فى موضوع (@الطريق الصوفى - الموالد@) تكلمنا على أصل الاحتفال بالمولد الشريف ، وبينا أن أصل عمل المولد – على ما يؤكد الإمام السيوطى – الذى هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة فى مبدأ أمر النبى صلى الله عليه وسلم وما وقع فى مولده من الآيات ثم يمد لهم سماطا يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التى يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبى صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف ، والبدعة لا تنحصر فى الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا مباحة ومندوبة وواجبة على ما ذهب إليه الجماهير الكثيرة من العلماء من كافة المذاهب ، ولم يخالف فى ذلك أحد من المحققين والأئمة المعتبرين ، نعم خالف الشواذ غير المتبحرين ومن لا يأخذ بقوله فى الأصول ولا الفروع.
ولمشيخة الطرق الصوفية عناية خاصة بالمولد الشريف، فبالإضافة إلى الموالد التي يتم الاحتفال بها إحياء لذكرى معظم المشايخ المدفونين في هذه الأضرحة فإن المناسبة العظمى التي كانت تظهر فيها الطرق نفسها وتستعرض نفسها كانت أثناء الاحتفالات بمولد النبي محمد ×. وكانت هناك إجراءات رسمية محددة تسير عليها مشيخة الطرق الصوفية برئاسة الشيخ البكرى للاحتفال بالمولد الشريف.
وفي القاهرة كان تنظيم هذه الاحتفالات من اختصاص البكري بالدرجة الأولى الذي كان يتلقى في هذه المناسبة مبالغ من الخزينة العامرة «وزارة الخزانة» كمساهمة في النفقات التي يواجه بها هذه المناسبة الكريمة. وكانت بلدية القاهرة تساهم أيضًا عن طريق تزويده بالأرز ولحوم الضأن والزبد والشاي والأخشاب بينما كانت إدارة العزب الخديوية ترسل السكر وأوعية الطهي اللازمة.
وفي حوال منتصف شهر صفر كان يتم تحديد عدد أيام المولد النبوي في اجتماع يحضره كبار الشخصيات الدينية في منزل القاضي بالقاهرة وكان هذا الاجتماع يحضره أيضًا رؤساء الطرق والقاضي نفسه. وكان البكري يطلب من محافظ القاهرة أن يرسل له فرمان مولد الرسول. وفي هذه الوثيقة كان التصريح يعطى للاحتفال بالمولد خلال المدة التي يقررها هذا الاجتماع. ويبلغ البكري الوكلاء التابعين له بالمحافظات بالفترة الزمنية التي سيستغرقها المولد ويطلب منهم أن يعلنوا عن ذلك بين جميع الناس.
وفي 25 شهر صفر كانت الطرق تتجمع بالقرب من باب الخلق ومعهم راياتهم وأعلامهم وأدواتهم. ثم يسيرون في موكب يبدأ من باب الخلق ويتجه نحو قصر البكري في الأزبكية حيث يكون في انتظارهم رؤساء الطرق والتكايا والأضرحة وغيرهم من الشخصيات الدينية الكبيرة الذين يكونون قد انتهوا من تناول الطعام على مأدبة بدعوة من البكري. وبعدئذ يتم تلاوة فرمان المولد على الحاضرين وبالتالي يكون هناك إعلان جماهيري عن ليالي المولد التي ستشترك فيها الطرق المختلفة في قصر البكري بعقد حلقات الذكر أو المرور أمام القصر في موكب.
وفي اليوم التالي كانت تحتشد مجموعة من حفظة القرآن الكريم في القصر حيث يتلون آيات من القرآن ويتلون حزب البكري وحزب المولد. وفي الفترة المسائية من نفس اليوم كانت الدعوة توجه للأمراء وعلماء الأزهر وكبار موظفي الحكومة وكبار الشخصيات العامة للاستمتاع إلى تراتيل حزب المولد مرة أخرى ولحضور حفل استقبال رؤساء الطرق. وكان جميع رؤساء الطرق يتسلمون أروابًا خاصة مصنوعة من قماش الجوخ أو الحرير. وهذا الاحتفال الشعائري كان يسبقه ويعقبه مواكب الطرق وحلقات الذكر في داخل وفي خارج قصر البكري. وكانت الخيام تنصب هناك في منطقة الأزبكية فقط من أجل هذا الغرض.
وفي 12 ربيع الأول كانت تقام «الدوسة» وهي الطقوس الشهيرة التي يمتطي فيها شيخ السعدية حصانه ويسير الحصان فوق سجادة تتألف من أعضاء طريقته المنبطحين أرضًا. وبعد انتهاء الدوسة يسير أعضاء الطريقة السعدية في موكب إلى خيمة البكري. ولدى وصولهم إلى الخيمة يقوم البكري عقب حصوله على رداء الشرف المصنوع من فرو السمور الأسود من الحكومة بتوزيع أردية الشرف مرة أخرى على رؤساء الطرق وعلى رؤساء التكايا والأضرحة.
وفي ليلة 12 ربيع الأول وهي الليلة الأخيرة يحضر الخديوي إلى صوان البكري مع حاشيته ووزرائه. وهنا كان كبار العلماء الأزهريين وكبار موظفي الدولة والشخصيات البارزة في المجتمع يحضرون لكي يستمعوا إلى تلاوة لقصة المولد ولكي يشاهدوا الاحتفالات التي يختتم الجزء الرسمي منها بإطلاق الصواريخ والألعاب النارية التي تتم على نفقة الحكومة.
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 60-62.