ويعتبر هذا الفرمان هو أول محاولة لتنظيم مشيخة الطرق الصوفية، وجعلها تحت سلطان شيخ السجادة البكرية، وقد صدر هذا الفرمان فى 27 شوال 1227 ، الموافق 4 نوفمبر 1812 م.
إن إصدار محمد علي في عام 1812 لفرمان يعطي لشيخ السجادة البكرية السلطة على الطرق والمؤسسات المتعلقة بالطرق، هو مثل عهد جديد لهذه الجماعات التي لم تكن قبل صدور هذا الفرمان خاضعة لسلطة مركزية.
ولكن من الناحية العلمية، نجد أن نتائج هذا التنظيم الجديد لم تتجل بوضوح حتى الأربعينات من القرن التاسع عشر، وذلك عندما أصبحت الوكالات الحكومية نشيطة في تدعيمها لإدارة البكري لمملكة الطرق، وعندما منع شيخ الأزهر من التدخل في شئون الطرق الصوفية، وقد أدى هذا إلى تحديد سلطة البكري ووضوحها أكثر من ذي قبل، كما أدى إلى زيادة أهميتها الإدارية، ولكن التحقيق الكامل للسلطة الممنوحة للبكري عن طريق الفرمان، كان من المحتم أن يتم في يوم ما.
ونص هذا الفرمان ما يلى :
"المرسوم السامي الواجب قبوله وتكريمه والتقيد بما ورد به، قد صدر كتابة من الديوان القاهري المستظل بحماية الله إلى حضرة صاحب المقام الرفيع الشيخ الأعلى صاحب الجدارة والافتخار فخامة السيد محمد وفا أبي الأنوار السادات أدام الله شخصه الرفيع المقام. وإلى فخر السادة المبجلين أحمد أفندي أدام الله شخصه الرفيع المقام ، وإلى سيدنا صاحب الشهامة وأعظم الناس معرفة الشيخ محمد الشنواني شيخ جامع الأزهر ، وإلى مشايخنا الأجلاء العلماء البارزين في جامع الأزهر ، وإلى رؤساء الطرق الجديرين بالمدح والثناء والأعضاء العديدين بالطرق بالقاهرة حماها الله لإبلاغهم جميعًا أن مفخرة الأسياد والأشراف وأولئك المسئولين عن السجاجيد الباهرة السيد محمد أفندي البكري الصديقي حفيد أسرة الحسن زاده الله سموًا وعلاء، قد تم تعيينه للمشيخة ولسجادة السادة البكرية، وتقلد السلطة على الهيئات الصوفية (طوائف الفقراء الصوفية) وعلى التكايا (الباقية) وعلى الزوايا والأضرحة خلفًا لوالده الفقيد المرحوم السيد: محمد البكري. وبمقتضى القرار القانوني الصادر له فقد منحت له السلطة على المشيخة سالفة الذكر طبقًا لتقاليد أجداده بني الصديق، وكل ما يتعلق بهم وعليه أن يتخذ القرارات بين الفقراء (أي أعضاء الطرق الصوفية) بما يتماشى مع قوانينهم القديمة وعاداتهم القويمة وقواعدهم وأحكامهم السليمة. ولذلك فنحن نصدر هذا المرسوم السامي من الديوان القاهري المستظل بحماية الله، حتى يكون العمل متمشيًا مع فحواه ومقتضياته. ويمكن أن يوضع الاعتماد على اليد النبيلة وعلى الختم العظيم.
27 شوال 1227
محمد علي
(ختم)
أثر هذا الفرمان على الطرق الصوفية:
قبيل وفاة محمد أبو السعود شيخ السادة البكرية (والذى توفى في نوفمبر 1812م)، بوقت قصير ذهب كل من: محمد الشنواني (وهو شيخ الأزهر في ذلك الوقت)، وعدد من «العلماء»، ورؤساء الطرق؛ بناء على طلب محمد أبو السعود مع ابنه محمد إلى الباشا؛ ليطلبوا منه تعيين ابنه في مكانه.
ولدى تعيين محمد البكري في منصب شيخ السجادة البكرية، صدر الفرمان السابق ذكره والذى يتضمن فقرة واضحة وصريحة على سلطته على الطرق في جميع أرجاء مصر؛ بل وعلى جميع التكايا والزوايا والأضرحة.
ويرى د/ فريد دى يونج أن إصدار هذا الفرمان كان بمثابة جزء من إصلاحات محمد علي، الهادفة إلى جعل الحكومة حكومة مركزية، ولم يكن صدور هذا الفرمان نابعًا فقط من كرم الباشا وطيبة قلبه، واستجابة بريئة لمطلب العلماء؛ بمعنى أن هذا الفرمان لم يكن بمثابة حدث فردي غير مرتبط بالأحداث الجارية؛ بل ويبدو أن هذا الفرمان كان بمثابة وسيلة نحو تحقيق أهداف محمد علي السياسية، فقد قوض هذا الفرمان مركز محمد أبو الأنوار السادات، شيخ السجادة الوفائية ونقيب الأشراف بعد ذلك.
ولقد ادعى الكثيرون من رؤساء الطرق، ورؤساء الزوايا والتكايا، والمشرفين على الأضرحة: بأنهم من سلالة الأشراف، وبإعطاء البكري سلطة قضائية عليهم، تقلص نفوذ السادات إلى حد كبير.
بل والأكثر من ذلك: أن السلطة الممنوحة للبكري، تضمنت إمكانية إشرافه بشكل غير مباشر على إدارة شئون أوقاف الأشراف؛ حيث كان تعيين الموظفين في نظارة الأوقاف، متوقفًا على الموافقة النهائية للبكري.
ولكن يبدو أن إضفاء الصفة القانونية على سلطة البكري، والتوسع في هذه السلطة -كان يقصد به زيادة تقويض مركز «العلماء»، قبل أن يشرع محمد علي في القيام بالإصلاحات الحاسمة المتعلقة بالأراضي والضرائب، في الفترة ما بين عام 1812 وعام 1814؛ فهذا قد جعلهم معتمدين من الناحية المالية على الحاكم إلى حد كبير، فالعديد من العلماء المشهورين كانوا يمارسون الطقوس الصوفية، وكان كثير منهم رؤساء للطرق.
وبصفة خاصة نجد أن الخلوتية وفروعها، كانوا من «العلماء» وأزهريين، فمنذ مصطفى كمال الدين البكري «1161/ 1749»، الخليفة الرئيسي على مصر -كان محمد بن سالم الحنفي شيخ الأزهر من عام 1171: 1757 إلى عام 1181: 1767، وكان من بين خلفائه دارسون مشهورون، تقلدوا وظائف دينية مهمة؛ مثل: إسماعيل الغنيمي شيخ المالكية، ومحمد المنير السمنودي شيخ القراء والمحدثين بالأزهر، وأحمد الدردير «1127- 1201: 1715- 1786 شيخ المالكية، ومحمود الكردي «1130- 1195: 1717- 1780».
وكان عبد الله الشرقاوي -وهو خليفة الكردي- هو أيضًا شيخًا للأزهر، من عام 1208: 1793 إلى عام 1227: 1812.
وظهر الاختلاف بين مجموعات الخلوتية الأزهريين وبين الطرق، بشأن مدى تقبل سلطة محمد أبو السعود، بسبب شجب الخلوتية للممارسات والمعتقدات الخاصة بالطرق، ومع صدور الفرمان وقعت المجموعتان تحت سلطة البكري القضائية؛ حيث أصبح له الحق في التدخل في شئونهم وتعيين رؤسائهم؛ وبذلك فقد تقوضت سلطة «العلماء»، الذين يحتلون مراكز قيادة على الطرق، وانخفضت قوتهم بالتالي.
هذا علاوة على أن منح البكري سلطات استثنائية، على الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق؛ قد خلق منصبًا يوازي منصب شيخ الأزهر في كثير من المجالات؛ حيث تم تفويض البكري في الإشراف على التعليم، والمناهج التي تعطى في الكثير من الزوايا والتكايا والمساجد ذات الأضرحة؛ وبذلك فقد خلق الباشا إطار عمل للتنافس والاختلاف بين العلماء وبين الطرق الصوفية.
ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، قلت أهمية التصوف من حيث هو فرع من فروع المعرفة التي تدرس بالأزهر؛ ولذلك فقد يكون هذا الفرمان – فيما يرى المستشرق د فريد دى يونج - هو السبب الرئيسي في تحول الأزهر إلى قلعة قويمة تقليدية، ومركز للمعارضة ضد أولئك الذي ينشرون المفاهيم الصوفية الإسلامية؛ ولذلك قام الأزهر بتوسيع الفجوة ما بين العلم والتصوف، وساهم في تجميد وتحجير التصوف الإسلامي في مصر، طالما أن فرصة رئيس الطريقة في الحصول على التصديق الرسمي من البكري، قد قضت على احتياجه لأن يكون دارسًا.
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 19-21 ، 35-36، 189-190.