نظرًا لأن المشاركة في الموالد، وفي المواكب التي تقام في الاحتفالات الإسلامية، وفي الحضرات التي تقام في الأماكن العامة -أصبحت لا يمكن أن تتم إلا تحت قيادة خليفة لطريقة لها حق القدم، وبحيث يكون هذا الخليفة معتمدًا رسميًّا من جانب البكري؛ فإن الأعضاء الراغبين في الانضمام إلى طريقة ما، كانوا يضعون في اعتبارهم -بالتأكيد- ما إذا كانت الطريقة لها حق القدم من عدمه، فإذا لم تكن الطريقة لها حق القدم، تصبح عوامل الترغيب في الانضمام إليها ضئيلة.
وفي حالة أولئك الذين يتطلعون إلى الوصول إلى منصب القيادة المحلية، على طريقة ما نجد أن الإجراء المتبع عادة، هو أن يحاول الشخص الطموح الراغب في المنصب الحصول على تعيينه خليفة، على طريقة يكون رئيسها معترفًا بسلطة البكري، وتكون للطريقة حق القدم في المنطقة التي يسكن فيها هذا الشخص الطموح؛ نظرًا لأن هذا من شأنه أن يؤهله لكل الحقوق التي يتضمنها «القدم»؛ وبالتالي فهو يقدم الشروط السابقة التي لا غنى عنها لتحقيق آماله بنجاح.
وكان تعيين الخلفاء يتم عن طريق رئيس الطريقة، وكانت الطلبات للحصول على تعيين رسمي يكتبها أعضاء الطريقة، ويرفعونها لرئيس النظام أو للبكري، وما إن يصدر قرار بالتعيين، حتى يتم التصديق عليه من جانب البكري، الذي لا يقوم بالتصديق النهائي إلا إذا كان لديه الدليل على أن قانونية السلطة الممنوحة لن تظل غير فعالة بسبب عدم الشرعية، فإذا ما تم تعيين أي شخص بما يتناقض مع رغبة أولئك الذين يمارس سلطانة عليهم، وتم بالفعل قبول هذا التعيين من جانب رئيس الطريقة؛ فإنه يمكن للأعضاء الاحتجاج لدى البكري؛ وعندئذ يقوم البكري -بالتالي- بإصدار أوامره للوكيل التابع له؛ لكي يقوم بالتقص بين جماهير الناس، والتوصل إلى إيجاد تسوية وحل للمشكلة.
وإذا كان رئيس الطريقة ينوي تعيين خليفة في منطقة لا يوجد بها مثل هذا الموظف من قبل، أو إذا أراد أن يعين موظفًا إضافيًّا في منطقة يوجد بها خليفة له بالفعل؛ فإنه يتعين عليه أن يحصل مقدمًا على تصريح من البكري.
وفي الحالة الأولى: يتم مراجعة وفحص حقوق القدم الممكنة للطرق الأخرى في المنطقة.
وفي الحالة الثانية: تكون الرغبة الإدارية في تعيين خليفة إضافي، هي التي يتم فحصها بكل دقة، ولكن لا يتم التصديق على التعيين بمعرفة البكري إلا إذا اتضح أنه قد حدث توسع جوهري في عدد الأعضاء، بما يبرر بأن مركز السلطة الجديدة سيؤدي عمله على خير وجه، بدون أن يعرض مركز الخلفاء الآخرين في المنطقة للخطر، عن طريق سحب الأعضاء منهم.
وهؤلاء الخلفاء -قبل التصديق عليهم كخلفاء، في نطاق إدارة البكري- كانوا خلفاء بالفعل بطريقة مختلفة، وكان ذلك بمقتضى حملهم للإجازة -وهو أمر كان شائعًا بين الطرق لعدة قرون- التي كانت تصدر لهم عن طريق مرشدهم الروحي، والتي كانت تخول لهم الحق في إعطاء العهد للداخلين حديثًا في الطريقة وإرشادهم، وأولئك -الذين كانوا خلفاء في إطار هذا المعنى الأخير- قد وقعوا تمامًا تحت السلطان القضائي لأولئك الذين كانو خلفاء أولًا في نطاق إدارة البكري.
وامتلاك الإجازة كان يمثل دليلًا ساطعًا على أن الشخص الذي يمتلكها هو إنسان صاحب مقام ديني رفيع الشأن، وكان هذا من شأنه أن يعطيه -أحيانًا- حقوقًا متميزة؛ مثل: الاستثناء من الخدمة العسكرية، ومن الانخراط في أعمال السخرة، ومن القيود التي تفرض على السفر والتنقلات، وهي أمور تفرض على السكان الريفيين، كما كان يستثنى من دفع الضرائب، وفي حالة التحاقه بالجيش كان يلقى معاملة خاصة؛ ولهذا السبب، فليس من المدهش أن تنتشر التجارة في الإجازات، ومما زاد من قيمتها التجارية أنها كانت تعطي لحاملها حقوقًا وامتيازات تفوق كثيرًا الحقوق والامتيازات التي تمنحها الحكومة؛ ولذلك نجد أن البكري وكذلك رؤساء الطرق، قد اتخذوا من وقت لآخر الإجراءات لمواجهة هذه الظاهرة، وذلك عن طريق الحد من فئة أولئك الذين قد تصدر لهم الإجازات، وعن طريق فرض القواعد والشروط فيما يتعلق بمحتويات ومضامين الإجازات.
ومنذ ذلك الوقت تقريبًا، أصبحت الإجازة لا تكسب صفة الصلاحية إلا بعد أن يتم فحص محتوياتها ومضامينها، ومدى توافقها مع تلك القواعد، وذلك عن طريق رؤساء الطرق الذين يقومون باعتمادها، بالإضافة إلى اعتمادها من الخلفاء الذين أصدروا هذه الوثائق، بمعنى التوقيع عليها بإمضاءاتهم أو بأختامهم.
إلا أن الهيبة والنفوذ المرتبط بمنصب الخليفة، لم يكن متوقفًا فقط على كون هذا المنصب جزءًا لا يتجزأ من الإدارة؛ إذ كان يمثل مهنة أو وظيفة لعدد من الخلفاء، الذين يندرجون تحت طريقة ما في منطقة معينة، والذين يلقون التبجيل والاحترام الكافي من أتباع الطريقة، وكان عليهم أن يساعدوهم في تأدية واجباتهم.
ولأن شاغلي منصب النقيب -بالإضافة إلى عملهم كضابط اتصال ما بين رئيس الطريقة وبين الخلفاء المحليين- كان عليهم أن يشرفوا على إنجاز الخلفاء لأعمالهم، ويتأكدوا من أن الأعمال تتم بطريقة سليمة؛ فإن شرعية السلطة لم تكن مستمدة من الاعتراف من جانب الأعضاء العاديين ، وإنما مستمدة أساسًا من الحقيقة التى مفادها أن خلفاء الطريقة في منطقة ما قد قبلوا شخصًا معينًا كنقيب عليهم.
وتواجد نقيب في أي منطقة كان يتوقف تمامًا على ما إذا كانت الطريقة قد اعترفت رسميًّا بالخلفاء في تلك المنطقة من عدمه، ويكون الوضع على ذلك النحو عندما يكون للطريقة حق القدم؛ ولذلك فإن تواجد وظيفة النقيب كان يرجع إلى مدى أهمية مبدأ حق القدم بالنسبة للإرادة؛ ومن ثم فإن شرعية النواب- تمامًا مثل شرعية الخلفاء- تعبيرًا عن التوافق مع مبدأ حق القدم، وبالتالي كانت تأكيدًا وتعزيزًا لشرعية الجهاز الإداري بأكمله. (راجع: @مشيخة الطرق الصوفية وحق القدم@).
ونظرًا لأن جميع الخلفاء والنواب كانوا مدينين بمراكز سلطاتهم إلى الحقيقة -التي مفادها أن مبدأ القدم قد أصبح هو المبدأ الرئيسي في كيان الإدارة- فقد كان لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يذعنون للعلاقة التي تربط رئيس طريقهم بالبكري، والتي تجعله تابعًا للبكري، وهذا يعني الاعتراف بسلطة البكري.
ونظرًا لأن أي شخص معترف بسلطة البكري، يعتبر في نفس الوقت معترفًا بمبدأ القدم، وبالتالي بشرعية مبدأ القدم؛ فإن التبعية الاختيارية لرئيس الطريقة كانت تعني أيضًا التمسك بهذا المبدأ.
إن الصلة الوثيقة بين إدارة البكري والحكومة قد جعلت مندوبيها يهتمون اهتمامًا كبيرًا بضرورة أن تتم أعمالها على خير وجه. ولذلك كان من المهم للغاية أن تبقى المناصب المختلفة مشغولة بالكفاءات من الناس وفعالة. ولذلك فإنه إذا أهمل موظف في طريقة واجباته أو إذا ظل منصب الخليفة أو منصب النقيب غير مشغول لبعض الوقت ولم يتقدم المريدون بطلبات لتعيين موظف جديد فإن المندوبين الحكوميين- وخاصة المحافظ الإقليمي والقاضي المحلي- كانوا يبادرون إلى عمل ذلك. إلا أن هذا نادرًا ما كان يحدث وخاصة فيما يتعلق بمنصب الخليفة؛ لأن خلو منصب الخليفة يؤدي إلى فرض قيود كبيرة على أنشطة المريدين. ولذلك كان من صالحهم المسارعة إلى التقدم بطلب لتعيين خليفة جديد لهم.
لكن خلو منصب الخليفة كان له تأثير ضئيل على أعمال الطريقة على مستوى الروتين الأسبوعي نظرًا لأن الحضرات التي تقام أسبوعيًا لا تتطلب بالضرورة أن تقام علنًا سواء في مسجد أو في أرض فضاء وإنما يمكن أن تعقد في منازل خاصة حيث لا يتطلب الأمر حضور الخليفة. إلا أن عدم وجود خليفة أثناء الموالد تنجم عنه تعقيدات خطيرة لأن الموالد هي أهم الأنشطة التي تمارسها الطرق الصوفية.
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 44- 55.