لقد كانت الممارسة الإدارية -التي حقق الشيخ علي البكري من خلالها سلطاته- مرتبطة ارتباطًا شديدًا بما كان يعرف باسم "حق القدم"، وهو الحق المقصور على طريقة ما بعينها في الدعوة لنفسها والانتشار بين الناس، والظهور علنًا في منطقة معينة، إذا ما أمكن البرهنة على أنها أول من قامت بهذا الإجراء وتلك الدعوة لنشرها فى هذه المنطقة، فتكتسب بذلك حق القدم فيها، ولا يسمح لغيرها من الطرق بنشر دعوتها الصوفية فى تلك المنطقة.
ويبدو أن مثل هذا المبدأ، لم يكن معمولًا به قبل القرن التاسع عشر الميلادى، وهو مبدأ يحمل في طياته الشئون الإدارية والتعقيدات الإدارية التى صحبت نشأة مشيخة الطرق الصوفية.
ولكن يبدو – من وجهة نظر بعض المؤرخين - أنه في أواخر القرن السابع عشر، وفي خلال القرن الثامن عشر بصفة خاصة: أن «الخلفاء» - لدى تعينهم في منصب «الملتزمون»- كانوا يقومون بأعمال الدعاية للطريقة التي ينتمون إليها، في نطاق منطقة الالتزام الخاصة بهم، أمام مندوبي الدعاية التابعين لطرق أخرى، ويفرضوا القيود على أنشطة الطرق الأخرى الموجودة بالفعل بالمنطقة.
وأثناء قرارات الإصلاح الزراعي -التي أصدرها محمد علي في الفترة ما بين عام 1812 إلى عام 1815- تم إلغاء نظام الالتزام؛ فأحدث هذا الوضع الجديد تأثيرًا على هؤلاء الخلفاء الملتزمين، من الناحية المالية والاجتماعية، شأنهم في ذلك شأن كافة الملتزمين؛ بل وأحدث هذا تأثيرًا على مركزهم، من حيث هم رؤساء على الطريق المحلية، وذلك بمجرد إلغاء المنصب الذي كان يسمح لهم بحماية المصالح الخاصة بالطريقة التي ينتمون إليها.
منذ ذلك الوقت فصاعدًا، أصبحت المعارضة للدخلاء المنتمين لطرق أخرى، ترتكز فقط على أن طرقهم من الناحية التقليدية كانت هي الطرق الوحيدة التي لها الحق في ممارسة نشاطها في المنطقة.
ومن المؤكد، أنه كانت هناك علاقة بين إلغاء نظام الالتزام، وبين ظهور مبدأ القدم كمبدأ محوري بالغ الأهمية في مجال التنظيم في عالم الطرق الصوفية، والدليل على ذلك أن هذا المبدأ لم يكن معمولًا به في مصر العليا، فهناك لم تكن الغالبية العظمى -من الملتزمين المتولين للمنصب في وقت إلغاء هذا النظام- قد منحت الالتزام الخاص بهم حتى عام 1800، وفي تلك السنة اعترف الفرنسيون بالمملوك الأمير مراد بك حاكمًا على مصر العليا؛ وبالتالي فقد قام بمنح التزامات لعدد من أهم أنصاره والموالين له، متجاهلًا الحقوق الخاصة بملاك الأراضي السابقين.
وعلاوة على ذلك، فإنه من غير المحتمل أن يكون لأولئك الذين ظلوا في مناصبهم أية اهتمامات مستمرة بالأراضي؛ نظرًا لأن حاله الفوضى السياسية التي سادت في مصر العليا على مدى ثلاثة عقود على الأقل، قد أحدثت بالتأكيد تأثيراتها على الاستقرار في امتلاك الأراضي، وكان هذا من شأنه أن يجعل الحصول على منصب الملتزم بالوراثة أقل تنظيمًا مما هو عليه في الدلتا؛ ولذلك فإن عددًا قليلًا فقط من الملتزمين في جنوب القاهرة، من ذوي الولاء لأي طريقة -كان باستطاعتهم البقاء في المنصب لفترة طويلة تكفي لتدعيم مركز طريقتهم؛ وبالتالي فإن الممثلين لمثل هذه الطرق، لم يكونوا في موقف يمكنهم من إحراز النجاح في المطالبة بحقوق القدم في مرحلة متأخرة، وظلت الإدارة التنفيذية للبكري قليلة الأهمية بالنسبة للطرق في هذه المناطق حتى السبعينات من القرن التاسع عشر.
وكان ظهور مبدأ القدم، قد ترك ثلاث اختيارات أمام رؤساء الطرق الذين لا يشرفون على عقارات، أو يتلقون معاشات أو رواتب أو مدفوعات من ربع الأوقاف أو من الروزناما.
والاختيار الأول:هو أنه كان باستطاعتهم قبول سلطة البكري وإشرافه عليهم، وكل ما يترتب على ذلك.
والاختيار الثاني: أنه كان بمقدورهم أن يضعوا أنفسهم تحت سلطة أحد رؤساء الطرق، الذين قبلوا منذ البداية الخضوع لسلطة البكري، وكان هذا يمثل اختيارًا واقعيًّا بالنسبة لرؤساء الطرق ذات الأهمية المحلية، الراغبة في تجنب القيود التي تفرض على التوسع في العضوية، بسبب ظهور مبدأ القدم.
والاختيار الثالث: أنه كان باستطاعتهم تحدي البكري، والبقاء في حالة استقلال عن سلطته، ولكن هذا البديل الثالث كان يعتبر واقعيًّا فقط بالنسبة لرؤساء الطرق التي لم تكن تظهر نفسها كجماعة علنًا، وإنما تقتصر في أنشطتها على المساجد وبعض البيوت بالاعتدال والرزانة؛ فإنهم قد اجتذبوا أعضاء ممتازين، فسمح لهم هذا باتخاذ الاختيار الثالث، بدون الخوف من فقدان بعض الأعضاء، لصالح الطرق التي تركز هدفها على الظهور أمام الجماهير والاشتراك في الاحتفالات الرسمية؛ إلا أن إقامة «الحضرات» في البيوت الخاصة، أصبحت ممنوعة في عام 1289 هـ / 1872م، وذلك بهدف إرغام هذه الجماعات أيضًا على تقبل البكري كرئيس أعلى عليهم، والتجاوب مع الممارسات التي أرست قواعدها إدارة الطرق الصوفية.
ونظرًا لأن المشاركة في الموالد، وفي المواكب التي تقام في الاحتفالات الإسلامية، وفي الحضرات التي تقام في الأماكن العامة -أصبحت لا يمكن أن تتم إلا تحت قيادة خليفة لطريقة لها حق القدم، وبحيث يكون هذا الخليفة معتمدًا رسميًّا من جانب البكري؛ فإن الأعضاء الراغبين في الانضمام إلى طريقة ما، كانوا يضعون في اعتبارهم -بالتأكيد- ما إذا كانت الطريقة لها حق القدم من عدمه، فإذا لم تكن الطريقة لها حق القدم، تصبح عوامل الترغيب في الانضمام إليها ضئيلة.
وفي حالة أولئك الذين يتطلعون إلى الوصول إلى منصب القيادة المحلية، على طريقة ما نجد أن الإجراء المتبع عادة، هو أن يحاول الشخص الطموح الراغب في المنصب الحصول على تعيينه خليفة، على طريقة يكون رئيسها معترفًا بسلطة البكري، وتكون للطريقة حق القدم في المنطقة التي يسكن فيها هذا الشخص الطموح؛ نظرًا لأن هذا من شأنه أن يؤهله لكل الحقوق التي يتضمنها «القدم»؛ وبالتالي فهو يقدم الشروط السابقة التي لا غنى عنها لتحقيق آماله بنجاح.
وكان تعيين الخلفاء يتم عن طريق رئيس الطريقة، وكانت الطلبات للحصول على تعيين رسمي يكتبها أعضاء الطريقة، ويرفعونها لرئيس الطريقة أو للبكري، وما إن يصدر قرار بالتعيين، حتى يتم التصديق عليه من جانب البكري، الذي لا يقوم بالتصديق النهائي إلا إذا كان لديه الدليل على أن قانونية السلطة الممنوحة لن تظل غير فعالة بسبب عدم الشرعية، فإذا ما تم تعيين أي شخص بما يتناقض مع رغبة أولئك الذين يمارس سلطانه عليهم، وتم بالفعل قبول هذا التعيين من جانب رئيس الطريقة؛ فإنه يمكن للأعضاء الاحتجاج لدى البكري؛ وعندئذ يقوم البكري -بالتالي- بإصدار أوامره للوكيل التابع له؛ لكي يقوم بالتقصى بين جماهير الناس، والتوصل إلى إيجاد تسوية وحل للمشكلة.
وإذا كان رئيس الطريقة ينوي تعيين خليفة في منطقة لا يوجد بها مثل هذا الموظف من قبل، أو إذا أراد أن يعين موظفًا إضافيًّا في منطقة يوجد بها خليفة له بالفعل؛ فإنه يتعين عليه أن يحصل مقدمًا على تصريح من البكري.
وفي الحالة الأولى: يتم مراجعة وفحص حقوق القدم الممكنة للطرق الأخرى في المنطقة.
وفي الحالة الثانية: تكون الرغبة الإدارية في تعيين خليفة إضافي، هي التي يتم فحصها بكل دقة، ولكن لا يتم التصديق على التعيين بمعرفة البكري إلا إذا اتضح أنه قد حدث توسع جوهري في عدد الأعضاء، بما يبرر بأن مركز السلطة الجديدة سيؤدي عمله على خير وجه، بدون أن يعرض مركز الخلفاء الآخرين في المنطقة للخطر، عن طريق سحب الأعضاء منهم.
وفيما يتعلق بجميع مراكز السلطة الأخرى -في نطاق إدارة الطرق، ومراكز الخلفاء بصفة خاصة- كان هناك الحرص على التأكيد على شرعية امتلاك الأراضي أو شروط ذلك كما أشرنا من قبل، وكان هذا الواقع أمرًا أساسيًّا بالنسبة للحفاظ على النظام والإبقاء عليه، طالما أنه عندما يتقلد شخص ما منصب الخليفة بطريقة قانونية؛ فإن هذا لا يعني فقط أنه قد تم الاعتراف به كخليفة من جانب أولئك الذين يخضعون لسلطانه، وإنما يعني أيضًا أن شرعية النظام الذي يشعر هذا الموظف أنه مدان له بمنصبه -حيث يكون منصبه جزءًا من هذا النظام- قد تأكدت عن طريق أولئك الذين يرتكز كيان النظام عليهم، وكان هذا يمثل تأكيدًا لشرعية مبدأ القدم، الذي بدونه لم يكن النظام الإداري قد اتخذ الشكل الذي هو عليه، ولم يكن هذا المبدأ سيصبح مبدأ مهمًّا في مجال العلاقات بين الطرق المختلفة، وإلى حد كبير في مجال تنظيم أنشطتها بدون تواجد إدارة ذات سلطة مركزية.
إلا أن الهيبة والنفوذ المرتبط بمنصب الخليفة، لم يكن متوقفًا فقط على كون هذا المنصب جزءًا لا يتجزأ من الإدارة؛ إذ كان يمثل مهنة أو وظيفة لعدد من الخلفاء، الذين يندرجون تحت طريقة ما في منطقة معينة، والذين يلقون التبجيل والاحترام الكافي من أتباع الطريقة، وكان عليهم أن يساعدوهم في تأدية واجباتهم.
ولأن شاغلي منصب النقيب - بالإضافة إلى عملهم كضابط اتصال ما بين شيخ الطريقة وبين الخلفاء المحليين- كان عليهم أن يشرفوا على إنجاز الخلفاء لأعمالهم، ويتأكدوا من أن الأعمال تتم بطريقة سليمة؛ فإن شرعية السلطة لم تكن مستمدة من الاعتراف من جانب الأعضاء العاديين ، وإنما مستمدة أساسًا من الحقيقة التى مفادها أن خلفاء الطريقة في منطقة ما قد قبلوا شخصًا معينًا كنقيب عليهم.
وتواجد نقيب في أي منطقة كان يتوقف تمامًا على ما إذا كانت الطريقة قد اعترفت رسميًّا بالخلفاء في تلك المنطقة من عدمه، ويكون الوضع على ذلك النحو عندما يكون للطريقة حق القدم؛ ولذلك فإن تواجد وظيفة النقيب كان يرجع إلى مدى أهمية مبدأ حق القدم بالنسبة للإدارة؛ ومن ثم فإن شرعية النواب- تمامًا مثل شرعية الخلفاء- تعبيرًا عن التوافق مع مبدأ حق القدم، وبالتالي كانت تأكيدًا وتعزيزًا لشرعية الجهاز الإداري بأكمله.
ونظرًا لأن جميع الخلفاء والنواب كانوا مدينين بمراكز سلطاتهم إلى الحقيقة التي مفادها أن مبدأ القدم قد أصبح هو المبدأ الرئيسي في كيان الإدارة، فقد كان لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يذعنون للعلاقة التي تربط شيخ طريقتهم بالبكري، والتي تجعله تابعًا للبكري، وهذا يعني الاعتراف بسلطة البكري.
ونظرًا لأن أي شخص معترف بسلطة البكري، يعتبر في نفس الوقت معترفًا بمبدأ القدم، وبالتالي بشرعية مبدأ القدم؛ فإن التبعية الاختيارية لشيخ الطريقة كانت تعني أيضًا التمسك بهذا المبدأ.
ولكي يتم منع الارتباك والفوضى فيما يتعلق بحقوق القدم، وحتى لا تتجرد الإدارة من سلطاتها؛ فإنه لم يكن يسمح للنواب والخلفاء بتقلد مناصب في أكثر من طريقة واحدة، أو يكونوا أعضاء في أكثر من طريقة واحدة؛ إذ كان يطلب منهم الانتماء لطريقة واحدة، وذلك بعكس الأعضاء العاديين.
وإذا كان الأعضاء العاديون لا يتم منعهم بالفعل من الانضمام لأكثر من طريقة؛ إلا أنهم من الناحية العملية كانوا غير قادرين تمامًا على أن يكونوا أعضاء نشطين في أكثر من طريقة واحدة؛ وذلك بسبب مبدأ القدم.
ولم تفرض قيود رسمية فيما يتعلق بالعضوية في طريقة ليس لها قدم في المنطقة التي يعيش فيها العضو، إلا أن هذه الممارسة لم تكن شائعة؛ نظرًا لأنه في هذا الوضع تكون العلاقة ما بين المريد والخليفة لا معنى لها في نطاق إدارة الطرق، فالخليفة الذي لا تكون لطريقته قدم في المنطقة التي يسكن فيها مريده، لا يستطيع أن يتدخل نيابة عن المريد في حالات النزاع، ولا يستطيع التوسط والمطالبة بمعاملة المريد معاملة خاصة مميزة، في حالة الاحتجاز في السجن، أو في حالة إقامة دعوى ضده في المحكمة، والسبب في ذلك أن المريد لا يعتبر واقعًا في نطاق سلطانه القضائي.
وهناك عامل آخر يعوق ظهور هذا النوع من العضوية، وهو أن أعضاء الطريقة التي ليس لها حق القدم في المنطقة الخاصة بهم، لا يستطيعون ممارسة نشاطهم علنًا، اللهم إلا إذا عرضت أنشطتهم على خليفة لطريقة لها حق القدم لمراجعتها والإشراف عليها؛ وبالتالي فإن هذا الوضع كان يجعلهم معتمدين – للغاية - على خليفة لطريقة لا ينتمون إليه.
وحقيقة الأمر، أنه لم يكن بالمستطاع التسامح في أي انتهاك لحقوق القدم؛ لأنه لو حدثت حالة واحدة انتهكت فيها حقوق القدم؛ فإن هذا كان من شأنه أن يجعل رؤساء الطرق يفقدون الثقة في حماية البكري لمصالحهم المحلية؛ بل وكان سيضعف الحافز الذي يدفعهم إلى قبول سلطة البكري عليهم؛ مما قد يترتب عليه الاتجاه إلى الاستقلال عن البكري، وهذا بالتالي -إذا تم من جانب أعداد كافية- كان سيجعل من الصعب الإبقاء على حق القدم، وإذا ما تم إلغاء هذا المبدأ؛ فإنه كان سيفتح الطريق أمام تزايد أعداد الخلفاء في المناطق المختلفة؛ مما كان سيجعل السلطة لا تعتمد عليهم كأدوات في الإدارة الحكومية؛ ومن ثم فإن إدارة البكري -بالاشتراك مع الوكالات الحكومية- كانت على استعداد لاتخاذ الإجراءات الفعالة في حالة حدوث انتهاك لحق القدم، ليس فقط بسبب أن هذا يعتبر انتهاكًا لمصالحهم المشتركة، ولكن أيضًا بسبب أن النزاع بين الطرق المختلفة يعرض المسار السليم للمجتمع للخطر.
كان النزاع حول حق القدم، ينشأ عادة عندما يدخل خليفة في منطقة لا يكون لطريقته فيها حق القدم، ثم يبدأ في إعطاء العهد لأعضاء جدد، أو يقيم الحضرات، أو يشارك في الاحتفالات بالموالد الصغيرة في تلك المنطقة؛ إذ كان هذا الوضع يعتبر انتهاكًا صارخًا ، ومع ذلك فقد كان يمضي وقت طويل -قد يصل أحيانًا إلى بضع سنين- قبل أن تتخذ الإجراءات ضد الطريقة الدخيلة، التي قد تكون بمرور الوقت قد جذبت إليها عددًا كبيرًا من الأعضاء.
وقد يكون هذا التأخير ناجمًا عن التدهور الذي أصاب الطريقة التي لها حق القدم في المنطقة، عقب وفاة خليفتها المحلي، بالإضافة إلى الإهمال وعدم المبالاة من جانب السلطات المحلية بهذا الأمر، وإحياء الطريقة التي تردت إلى هذا المستوى كان يسير جنبًا إلى جنب، مع المطالبة بحق القدم وبذل الجهود الملائمة للحصول عليه، وعندما تطورت وتزايدت إدارة البكري هبطت الصراعات التي من هذا القبيل.
وكان بالمستطاع عرض هذه الصراعات على المحاكم ولكن عادة كان يتم تفضيل عرضها على مجلس يضم موظفي الطرق، وأحيانًا ما كان يعرض الأمر على مشايخ وعمد المنطقة التي ظهر فيها الصراع.
وكانت الإجراءت في المحكمة تعتمد على شهادة الشهود، كما كان مجلس المشايخ يعتمد على التحكيم، هذا بالإضافة إلى أن البكري كان يطلب الدليل والشهادة، من رؤساء الطرق الذين يدعون حق القدم في منطقة ما؛ بل وكان البكري يصدر تعليماته لأحد وكلائه في المديريات لإجراء تقص للحقائق؛ إلا أن الوكلاء لم يكن بمقدورهم أن ينفذوا بالقوة مبدأ حق القدم، وكذلك الحال بالنسبة للخلفاء المحليين؛ نظرًا لأنه لم يكن لديهم الوسائل التنفيذية التي تعينهم على تحقيق ذلك، وكان عليهم أن يتأكدوا فقط بمجرد رسوخ حقوق القدم أن كل شيء قد تم من جانب شيخ الناحية والعمدة والمأمور المحلي؛ لتنفيذ هذه الحقوق بالقوة والحفاظ عليها.
وحقيقة الأمر، أن الحفاظ على حق القدم، وبالتالي الحفاظ على سلطة البكري، والحفاظ على إدارة الطرق بأكملها كان يتوقف على التدخل الفعال، من جانب هؤلاء الموظفين الذين يمثلون الحكومة التى اعترفت بحق القدم من حيث هو أداة مفيدة للإدارة الحكومية، وبالتالي كانت الحكومة تتصرف على النحو الذي يدعم حق القدم.
كان للخلفاء -الذين هم ينحدرون من سلالة الأشراف- وضع استثنائي خاص، من حيث إنهم إذا انتهكوا حق القدم الخاص بطريقة ما، لا يتخذ أي إجراء رسمي حكومي ضدهم؛ حيث كان يشعر الجميع أن اتخاذ مثل هذا الإجراء ضدهم، يتعارض مع التبجيل الذي يحس به الناس نحوهم، وقد أدى هذا الوضع -بالإضافة إلى أن فرض القيود على سكان المناطق الريفية لم يكن منطبقًا عليهم- إلى جعل الخلفاء المنتسبين للأشراف، هم الوكلاء الجدد للطرق المختلفة.
وإذا كانت المنازعات حول القدم تتضمن أشرافًا؛ فإنه يتم إبلاغ البكري بذلك، فيبادر إلى التحقق من شرعية وصحة الادعاءات، ولكي يفعل ذلك فإنه يطلب من النقيب الإقليمي الذي يقع النزاع في منطقته أن يبحث الأمر ويعرض عليه نتيجة بحثه، فإذا ثبت صحة الادعاء فإنه يصدر تعليماته للموظفين الحكوميين المحليين؛ لكي يتخذوا الإجراءات اللازمة التي تضمن عدم إعاقة الأشراف.
وهكذا نرى أن الدور المهم الذي بدأ يلعبه الأشراف، من حيث هم وكلاء جدد كان نتيجة مباشرة لظهور مبدأ القدم؛ من حيث هو المدلول الرئيسي لإدارة البكري، وقد أدى هذا التطور إلى زيادة أهمية النقباء المحليين، وذلك بالإضافة إلى الدور الذي كانوا يقومون به فيما يتعلق بإدارة الأضرحة بالأقاليم المختلفة ؛ فأصبح لهم بذلك دور فعال في إدارة شئون الطرق، وليس أدل على هذا من أن بعض النقباء الإقليميين كانوا يشغلون منصب الوكيل في نطاق الإدارة في نفس الوقت.
ويبدو أن التوقف عن تعيين النقباء الإقليميين لفترة سنة واحدة فقط، كان له أهمية كبيرة في خلق هذا الوضع، فهؤلاء الموظفون أصبحوا يشغلون هذا المنصب لفترة أطول؛ مما أطال فترة السلطة التي تمارس من خلال شاغلي المنصب، فأدى هذا إلى زيادة التكامل مع إدارة البكري.
ولقد كانت إدارة البكري تقدم للحكومة موظفين محددي الهوية، وهم الخلفاء والنواب، وكان هؤلاء الموظفون أكثر نجاحًا من حيث التعامل الفعال مع حشود أعضاء الطرق الصوفية، طبقًا للقواعد المعمول بها في عالم التصوف من البيروقراطية الحكومية غير الكافية في ذلك الوقت.
وعلاوة على ذلك، استطاعت الحكومة السيطرة على تنظيم الاحتفالات الدينية الأخرى والموالد، من خلال هؤلاء الموظفين الذين كانوا يعتبرون مسئولين عن السلوك القويم لأولئك المشاركين في هذه الاحتفالات، بل ومسئولين عن الأداء المنظم أثناء الحضرات في هذه المناسبات وغيرها من المناسبات الأخرى؛ ولذلك يمكن القول أن إدارة البكري أصبحت مفيدة بالنسبة للحكومة؛ ومن ثم فإن المبدأ الذي ارتكزت عليه هذه الإدارة، مما جعلها تتطور وتصبح جهازًا يلبي الاحتياجات الإدارية للدولة قد اعترفت الحكومة به تمامًا، بل وقامت الحكومة عن طريق وكالاتها المختلفة بحماية هذا المبدأ، ومنع أي انتهاك له.
والحقيقة أن حق القدم كان الركن الأساسى فى إنشاء وتدعيم منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية عندما أسند أول الأمر إلى الشيخ البكرى شيخ السجادة البكرية، ولمزيد من التوسع بخصوص هذه المسألة راجع (@مشيخة الطرق الصوفية - النشأة والتطور@)
كما أن وجود حق القدم أدى إلى حدوث ثنائية وازدواج فى عالم الطرق الصوفية، حيث ظهرت طرق صوفية عديدة لم تستطع الانضمام إلى مشيخة الطرق الصوفية بسبب خرقها لحق القدم، مما ترتب عليها بقاؤها خارج الإطار الرسمى لمشيخة الطرق الصوفية، راجع:
(@مشيخة الطرق الصوفية - الطرق الصوفية الجديدة خارج حق القدم@)
(@مشيخة الطرق الصوفية - الطرق الصوفية غير المنضمة لمشيخة الطرق@)
كما أن حق القدم تعرض للإلغاء والإسقاط فى إصلاحات سنة 1905 م ، وكان الإلغاء الرسمي لمبدأ حق القدم في عام 1905 بمثابة بداية لعهد جديد للطرق في مصر، راجع:
(@مشيخة الطرق الصوفية – النشأة والتطور @).
(@مشيخة الطرق الصوفية - اللائحة الداخلية للطرق الصوفية لعام 1905 م @).
المرجع : فريد عبد الرحمن دي يونج، تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، ترجمة: عبد الحميد فهمي الجمال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص 40-50.