مشيخة الطرق الصوفية
بعد أن انسحب الفرنسيون من مصر، في عام 1801 م قام الوالي العثماني الجديد محمد باشا خسرو، بإقالة خليل البكري من نقابة الأشراف وسجادة البكرية.
وخليل البكري، كان من أسرة كبيرة ومشهورة في مصر منذ القرن الخامس عشر، وكان يشغل منصب شيخ السجادة البكرية منذ نهاية 1793، وعقب الاحتلال الفرنسي للقاهرة في عام 1798، نجد أن عمر مكرم -الذي كان يشغل منصب نقيب الأشراف في ذلك الوقت- بادر بالهرب ومغادرة البلاد؛ فقام الفرنسيون بتعيين خليل في هذا المنصب، الذي كان يشغله من قبل أعضاء من الأسرة البكرية؛ بل وعينه الفرنسيون عضوًا في «ديوان» القاهرة، الذي أنشأه الفرنسيون، فتعاون مع الغزاة طوال فترة الاحتلال الفرنسي.
ويقول الجبرتي تعقيبًا على هذا الحدث: إن الإجراء الذي اتخذه محمد خسرو، كان نتيجة لضغوط الرأي العام؛ حيث كان الجميع ينظرون إلى خليل البكري على أنه إنسان متعاون مع الكفار الملحدين، وبذلك فهو غير جدير بتقلد المناصب التي يشغلها، ورضخ الباشا لهذا الضغوط، ويبدو أنه كان سريع التأثر بهذه الضغوط أثناء قيامه بإعادة تشييد الحكم العثماني في مصر، وكان نقيب الأشراف السابق عمر مكرم قد عاد إلى مصر، فأعيد تعيينه في هذا المنصب.
وقام الوالي الجديد بتعيين محمد أبو السعود البكري، في منصب شيخ السجادة البكرية؛ رغم أنه كان عضوًا مسكينًا فقيرًا، غير معروف في أحد فروع الأسرة البكرية التي كان أعضاؤها منافسين لخليل البكري.
ومن المحتمل أن يكون محمد خسرو، قد رحب بفكرة تعيين هذا العضو التابع للفرع المنافس في أسرة البكري؛ لأن هذا الإجراء قد سد الطريق أمام خليل أو ابنه الوحيد، في المطالبة بالحصول على هذا المنصب الكبير.
وعلاوة على ذلك، فطالما أن الشاغل الجديد لهذا المنصب تنقصه الموارد المالية؛ فإنه سيظل على ولاء للباشا، وواقعًا تحت سيطرته وإشرافه؛ حيث وفر له الباشا الإقامة في أحد المنازل، وأعطاه قدرًا وفيرًا من المال، كما منحه بعض الحقوق المالية.
وهنا يقول الجبرتي في «حولياته»: «ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، انتشر نفوذه وأصبح اسمه معروفًا تمامًا... وبدأ خلفاء الطرق المخادعة، وأولئك الذين يمتلكون صكوكًا غير قانونية؛ مثل: الأحمدية، والرفاعية، والبرهامية، والقادرية، يلجأون إليه؛ لأخذ رأيه، وإصدار الأحكام، وكان يتخذ القرارت وفقًا للقواعد العامة الخاصة بهم».
وهذه الإشارة الصريحة التي قالها الجبرتي، عن ظهور السلطان القضائي لمحمد أبو السعود على الطرق -تبدو سليمة وحقيقية؛ نظرًا لأنه لم يحدث من قبل أن حصل واحد من الشاغلين لمنصب «السجادات البكرية» على ممارسة السلطة، على الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق.
ونظرًا لأن مشايخ الطرق الصغيرة أو الطرق التي ظهرت مؤخرًا، لم تكن تلجأ إلى البكري أو تبدي إعجابها به؛ فإن هذا يدل على أن الطرق الكبيرة -سالفة الذكر- قد فقدت شيئًا من قدرتها على حل المشكلات بينها، منذ أن تحولت إلى هيئات كبيرة ومعقدة، وكان ظهور محمد أبو السعود البكري - كوسيط أو حكم، وظهور سلطته على هذه الطرق- غير مدعم بطريقة رسمية من جانب الحكام، ولم يكن له جذور في التقاليد الصوفية؛ حيث لم يكن هناك شخص سابق على البكري له سلطة على كافة الطرق الصوفية؛ ولذلك فلا بد وأن تكون سلطته ناجمة عن صفات شخصية، وبالتالي فهي سلطة نابعة من المحبة والأخوة الصادقة.
ومن المؤكد أن حالة الفوضى السائدة في مصر في ذلك الوقت، وعدم سيطرة الحكومة على مجريات الأمور، بالإضافة إلى الانهيار في الكيان القضائي، علاوة على الرغبة في طرح المنازعات على شخص غير تركي ليقوم بالتحكيم -قد أدعى كل هذا إلى ظهور سلطته وتدعيمها؛ إلا أن طبيعة ونطاق سلطانه القضائي لم تكن واضحة، كما أن الوسائل التي يستخدمها في فض المنازعات، وكيفية تنفيذ القرارات التي يصدرها لم تكن واضحة أيضًا؛ بل ولا يوجد ما يدل على أن شاغلي المناصب الرئاسية على الطرق، ملزمون بالحصول على موافقته قبل أن يقوموا بتسجيل وظائفهم هذه بأسمائهم في المحكمة.
ولكن يبدو أن مرونة محمد أبو السعود البكري، قد ساهمت في تعميق شرعية السلطة التي يطالب بها، ولم تتجاوز سلطته مجال الطرق الصوفية، وظلت سلطته ضئيلة من الناحية السياسية، والدليل على ذلك عدم ورود اسمه في كتابات الجبرتي، ووصفه للأحداث السابقة على استيلاء محمد علي نهائيًّا على السلطة بحلول عام 1812.
إضفاء الرسمية على سلطة البكري، وسياسة محمد علي:
مات محمد أبو السعود في نوفمبر 1812، وقبل وفاته بوقت قصير ذهب كل من: محمد الشنواني (وهو شيخ الأزهر في ذلك الوقت)، وعدد من «العلماء»، ورؤساء الطرق؛ بناء على طلب محمد أبو السعود مع ابنه محمد إلى الباشا؛ ليطلبوا منه تعيين ابنه في مكانه.
ولدى تعيين محمد البكري في منصب شيخ السجادة البكرية، صدر فرمان يتضمن فقرة واضحة وصريحة على سلطته على الطرق في جميع أرجاء مصر؛ بل وعلى جميع التكايا والزوايا والأضرحة.
وكان إصدار هذا الفرمان يمثل جزء من إصلاحات محمد علي، الهادفة إلى جعل الحكومة حكومة مركزية، ولم يكن صدور هذا الفرمان نابعًا فقط من كرم الباشا وطيبة قلبه، واستجابة بريئة لمطلب العلماء؛ بمعنى أن هذا الفرمان لم يكن يمثل حدث فردي غير مرتبط بالأحداث الجارية؛ بل ويبدو أن هذا الفرمان كان وسيلة نحو تحقيق أهداف محمد علي السياسية، فقد قوض هذا الفرمان مركز محمد أبو الأنوار السادات، شيخ السجادة الوفائية ونقيب الأشراف بعد ذلك.
ولقد ادعى الكثيرون من رؤساء الطرق، ورؤساء الزوايا والتكايا، والمشرفين على الأضرحة: بأنهم من سلالة الأشراف، وبإعطاء البكري سلطة قضائية عليهم، تقلص نفوذ السادات إلى حد كبير.
بل والأكثر من ذلك: أن السلطة الممنوحة للبكري، تضمنت إمكانية إشرافه بشكل غير مباشر على إدارة شئون أوقاف الأشراف؛ حيث كان تعيين الموظفين في نظارة الأوقاف، متوقفًا على الموافقة النهائية للبكري.
ولكن يبدو أن إضفاء الصفة القانونية على سلطة البكري، والتوسع في هذه السلطة -كان يقصد به زيادة تقويض مركز «العلماء»، قبل أن يشرع محمد علي في القيام بالإصلاحات الحاسمة المتعلقة بالأراضي والضرائب، في الفترة ما بين عام 1812 وعام 1814؛ فهذا قد جعلهم معتمدين من الناحية المالية على الحاكم إلى حد كبير، فالعديد من العلماء المشهورين كانوا يمارسون الطقوس الصوفية، وكان كثير منهم رؤساء للطرق.
وبصفة خاصة نجد أن الخلوتية وفروعها، كانوا من «العلماء» وأزهريين، فمنذ مصطفى كمال الدين البكري «1161/ 1749»، الخليفة الرئيسي على مصر -كان محمد بن سالم الحنفي شيخ الأزهر من عام 1171: 1757 إلى عام 1181: 1767، وكان من بين خلفائه دارسون مشهورون، تقلدوا وظائف دينية مهمة؛ مثل: إسماعيل الغنيمي شيخ المالكية، ومحمد المنير السمنودي شيخ القراء والمحدثين بالأزهر، وأحمد الدردير «1127- 1201: 1715- 1786» شيخ المالكية، ومحمود الكردي «1130- 1195: 1717- 1780».
وكان عبد الله الشرقاوي -وهو خليفة الكردي- هو أيضًا شيخًا للأزهر، من عام 1208: 1793 إلى عام 1227: 1812.
وظهر الخلاف بين مجموعات الخلوتية الأزهريين وبين الطرق، بشأن مدى تقبل سلطة محمد أبو السعود، بسبب شجب الخلوتية للممارسات والمعتقدات الخاصة بالطرق، ومع صدور الفرمان وقعت المجموعتان تحت سلطة البكري القضائية؛ حيث أصبح له الحق في التدخل في شئونهم وتعيين رؤسائهم؛ وبذلك فقد تقوضت سلطة «العلماء»، الذين يحتلون مراكز قيادة على الطرق، وانخفضت قوتهم بالتالي.
هذا علاوة على أن منح البكري سلطات استثنائية، على الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق؛ قد خلق منصبًا يوازي منصب شيخ الأزهر في كثير من المجالات؛ حيث تم تفويض البكري في الإشراف على التعليم، والمناهج التي تعطى في الكثير من الزوايا والتكايا والمساجد ذات الأضرحة؛ وبذلك فقد خلق الباشا إطار عمل للتلاعب، «بالصراع القديم بين العلماء وبين الصوفية»، واتخاذ ذلك وسيلة لتخفيض سلطة «العلماء».
ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، قلت أهمية التصوف من حيث هو فرع من فروع المعرفة التي تدرس بالأزهر؛ ولذلك فقد يكون هذا الفرمان هو السبب الرئيسي في تحول الأزهر إلى قلعة قويمة تقليدية، ومركز للمعارضة ضد أولئك الذي ينشرون المفاهيم الصوفية الإسلامية؛ ولذلك قام الأزهر بتوسيع الفجوة ما بين العلم والتصوف، وساهم في تجميد وتحجير التصوف الإسلامي في مصر، طالما أن فرصة رئيس الطريقة في الحصول على التصديق الرسمي من البكري، قد قضت على احتياجه لأن يكون دارسًا.
الأضرحة والطرق القائمة على التكية:
كما سبق ذكره فإن الفرمان لم يكتف بإعطاء سلطة للبكري على الطرق؛ وإنما أعطاه السلطة على التكايا والزوايا والأضرحة أيضًا.
ولو لم ينص الفرمان صراحة على هذا؛ لكانت الممارسة القانونية للسلطة منصبة على عدد قليل من الطرق؛ نظرًا لأن القيادة العليا للعديد من الطرق، كانت متطابقة تمامًا مع مشيخة الضريح أو الزاوية أو التكية، التي حصل رؤساؤها على تثبيت قانوني عن طريق تسجيل المنصب باسمهم في المحكمة؛ بل ولكان قد ترك الفرصة مفتوحة أمام رؤساء الطرق، الذين يشرفون على مثل هذه الهيئات -ليقدموا أنفسهم على أنهم مشايخ التكايا... إلخ؛ لكي يهربوا من الوقوع تحت إشراف البكري.
ومن بين الطرق، التي كانت فيها القيادة العليا متطابقة مع الرئاسة على الضريح:
1- (القاسمية الشاذلية)، (@راجع: القاسمية الشاذلية - مدخل عام@).
2- و(العفيفية الشاذلية)، (@راجع: العفيفية الشاذلية - مدخل عام@) .
3- و (الجلشانية الخلوتية) (@راجع: الجلشانية الخلوتية - مدخل عام @).
4- و(الدمرداشية الخلوتية)، (@راجع: الدمرداشية الخلوتية - مدخل عام @).
5- والطريقة المولوية (@راجع: المولوية - مدخل عام @).
6- والطريقة البكتاشية (@راجع: البكتاشية - مدخل عام @).
7- والطريقة السعدية (@راجع: السعدية - مدخل عام @)
سلطة البكري على الطرق ومبدأ حق القدم:
وعقب عام 1263 (1847) عندما تم التوقيع على الاتفاق مع الأزهر، يبدو البكري بصفته شيخ السجادة البكرية، وكأنه قد أصبح الموظف الوحيد الذي يستطيع تعيين رؤساء الطرق والمؤسسات المرتبطة بالطرق، مع إعطاء شاغلي هذه المناصب حق امتلاك الأراضي.
ولدى وفاة رئيس الطريقة، عادة ما كان يتم تعيين ابنه خليفة له؛ وذلك تمشيًا مع مبدأ وراثة الولاية على مراكز هذه السلطة، وساد هذا المبدأ بوجه عام ووضعت القيود والشروط على الراغبين في شغل المنصب، ولكن في مثل هذه الحالات، وفي حالات عدم وجود أبناء ذكور للفقيد؛ فإنه يتعين على البكري قبل إجراء أية تعيينات للمنصب أن يطلب شهادة تؤكد بأن المنصب لن يصبح عديم الفاعلية، من خلال الشرعية المحدودة للمرشح لشغل المنصب.
والشهادة التي يمكن قبولها، كانت التماس يقدم للبكري، يصاغ في اجتماع يحضره موظفو وأعضاء الطريقة، ويوقعون عليه، ويطلبون فيه الموافقة على تعيين مرشح معين كرئيس للطريقة التي ينتمون إليها.
وإذا احتجت مجموعات أخرى تابعة للطريقة لدى البكري، على المرشح المقترح قبل إصدار القرار الرسمي بتعيينه؛ فقد ينجم عن هذا سماع آراء كافة المهتمين بالأمر؛ لكي يستقر الرأي على اختيار المرشح الذي يتولى هذا المنصب، مع وجود أكبر درجة من الشرعية لصالحه، وإذا وصلت الاحتجاجات للبكري عقب إصدار التعيين الرسمي للمرشح؛ فإنه يمكن أيضًا أن تعقد جلسة لسماع كافة الآراء، مما قد ينجم عن ذلك إلغاء قرار تعيين الرئيس الجديد، وإحلال شخص ما آخر مكانه في المنصب.
وكان رؤساء الطرق يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على البكري في معاملاتهم مع الوكالات الحكومية، فرؤساء الطرق الذين كانوا يتلقون رواتب ومعاشات من مصلحة الروزنامة «Ruznama»، أو أولئك الذين كانوا يحصلون على مكافآت من العوائد الناجمة عن الأوقاف الخيرية -لم يكن باستطاعتهم الحصول على هذه المكافآت أو الرواتب، إلا عن طريق وساطة البكري وتدخله؛ إذ كان البكري هو الممثل لهم أمام الوكالات الحكومية، وهو الذي يتعامل مع الحكومة نيابة عنهم، وفي حالة وفاة المتبرع بهبة خيرية؛ فإن المدفوعات للخليفة لن تستأنف إلا إذا تم التصديق على الوفاة، وعلى الخلافة الشرعية عن طريق البكري، وعندما تنتهك حقوق رؤساء الطرق المستحقين شرعًا لمثل هذه المدفوعات؛ فإن البكري كان يتدخل نيابة عنهم، ويجري اتصالاته مع الوكالات الحكومية.
كما أن الانحسار في دور نقابات التجار والصناع في الاحتفالات العامة والذى عكس التدهور العام في هذه النقابات في حد ذاتها ابتداء من السبعينات فصاعدًا، قد أدى فى الوقت نفسه إلى ظهور الطرق في المجتمع بحيث أصبحت هي الأشكال الرئيسية للجمعيات في وقت لم تكن قد ظهرت فيه أية جمعيات أهلية لها طابع اجتماعي أو ديني أو سياسي. ومن هنا يمكن القول أن تدهور النقابات قد أدى ليس فقط إلى زيارة الدور الذي تقوم به الطرق في الاحتفال بالمناسبات المختلفة وإنما أدى أيضًا وإلى حد كبير إلى زيادة عدد الطرق الصوفية في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وأثناء الفترة التي شغل فيها على البكري منصب شيخ السجادة البكرية تطورت الإدارة على نحو سمح بتحقيق سلطة أفضل على الطرق والمؤسسات المرتبطة بالطرق وهي السلطة الممنوحة لشاغل هذه الوظيفة وفقًا لفرمان عام 1812.
وكان مبدأ حق القدم هو المحور الرئيسي لهذه الإدارة. (راجع : @مشيخة الطرق الصوفية وحق القدم@).
حيث إن هذا المبدأ هو الذي جعل رؤساء الطرق مضطرين للاعتماد على البكري إذا ما أرادوا لطرقهم الصوفية ولأنفسهم كرؤساء على هذه الطرق الاستمرار والبقاء وعلاوة على ذلك نجد أن معظم رؤساء التكايا بالقاهرة قد أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من إدارة البكري ونفس الشيء بالنسبة لكبار الشخصيات الدينية ومشايخ الأضرحة والمشرفين على أهم الأضرحة بالقاهرة الذين أصبحوا من كبار الشخصيات الرسمية عقب صدور قرار الخديوي في هذا الشأن في عام 1276 «1859/ 1860».
إلا أن استقرار هذه الإدارة كان عرضة للتقوض والانهيار نظرً لأنها كانت تستقي شرعيتها من شخصية علي البكري إلى حد كبير. وعلاوة على ذلك فإن هذه الإدارة كانت تستمر في عملها بطريقة فعالة طالما أن أولئك الخاضعين لها أو المشاركين فيها كانوا لا يزالون يدركون أن الرابطة العضوية لهذه الإدارة مع الوكالات الحكومية تخدم مصالحهم.
وفي أكتوبر 1880 انتقل الشيخ علي البكرى إلى رحمه الله وتم تعيين نجله عبد الباقي في هذا المنصب بقرار من الخديوي توفيق. ولم يكن لدي شيخ السجادة البكرية الجديد أية صفة من الصفات المتميزة التي كان يمتاز بها والده مثل الأهمية السياسية أو الشهرة في مجال المعرفة والعلم- رغم أنه قد قضي بضع سنوات كطالب في الأزهر- ونظرًا لأن سنه كان لا يتعدى الثلاثين عامًا فإنه لم ينل الاحترام الذي يكتنف عادة الناس الكبار في السن.
فبدأ الخديوي يتدخل ليقلل من نفوذ وسلطة شيخ السجادة البكرية وفي أوائل عام 1881 أصدر قرارًا ينص على تحريم ومنع «الدوسة»، ويبدو أن بعض القناصل الأوربيين الوثيقي الصلة بالخديوي قد مارسوا بعض الضعوط لحثه على اتخاذ إجراءات لتحريم الدوسة إلا أن البواعث الحافزة في مكان آخر كانت غائبة. ولم تظهر الانتقادات للطرق إلا في عدد قليل من الصحف الثانوية. ولم يعبر عن هذه الانتقادات أية مؤسسات أو هيئات رسمية أو غير رسمية كما أن مؤسسة الأزهر الدينية كانت قد أظهرت منذ البداية حماسًا قليلًا إزاء المقترحات الخاصة بمنع الدوسة.
ومن ثم فإن مبادرة الخديوي نحو إلغاء الدوسة قد بدت وكأنها بمثابة تعبير عن رأيه الشخصي مما دفعه إلى إرغام البكري على اتخاذ المزيد من الإجراءات الرامية إلى القضاء على الممارسات الطقوسية الأخرى التي تعتبر من قبيل البدعة.
وفى عام 1881 م أصدر الشيخ عبد الباقى البكرى منشورا مهما إلى مشايخ الطرق الصوفية، كان له أثره ونتائجه فى عالم التصوف فى مصر، راجع : (@مشيخة الطرق الصوفية - منشور الشيخ عبد الباقى بن على البكرى إلى مشايخ الطرق الصوفية سنة 1881 م@).
وكان تدخل شيخ الأزهر في قضية العنانية فى مارس 1886 م (راجع: @السجاجيد الشريفة - العنانية - مدخل عام@) ، وكذلك في قضية الحصافية الشاذلية تحت قيادة الحصافى قبل ذلك بعامين تقريبًا فى أوائل سنة 1884م (راجع: @الشاذلية - فروعها - الحصافية الشاذلية - مدخل عام@) بمثابة خرق لاتفاقية عام 1847 التي تمت بين شيخ الأزهر وشيخ السجادة البكرية.
وهذا يوحي لنا بأن هذه الاتفاقية قد أصبحت من الناحية الواقعية ملغاة كما يدل هذا على العلاقة المتغيرة التي حدثت بين إدارة الطرق وبين الوكالة الحكومية بالدولة. وهذا التغير يرجع أساسًا إلى إعادة تنظيم الإدارة الحكومية في الدولة في مطلع الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882 مما أعطى للإدارة الحكومية كفاءة عالية للغاية فأدى ذلك بدوره إلى تضاؤل أهمية إدارة الطرق الصوفية في مواجهة الدولة ووكالاتها ومن المؤكد أن الوكالات الحكومية قد توقفت تمامًا عن تدعيم إدارة الطرق حتى عندما كان هذا- كما هو في الحالات سالفة الذكر- التدعيم وثيق الصلة بالحفاظ على حقوق القدم.
ومع مطلع هذه التطورات يبدو أن البكرى قد اتخذ أسلوبًا مختلفًا حيال انتهاك حقوق القدم من جانب الطرق التي لم يظهر نشاطها في مصر إلا في وقت قريب نسبيًا ولم يتعد نشاطها بعض المدن القليلة- مثلما هو الحال بالنسبة للطريقة الشاذلية تحت قيادة الحصافى- ومن جانب مجموعات مشابهة للعنانية التي كانت قد تطورت إلى طرق متميزة فى داخل الطرق المندمجة فى نطاق إدارة البكرى، ولكى يمنع البكرى حدوث صراعات شبيهة بالصراعات سالفة الذكر، والتى قد تؤدي إلى تدخل شيخ الأزهر والتقليل من سلطته بالتالي ، ولكي يمنع البكرى الاتجاه الواقعي نحو إلغاء التغييرات التي بدأت تشق طريقها فإنه اعترف رسميًّا بكافة الطرق التي استفادت بنجاح من الحفاظ غير الكافي على حقوق القدم- وربما من تحطم النقابات المهنية من حيث هى الشكل الرئيسي للتنظيم الاجتماعي وأصحبت طرقًا لها أهمية معينة.
وكان الاعتراف بمثل هذه الطرق مفيدًا للبكرى ؛ لأنه دعم مركزه ونفوذه وسلطاته بل وكان أيضًا مفيدًا لرؤساء هذه الطرق وما يستتبع ذلك من حقوق القدم التي لم تكن قد تعرضت بعد للإلغاء وإنما كان الحفاظ عليها غير كاف.
ومن الحقوق الأخرى المترتبة على اعتراف البكرى بمثل هذه الطرق هو الاشتراك في الاحتفالات الرسمية للأعياد الدينية مثل المولد النبوي مما أعطى هذه الطرق الفرصة للظهور في المجتمع ، وإضافة المزيد من الأعضاء إليها كما أتاح لها هذا الاعتراف الفرصة للحصول على قدر من المدفوعات والهبات والأموال التي تقدمها المحافظة وديوان المالية. فهذه الأموال والهبات كانت تقدم باستمرار للبكرى الذي يقوم بتوزيعها بنفسه على رؤساء الطرق المعترف بها رسميًّا حتى العقد الأول من القرن العشرين.
وجميع هذه التغييرات التي أحدثت تأثيرًا على عالم الطرق الصوفية والتي استمرت طوال معظم الفترة التي شغل فيها عبد الباقي البكرى منصبه قد جلبت لمشايخ الطرق تغييرًا هامًا من حيث الحماية القانونية ضد العزل والفصل. فالطريقة التي شيد بها مبدأُ القدم إدارةَ البكرى وحدد أعمالها في نطاق المجتمع المصري قد جعلت المشاركة في هذه الإدارة جذابة ومغرية للغاية لمشايخ الطرق طالما أن هذه المشاركة كانت تدعم طرقهم في المناطق الريفية بالإضافة إلى تقوية مراكزهم كمشايخ للطرق.
بل وعندما لم يعد مبدأ حق القدم سارى المفعول بين المجتمع نجد أن شرعية المنصب النابعة من التعيين الرسمى الصادر من شيخ السجادة البكرية قد تفوق على مبدأ حق القدم من حيث هو الحماية القانونية ضد العزل أو الفصل، نظرًا لأن شرعية المنصب كانت بمثابة تأكيد لشرعية الطريقة التي كان يعترف بها بالتالي اعترافًا رسميًا من حيث هى وحدة قائمة بذاتها وفريدة من نوعها وغير قابلة للتقسيم.
فإذا أعلنت مجموعة من الناس انفصالها واستقلالها عن الطريقة فإنه يمكن لرئيس الطريقة الأم المطالبة بفرض سلطته على المجموعة الانفصالية طالمًا أن البكرى ما زال يتعامل مع هذه المجموعة وما زال يعتبرها كجزء لا يتجزأ من الطريقة الأم حيث سبق له أن اعتبرها ككيان لا يتجزأ عندما عين لها رئيسًا عليها.
وكان هذا يعني أيضًا أنه ما أن تحصل طريقة ما لم تكن قد شاركت من قبل في الإدارة- على الاعتراف الرسمي بمثل هذا التعيين من جانب البكرى فإن الرئيس المعين حديثًا يحصل على أساس قانوني يسمح له بالمطالبة بممارسة السلطة على الآخرين الذين يدعون بأنهم لهم الحق في الحصول على رئاسة الطريقة.
وتزايدت أهمية شرعية المنصب بالنسبة لرؤساء الطرق عندما توقف الحفاظ على حقوق القدم، وأصبحوا لا يتطلعون إلى التعيين الرسمي عن طريق شيخ السجادة البكرية من حيث هو رئيس لإدارة تحمى وحدة كيان طرقهم نظرًا لأن هذه الإدارة كانت ترتكز على مبدأ حق القدم وإنما كانوا يتطلعون إلى ذلك لأن التعيين في حد ذاته والذي يرتكز على قانونية المنصب قد أصبح هو الحماية الحقيقية ضد الفصل أو الإيقاف.
ولمزيد من التوسع بخصوص حق القدم راجع (@مشيخة الطرق الصوفية - حق القدم@)
وبحلول عام 1891 نجد أن تسعة فقط من بين مشايخ الطرق التسعة والعشرين الأصلية وهم رؤساء العفيفية والسعدية والرفاعية والبرهامية والميرغنية والمرزوقية والأحمدية والقادرية والبيومية والشرنوبية لم يبتعدوا عن البكرى على ما يبدو أما الباقي فقد انفضوا من حوله. كذلك نجد أن عددًا من رؤساء التكايا قد فصلوا أنفسهم عن إدارة البكرى وخاصة أولئك الذين كانوا مسئولين عن تكايا البخارلية (الأزبك) في درب اللبان ، ونظام الدين البخارلية في حطابة ، والمغربي ومحيي الدين بالقرب من باب الوزير والمغاويرى.
إلا أن بعض رؤساء التكايا الأخرى قد سعوا للحصول على قانونية المنصب من خلال التعيين عن طريق البكرى. وكان المثال على ذلك في القاهرة هو رئيس تكية الحبانية الذي كان قد تم تعيينه من قبل عن طريق ديوان الأوقاف بناء على توصية من الأزهر إلا أن هذا التعيين لم يستمر لفترة طويلة.
وبالإسكندرية نجد أن رئيسى تكيتي القادرية قد قبلا سلطة البكرى عليهما. وفي إحدى هاتين التكيتين كان السكان بها من القادريين الأتراك فقط، إلا أن التكية فى حد ذاتها كانت أساسا تخص الجلشانية وكانت لا تزال تعرف بذلك الاسم. ومن المحتمل أن يكون شيخ التكية القادرية الأخيرة والذي يسمى عبد الرحمن النيازي قد سعى للحصول على تثبيت رسمي من البكرى حتى يتمكن من تدعيم مركزه كرئيس على تكية لم يكن لأعضاء هذه الطريقة الحق فيها أو الحق في وضع اسمهم عليها.
وعلاوة على ذلك ففي القاهرة نجد أن شيخ الضريح الذي كان مسئولًا عن ضريح محمد دمرداش المحمدي قد أصبح معترفًا به كشيخ تكية في وقت ما قبل عام 1304 (1886-1887) وهذا يوحي بأنه قد حدثت زيادة في أعداد الجماعة المقيمة في البناية القريبة من الضريح نظرًا لأن هذا التحول لا يمكن إرجاعه إلا لذلك السبب كما أنه يعكس إحياء الطريقة تحت قيادة الشيخ الموجود في ذلك الوقت وهو الشيخ عبد الرحيم مصطفى الدمرداش (1348-1930).
وفي عام 1881 عندما حاول عبد الباقي تنفيذ الإصلاحات التي شملها المنشور الصادر منه إلى مشايخ الطرق الصوفية كانت مصر تجتاحها أقصى درجات الشغب والاضطراب والهياج التي وصلت أوجها في الثورة العرابية ثم الاحتلال البريطاني. ولم يقم أي شيخ من مشايخ الطرق التابعين لنفوذ البكري بأي دور في هذه الأحداث. إلا أنه لا يوجد هناك سبب يدعونا لأن نفترض أنهم من حيث موقفهم من عرابي كانوا يختلفون عن أغلبية أولئك المنتمين للمؤسسات الدينية الذين قد ظلوا مخلصين بشكل إيجابي أو سلبي للخديوي. ولذلك فإن تأييد عبد الباقي للخديوي ضد العرابيين وإظهاره العلني لموافقته على الاحتلال عندما أقام وليمة تكريمًا للجنرال سير جارنيت وولسلى قائد القوات البريطانية في نفس مساء اليوم الذي دخل فيه القاهرة. لم يكن نتيجة لشرعية سلطته على مشايخ الطرق. بل ولم يحدث تأييده للخديوي أي تأثير في منصبه كواحد من الشخصيات الدينية الرئيسية في نطاق المجتمع المصري حيث كان يمثل هذا المجتمع في المجلس التشريعي (مجالس شورى القوانين) والجمعية العمومية التي عقدت اجتماعًا لأول مرة في نوفمبر 1883.
ويمكن تلخيص وضع الطرق الصوفية ومشيختها التى كانت تحت سلطة الشيخ عبد الباقى البكرى على النحو التالى : ففي أوائل عام 1881 وتحت ضغوط من جانب الخديوي توفيق سعى عبد الباقي البكري إلى تنفيذ عدد من الاصلاحات التي تتعلق بالممارسات الطقوسية كما حاول التدخل في الشئون الداخلية لرؤساء الطرق مما دفع رؤساء الطرق إلى فصل أنفسهم عن إدارة البكرى. وعلاوة على ذلك فإن إدارة البكرى لم يعد لها أهمية كبيرة بالنسبة للدولة ووكالاتها التي كفت عن تدعيمها لإدارة البكرى. حتى عندما كان التدعيم وثيق الصلة بالمحافظة على حقوق القدم. وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور وانتشار عدد من الطرق الجديدة كما أدى إلى انسحاب وانعزال طرق أخرى وقد ترتب على هذا أن حصلت الطرق الجديدة على اعتراف من البكرى بأنها طرق مستقلة بحكم حقهم الشخصي.
وفي ظل هذه التطورات نجد أن مبدأ حق القدم قد حل محله حق المنصب كحماية قانونية رئيسية ضد العزل أو الفصل. وبعد مرور عشر سنوات على قيام عبد الباقي البكري بتنفيذ هذه الإصلاحات بدأ معظم رؤساء الطرق والعديد من رؤساء التكايا يميلون إلى الاستقلالية والاكتفاء الذاتي؛ لكي يتجنبوا إجراءات الإصلاح والتدخل في شئونهم الداخلية من جانب عبد الباقي أو وكلائه. وقد أدى هذا الوضع إلى تدهور سلطة شيخ السجادة البكرية فيما يتعلق بالطرق والتكايا وهو أمر لم يحدث من قبل ويمكن أن يوصف بأنه بمثابة أزمة في السلطة.
وبعد أن تم النشر والإعلان عن التنظيمات الخاصة بالطرق الصوفية بالقرار الخديوي في عام 1895 بدأ عهد جديد متميز للتصوف الإسلامي القائم على الأسس والقوانين في الظهور في مصر. (راجع : @مشيخة الطرق الصوفية - لائحة الطرق الصوفية لعام 1895 م@).
إذ ألغت هذه التنظيمات كل ما جاء بالمنشور الدوري الذي أصدره عبد الباقي البكري في عام 1881 ، كما حولت السلطة التي كان يمارسها شيخ السجادة البكرية على الطرق من سلطة قائمة على العرف والتقاليد إلى سلطة قانونية عقلانية قائمة على أساس قانوني جديد مما أتاح لمحمد توفيق البكري استعادة السلطة على الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق وهي السلطة التي كانت قد تدهورت تدريجيًا في العهد السابق عليه.
ولقد تم نشر نسخة معدلة من هذه التنظيمات في عام 1903 (راجع: @مشيخة الطرق الصوفية - لائحة الطرق الصوفية المعدلة لعام 1903 م@) حيث ضمنت عددًا من التعديلات التي كان يرغب فيها محمد توفيق البكري والتي تقوي وتدعم مركزه بوسائل عديدة وضحت نصوصًا أيضًا مما جعل مضامينها متمشية مع إصلاح الأوقاف الذي تم تنفيذه في نفس تلك السنة ، واستثناء التكايا والزوايا والأضرحة التي تلقي الدعم بمعرفة الأوقاف من أي مورد من الخضوع للسلطان القضائي لشيخ مشايخ الطرق الصوفية.
إلا أن هذه التنظيمات المعدلة أثبتت أنها غير كافية لتحقيق الإدارة الفعالة للجهاز البيروقراطي المتخلف الذي خلقته ، وحفزت محمد توفيق على وضع مجموعة من القوانين التكميلية التي تسمى بالتنظيمات الداخلية للطرق والتي أصبحت نافذة المفعول في عام 1905 (راجع: @مشيخة الطرق الصوفية - اللائحة الداخلية للطرق الصوفية لعام 1905 م@) .
وعن طريق هذه التنظيمات نجد أن مبدأ حق القدم والذي كان قد أصبح غير ضروري في أواخر القرن التاسع عشر قد ألغى رسميًّا ، ولقد ضمنت اللائحة الداخلية بالاشتراك مع تنظيمات عام 1903 لمنصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية درجة عليا من التميز والاستقلالية للسلطة المخصصة له على نحو لم يسبق له مثيل في أي مرحلة سابقة. ولقد ظلت هذه اللائحة الداخلية بالاشتراك مع تنظيمات عام 1903 هي الدستور ومجموعة القوانين التي تسير عليها الطرق حتى 1976.
إن الترتيبات الإدارية المتميزة التي يقوم عليها تنظيم التصوف الإسلامي في مصر في معظم أوقات القرن التاسع عشر تجعل هذه الفترة تبرز كفترة فريدة من نوعها في تاريخ الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق في مصر. ويمكن أن نصف هذه الفترة بأن نقول عنها أنها «عصر القدم» مشيرين بذلك إلى التنظيم في العقود الأولى من القرن التاسع عشر والذي كانت تدور حوله إدارة الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق حتى حلول التسعينات من القرن التاسع عشر حيث أصبح هذا المبدأ زائدًا عن الحاجة ولا لزوم له.
وكان الإلغاء الرسمي لمبدأ حق القدم في عام 1905 بمثابة بداية لعهد جديد للطرق في مصر. وهذا العهد الجديد والذي خضعت فيه الطرق لمجموعتين من التنظيمات ظهرتا كنتيجة للتدهور الإداري الناجم عن عدم مراعاة حقوق القدم بشكل كاف والتي استمرتا حتى عام 1978 حيث تم إلغاء هاتين المجموعتين من التنظيمات ووضع قوانين جديدة لتحل محلها ، وكذلك العهد السابق على عهد القدم يمكن الإشارة إليهما على أنهما «عهد ما بعد القدم» و«عهد ما قبل القدم» وتحديد فترات على ذلك النحو لا يقصد به أن نقدم تقسيمًا رمزيًا ولكننا نقترحه كمجرد إطار مؤقت للعمل من أجل التعاقب التاريخي أي من أجل مجالات الاستمرار التي هي منفصلة عن تلك التي سبقتها أو أعقبتها، ولكن يمكن تحديدها من خلال علاقة بعضها بالبعض الآخر طبقًا لوجود أو غياب مبدأ حق القدم وغيره من الملامح المميزة. وهذه الملامح المميزة التي ينبغي تحديدها من خلال دراسة أخرى مستفيضة ستسمح لنا بإجراء تحليل مقارن للنواحي العديدة التنظيمية والبنائية للتصوف الإسلامي في هذه العهود المتميزة.
وهذا سوف يمكننا من أن ندرك شكل عالم الطرق كجزء من شكل المجتمع العريض كما سيمكننا من أن نتتبع تطور كلا الشكلين من حيث علاقة كل منهما بالآخر مما سيسمح لنا بالتوصل إلى تحديد دقيق لموقع الفترة ما بين عهد ما قبل القدم وعهد ما بعد القدم أكثر مما هو متاح لنا الآن.
ومن المؤكد أن البحوث التي ستجري وفق هذه الخطوط ستثبت أو ستدحض الافتراض الجدلي الكامن في الحدس المتوفر بشأن معنى اصطلاح «أرباب السجاجيد» وبشأن تدهور نقابات الحرفيين والشهرة المتزايدة للطرق.
ويمكن تقديم هذا الافتراض الجدلي في مزيد من الوضوح على النحو التالي: أن ذروة ازدهار الطرق في مصر من حيث الأهمية الاجتماعية وأعداد الناس المنضمين للطرق ومن حيث المهام التي أنجزت لم تكن في أثناء القرن الثامن عشر مثلما تذهب معظم الآراء وإنما كانت هذه الذروة أثناء القرن التاسع عشر ومتزامنة مع ونتيجة لتدهور النقابات المهنية التي كانت هي الشكل المتميز للتنظيم الاجتماعي في عهد ما قبل القدم.
وعلاوة على ذلك فإن عهد القدم نفسه يمكن أن يخضع لمزيد من البحوث التي سيؤدي إلى نتائج عظيمة إذا استخدمنا أسلوب البحث التاريخي الذي يحدد ويربط ما بين مجموعة من الأشخاص في بيئة تاريخية معينة (عرف أو قانون) ، وفي هذه الحالة المتعلقة بالطرق والهيئات المرتبطة بالطرق فإن الدراسة قد تتألف من تحليل بيوجرافي دقيق عن علية القوم الذين كانوا يقومون بالإشراف على هذه الهيئات حتى يمكن الوصول إلى المزيد من الفهم الدقيق عن الأسلوب الذي كانت تعمل به كل هيئة من هذه الهيئات من حيث هي كيانات في حد ذاتها وهذه الدراسة يمكنها أن تركز أولًا وقبل كل شيء على أسرة البكري بهدف التوصل إلى المزيد من التاريخ التفصيلى عن هذه الأسرة.
وثانيًا فإنها يمكنها أن تركز على كل أسرة كان ينتمي إليها رؤساء الطرق ورؤساء الهيئات المرتبطة بالطرق. مع الرجوع إلى الوثائق الوثيقة الصلة بالموضوع المحفوظة بدار الوثائق بالقاهرة.
ولسوف تتيح لنا هذه الدارسة فرصة للتوصل إلى مزيد من الفهم لأساس السلطة لكل رئيس من الرؤساء المستقلين بذاتهم وهو الأمر الذي تناوله أساسًا بالتحليل من حيث العلاقة مع سلطة شيخ السجادة البكرية وليس من حيث هو عامل مستقل يؤثر على نمو واضمحلال ووضع الطرق والهيئات المرتبطة بالطرق التي كانت هذه السلطة تمارس عليها وهنا تجدر الإشارة إلى أن القيود التي تحد من مجالنا في التحليل هي نتيجة للقصور النانجم عن كمية المادة العلمية بالسجلات المصرية.
وأثناء تحليل السلطة من حيث هي عامل مستقل يؤثر على وضع الطرق ونموها واضمحلالها فإنه ينبغي تقييم مغزى الطريقة أي مغزى تعاليم كل طريقة وطقوسها الدينية وطبيعتها المادية ودور ذلك كله في ازدهارها واضمحلالها إلا أن مثل هذا التقسيم يتطلب معرفة بالخلفية الاجتماعية لعضوية الطريقة ، وذلك بدوره يتطلب معرفة تفصيلية بالطبقات الاجتماعية بالمجتمع المصري ، حتى يمكن تقديم تفسير واضح للتفاعل الاقتصادي الاجتماعي للمتغيرات والنواحي المتعلقة «بثقافة الطريقة» والتي تؤثر على نمو الطريقة أو اضمحلالها ، ونظرًا لأن مثل هذه المعرفة غير متوفرة بشكل يدعو للرثاء حاليًا فإن المعلومات المتاحة حتى الآن لم تمثل سوى هذه التفسيرات البنائية لهذه الظواهر بدون التوغل في مزيد من العمق في أمور تتعلق بالطريقة.
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 9- 10، 18- 21، 41-43، 66، 91-96، 104-106، 117-119، 122، 183-188.