجيه السليم.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص75 - 84.