للطريق الصوفى فى القرنين السادس والسابع سماته الخاصة به، والتى يمتاز بها عن الطريق الصوفى فى القرون التى سبقته ، وأهم هذه السمات هو ظهور التصوف الفلسفى ، ونضج الشعر الصوفى (راجع: @الطريق الصوفى فى القرنين السادس والسابع - بداية ظهور التصوف الفلسفي@).
ولم يظهر مذهب وحدة الوجود في صورته الكاملة (pantheism) في التصوف الإسلامي إلا بمجيء الصوفي الأندلسي المتفلسف محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 628هـ.
وقد كانت لهذا المذهب في الأندلس ممهدات سبقت ظهوره، وقد عني المستشرق الإسباني أسين بلاثيوس بتتبع المدارس الصوفية الفلسفية السابقة على ابن عربي والتي كانت تنحو نحو وحدة الوجود في الأندلس، وذلك في بحثه المعنون (ابن مسرة ومدرسته)([1]). وقد تناول بلاثيوس في بحثه هذا الفكر الإسلامي في المشرق ثم في المغرب في القرون الثالثة الأولى من الإسلام، وتحدث فيه بعد ذلك عن حياة ابن مسرة (269-381هـ) ونظريته الأنباذوقلية المنحولة Pseudo-Empedocles))، وعن آراءه المختلفة في النفس والعقل والصدر، وعن آرائه الأخرى الميتافيزيقية والكلامية، ثم يَعْقُبُ ذلك دراسة مدرسته، وأثر أفكاره في المتأخرين من مفكري الأندلس، وعلى الأخص ابن عربي.
والواقع أن تعاليم ابن مسرة أثرت في جميع الصوفية الأندلسيين الذين مزجوا التصوف بالفلسفة.
وقد ظهر لابن مسرة في إسبانيا تلاميذ كثيرون اعتقدوا آراءه على مر العصور([2]). كان لمدرسته أتباع في القرن الرابع في عصر ابن حزم، منهم إسماعيل الرعيني. ويبدو أن أثر هذه المدرسة قد امتد إلى ألمرية (Almeria) وفعل فعله في صوفيتها في القرن الخامس الهجري على نحو ما يشير إليه بلاثيوس([3])، وأصبحت ألمرية مركزًا هامًا من مراكز الصوفية القائلين بوحدة الوجود بتأثير من آراء ابن مسرة، فظهر فيها محمد بن عيسى الألبيري الصوفي، وأبو العباس ابن العريف صاحب كتاب (محاسن المجالس)، والذي أنشأ طريقة جديدة متأثرة بالنزعة التيوزوفية التي نجدها عند مدرسة ابن مسرة. وكان له تلاميذ كثيرون نشروا طريقته في بلاد أخرى من الأندلس، منهم أبو بكر الميورقي، وابن برجان في إشبيلية، وهو أستاذ ابن عربي، وابن قسي في نواحي الجوف([4])، وابن قسي هذا هو الذي قاد المريدين في ثورتهم على المرابطين.
ومن صوفية الأندلس ذوي الاتجاه الفلسفي –أيضًا- أبو عبد الله الشوذي، ومن تلاميذه أبو إسحاق بن دهاق المتوفى سنة 611هـ، وابن أحلى، وقد انتسب الصوفي الأندلسي المتفلسف عبد الحق بن سبعين المتوفي سنة 669هـ، والمعاصر لابن عربي إلى ابن دهاق. وتعتبر المدرسة الشوذية –أيضًا- التي يقول أصحابها بالوحدة الوجودية امتدادًا لمدرسة ابن مسرة.
وقد انتقل تصوف وحدة الوجود من الأندلس والمغرب إلى المشرق على يد ابن عربي، وابن سبعين اللذين استقر بهما المطاف في المشرق حيث نشرا تعاليم هذا النوع من التصوف([5]).
وتصوف وحدة الوجود هو التصوف المبني على القول بأن ثمة وجودًا واحدًا فقط هو وجود الله، أما التكثر المشاهد في العالم فهو وَهْمٌ على التحقيق تحكم به العقول القاصرة. فالوجود إذًا واحد، لا كثرة فيه.
على أن من أصحاب وحدة الوجود كابن عربي من يفسح المجال للقول بوجود الممكنات أو المخلوقات على نحو ما، ومنهم من يطلق القول بالوحدة، ويمعن في ذلك إلى الحد الذي يجعله لا يثبت إلا وجود الله فقط. وهؤلاء هم أصحاب الوحدة المطلقة، وعلى رأسهم ابن سبعين.
وسنفرد لكل واحد منهما حديثا خاصا عن مذهبه (راجع: @ الطريق الصوفى فى القرنين السادس والسابع ودور ابن عربى فيه @).
الوحدة المطلقة عند ابن سبعين:
يعتبر ابن سبعين([6])أكثر إمعانًا من ابن عربي في نفي الكثرة وإطلاق الوحدة، ولذلك عرف مذهبه بــ: (الوحدة المطلقة)([7]).
وابن سبعين هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر، وهو صوفي أندلسي متفلسف([8])، كما عرف في أوربا بأجوبته على أسئلة الإمبراطور فردريك الثاني حاكم صقلية. وهو يكنى بابن سبعين؛ لأنه كان يكتب اسمه هكذا: ابن 5، وهي دائرة أو حرف العين الذي يساوي سبعين في حساب الجمل، ولذلك كان يعرف ابن سبعين أيضا بــ: (ابن الدائرة)، وهو اسم لأحد الفرسان. ويلقب بقطب الدين، ويعرف أحيانًا بأبي محمد، وهو من أصل عربي. ولد سنة 614هـ -1217م- 1218م في وادي رقوطه من أعمال مرسية، ودرس العربية والآداب على جماعة من شيوخها، ونظر في العلوم الدينية على مذهب مالك، وفي العلوم العقلية، وفي الفلسفة. وقد ذكر من بين أساتذته ابن دهاق المعروف بــ: (ابن المرأة) المتوفى سنة611 هـ، وهو شارح (الإرشاد) للجويني. ولما كان ابن سبعين ولد سنة 614هـ، وتوفي أستاذه هذا سنة 611هـ، فإنه من الواضح أنه لم يتتلمذ عليه إلا عن طريق مطالعة مصنفاته، وكذلك الشأن بالنسبة لأستاذين آخرين يذكرهما مترجموه وهما البوني المتوفى سنة 622هـ، والحراني المتوفى سنة 538هـ، وهما من علماء الحروف والأسماء. ويظهرنا تلميذ لابن سبعين هو شارح (رسالة العهد) على أن أستاذه قد حَصَّلَ علوم الأوائل والأواخر بمحض الاطلاع على الكتب المصنفة فيها وليس عن طريق الأساتذة.
وقد نشأ ابن سبعين في أسرة نبيلة، وكان أبوه حاكمًا للمدينة، وكذلك كان أجداده من أهل الحسب والرياسة. ويذكر بعض مترجميه أنه نشأ ترفًا في ظل عز ونعمة، وهذا يفسر اعتداده بنفسه. ويبدو أنه ابتعد عن اللهو، والترف، والرياسة الدنيوية، وزهد وتصوف، والتف حوله المريدون.
وقد هاجر ابن سبعين من مرسية سنة 640هـ قاصدًا شمال إفريقيا ومعه فريق من تلاميذه، وقيل سبب هجرته أنه اتهم بأشياء هو منها برئ، ولعله هاجر لأسباب سياسية منها ضعف دولة الموحدين، وانتهاء عهد الحرية الفكرية في الأندلس، أو لهجوم بعض الفقهاء عليه وعدم تمكنه لذلك من نشر دعوته بالأندلس. وانتهى المطاف بابن سبعين إلى مدينة سبتة، وكان حاكمها آنذاك ابن خلاص، وقد أقام فيها فترة مع اتباعه داعين إلى طريقتهم، وهناك أعجبت به امرأة موسرة وتزوجته وأنفقت عليه من مالها وشيدت له منزلًا وزاوية. وفي سبتة عكف ابن سبعين على مطالعة كتب التصوف وتدريسها فمالت إليه العامة. وفي أثناء إقامته فيها –أيضًا- بعث إليه الإمبراطور فريدرك الثاني (1194- 1250م) بأسئلته الفلسفية الأربعة التي تدور حول فلسفة أرسطو، ويبدو أن حاكم سبتة تبين من إجابة ابن سبعين على أسئلة الإمبراطور أنه فيلسوف، فأجبره على مغادرة المدينة، فخرج منها إلى العدوة، ومنها إلى بجاية، وأقام بهذه المدينة فترة، ثم دخل قابس في تونس، ولكنه لقي فيها عداء شديدًا من فقيه يدعى أبا بكر بن خليل السكوني، فقرر ابن سبعين الهجرة نهائيًّا إلى المشرق، وتوجه أولًا إلى القاهرة حوالي سنة 648هـ، إلا أن فقهاء المغرب كانوا قد أرسلوا رسولًا إلى مصر يحذر أهلها منه مدعيًّا أنه ملحد قائل بوحدة الخالق والمخلوق، ولعل هذا هو السبب في أن أهل مصر لم يحسنوا استقباله. وناصبه قطب الدين القسطلاني المتوفى سنة 686هـ العداء في مصر وألف في الرد عليه، وهنا لم يجد ابن سبعين بُدًّا من الهجرة إلى مكة، وكان حاكمها أبو نمى من الأشراف، فأحسن وفادته. ومما يفسر لنا هجرة ابن سبعين من مصر إلى مكة أنه كان متهمًا بالتشيع، وكانت مصر بعد صلاح الدين الأيوبي تحارب كل دعوة شيعية، ولذلك ذكر ابن سبعين نفسه أن الظاهر بيبرس سلطان مصر كان يطلبه، ونجده يختفي تمامًا من مكة حين خرج إليها الظاهر بيبرس حاجًّا سنة 667هـ.
وقد صادف ابن سبعين في مكة راحة وطمأنينة، فانصرف إلى نشر دعوته، وألف فيها بعض رسائله، وكتب ببيعة أهل مكة للسلطان زكريا بن أبي حفص ملك إفريقيا. وفي مكة –أيضًا- راسله نجم الدين بن إسرائيل تلميذ ابن عربي. وكانت لابن سبعين صلات طيبة -أيضًا- بملك اليمن المظفر شمس الدين يوسف، إلا أن وزير هذا الملك كان كما يقول ابن سبعين حشويًّا ولذلك كان يكرهه. على أن فقهاء مكة ما لبثوا أن تألبوا عليه في السنتين الأخيرتين من حياته، ففكر في الهجرة إلى الهند، ولكن هجرته لم تتحقق. وقد توفي ابن سبعين في مكة سنة 669هـ=1720م، وقيل إنه مات منتحرًا، ولكن رواية انتحاره مفتقرة إلى أدلة. وقيل: إن وزير ملك اليمن دس له السم، وأغلب الظن أنه مات موتًا طبيعيًّا خصوصًا وأن روايات انتحاره أو موته مسمومًا مما روجه خصومه، وكانوا كثيرين أثناء حياته وبعد مماته.
وقد خَلَّفَ ابن سبعين واحدًا وأربعين مصنفًا تقريبًا([9])، تناول تصوفه من ناحيتيه النظرية والعملية، وتختلف طولًا وقصرًا، وكثير منها مفقود. وقد نشر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي رسائله المحفوظة في الخزانة التيمورية بعنوان: (رسائل ابن سبعين)، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1965م، وهي رسائل هامة في الإبانة عن مذهبه، ونشر الأستاذ شرف الدين بالنقايا رسالة (جواب صاحب صقلية)، بيروت 1941. على أن أهم مصنفات ابن سبعين وهو كتابه (بد العارف) –البد عنده بمعنى المعبود- لم ينشر بعد، ويعده كتاب هذه السطور للنشر الآن.
وأسلوب ابن سبعين في مصنفاته على اختلافها رمزي شديد الخفاء والتعقيد، وهو يستخدم أحيانًا في كتبه رموزًا على طريقة علماء الحروف والأسماء تعبيرًا عن مذهبه، وهو معدود من المشتغلين بهذا العلم، وصنف فيه بعض مصنفاته.
وثقافة ابن سبعين كما تبدو من مصنفاته واسعة متنوعة، فهو قد عرف مذاهب فلاسفة اليونان، والفلسفات الشرقية القديمة كالهرمسية، والفارسية، والهندية، ووقف على مذاهب فلاسفة المشرق كالفارابي وابن سينا، وفلاسفة المغرب كابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وله إلمام واضح بما تضمنته رسائل إخوان الصفا، ومعرفة دقيقة بمذاهب المتكلمين خصوصًا الأشعرية، وعلمه بمذاهب التصوف دقيق، ويتبين هذا كله من نقده لمن تقدمه من فلاسفة، ومتكلمين، وصوفية، وهو إلى جانب ما تقدم عميق المعرفة بمذاهب الفقه الإسلامي.
وينتمي ابن سبعين -كما سبق أن ذكرنا- إلى الطريقة الشوذية التي تنسب إلى الشوذي الإشبيلي، وهو أستاذ ابن دهاق، وهذه الطريقة تمزج التصوف بالفلسفة، وتعتبر امتدادًا لمدرسة ابن مسرة (269-319هـ) الذي تأثر به صوفية الأندلس، خصوصًا المتفلسفة منهم. ويذكر ابن سبعين ابن مسرة وتلاميذه في مصنفاته وإن كان ينقدهم نقدًا شديدًا. وكذلك عرف ابن سبعين فلسفة ابن عربي، ولكنه يصفها بأنها مخموجة –أي عفنة-، ومن ثم لا يعتبر منتميًّا إلى مدرسة ابن عربي كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين.
وقد خَلَّفَ ابن سبعين طريقة صوفية تعرف بالسبعينية، وكان لأتباعها زي خاص انتقده الفقهاء، وسندها غريب، فقد أرود تلميذه الششتري في هذا السند هرمس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والإسكندر، والحلاج، والنفري، والحبشي، وقضيب البان، والشوذي، والسهروردي المقتول، وابن الفارض، وابن قسي، وابن مسرة، وابن سينا، والغزالي، وابن طفيل، وابن رشد، وأبا مدين -التلمساني-، وابن عربي، والحراني، وعدي بن مسافر، وابن سبعين، وهي بهذه الطريقة تلفيقية تجمع بين مذاهب شتى منها ما هو إسلامي ومنها ماهو يوناني أو شرقي قديم.
ويبدو أن هذه الطريقة استمرت إلى عصر ابن تيمية سنة 728هـ، فقد هاجم ابن تيمية بعض أتباع هذه الطريقة في مدينة الإسكندرية حين وفد إليها، وألف في الرد عليهم رسالة خاصة هي: (كتاب المسائل الإسكندرية في الرد على الملاحدة الاتحادية السبعينية). ومن المنتمين إلى السبعينية أبو الحسن الششتري، ومحي ابن سليمان البلنسي، وابن أبي واطيل. وهم من تلاميذ ابن سبعين، إلا أن الششتري فيما يبدو قد استقل في حياة أستاذه بطريقة خاصة به هي الششترية وذلك حين أقام بمصر.
وابن سبعين صاحب مذهب في التصوف الفلسفي يعرف بالوحدة المطلقة، والفكرة الأساسية فيه بسيطة، وهي أن الوجود واحد وهو وجود الله فقط، أما سائر الموجودات الأخرى فوجودها عين وجود الواحد، فهي غير زائدة عليه بوجه من الوجوه ، والوجود بذلك في حقيقته قضية واحدة ثانية.
ويعرف هذا المذهب في تفسير الوجود بالوحدة المطلقة؛ لأنه يختلف عن المذاهب الصوفية الأخرى في وحدة الوجود التي تفسح مجالًا للقول بالممكنات على وجه ما، وهذه الوحدة المطلقة، أو الوحدة النقية الخالصة، أو الإحاطة على حد تعبير ابن سبعين نفسه تكاد تعرى عن وصف الوحدة نفسه لإفراط إفرادها، ولكونها أنكرت كل النسب والإضافات والأسماء، فهي بذلك منزهة عن المفهومات الإنسانية التي يمكن أن تخلع عليها([10]).
ويُحِلُ ابن سبعين الألوهية في هذا المذهب المَحَلّ الأول، فوجود الله المطلق هو أصل ما كان وما هو كائن أو سيكون، أما الوجود المادي المشاهد فَيُرَدُّ عنده إلى ذلك الوجود المطلق الروحي، وبهذا يكون مذهبه في تفسير الوجود روحيًّا لا ماديًّا.
ويشبه ابن سبعين الوجود أحيانًا بالدائرة، ومحيطها هو الوجود المطلق أو الواسع، أما الوجود المقيد أو الضيق، فهو داخل الدائرة. والحق أنه لا خلاف بين الوجودين إلا من حيث الوهم؛ لأن ماهيتها واحدة، وعلى ذلك فأنت تبصر المطلق في المقيد والوحدة بينهما مطلقة. وفي أحيان أخرى يتصور ابن سبعين وجود الله الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة.
وعلى الجملة لا يثبت ابن سبعين إلا وجودًا واحدًا لا إثنينية معه ولا كثرة بوجه من الوجوه.
ويلتمس ابن سبعين لمذهبه هذا أدلة من القرآن يتناولها على نحو فلسفي خاص، منها على سبيل المثال قوله تعالى: +هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ_[الحديد:3]، وقوله تعالى: +كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ_[القصص:88]،ويستدل على مذهبه أحيانًا ببعض الأحاديث، ومنها الحديث القدسي: «أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل، فأقبل...إلخ»، ولكن ابن تيمية إلى جانب أنه يبطل قول ابن سبعين بالوحدة المطلقة، ويشتد في الحملة عليه؛ يبين أن تأويلاته للنصوص غير صحيحة، كما أن حديث العقل الذي يستند إليه موضوع.
ويبني ابن سبعين على قوله بالوحدة المطلقة مذهبًا خاصًّا في المحقق أو المقرب، وهو مذهب شبيه بمذهب الحقيقة المحمدية أو القطب عن بعض متفلسفة الصوفية كابن عربي وابن الفارض، أو مذهب الإنسان الكامل عند عبد الكريم الجيلي، والمحقق عنده هو أكمل أفراد الإنسان، وهو المتحقق بالوحدة المطلقة، وهو متميز عن كل من سبقه.
ويجعل ابن سبعين هذا المحقق حاويًا لكمالات كل من الفقيه، والأشعري، والفيلسوف، والصوفي، ويزيد عليهم بعرفانه الخاص الذي هو علم التحقيق وهو الباب إلى النبي، وهو المدير للعالم من حيث حقيقته الروحانية المتحدة بالنبي، والكل يستمد منه، وإلى ذلك يشير تلميذه شارح (رسالة العهد) بقوله: «والوصول إلى الله لا يكون إلا بالنبي، والنبي لا يعرف إلا بالوارث... والوارث هو المحقق، فالعقلاء يطلبون المحقق ويحتاجون إليه بالضرورة، وهذا هو معنى قوله -قول ابن سبعين- : «الكل من أصحابنا»، وقوله : «الوقت والجهاد سبعينية لا غير»لما رأى من إحاطته وإفراط اضطرار العالم إليه([11]). ويستفاد من هذا النص أن ابن سبعين يشير بالمحقق إلى ذاته هو.
وأصالة ابن سبعين الفلسفية هي في مقارنته بين مذهبه ومذاهب غيره من الفقهاء، والأشعرية، والفلاسفة، والصوفية، وقد تناول ذلك بالتفصيل في (بد العارف)، وهو يبطل مذهب أولئك جميعًا بالقياس إلى مذهب المحقق الذي هو الوحدة المطلقة، وهذا ما يَعْنِيهِ ابن سبعين حين يشير إلى ما يسمى عنده بــ: (المراتب الخمس) أو (الرجال الخمسة).
وقد أدى مذهب ابن سبعين في الوحدة المطلقة إلى هدم المنطق الأرسطي، فابن سبعين يحاول جاهدًا وضع منطق جديد إشراقي في (بد العارف) ليحل محل ذلك المنطق الذي يقوم على تصور الكثرة. ويبين لنا أن منطقه الجديد، وهو ما يمكن أن يسمى بمنطق المحقق، ليس من جنس ما يكتسب بالنظر العقلي، وإنما هو من قبيل النفحات الإلهية التي يبصر بها الإنسان ما لم يبصر، ويعلم ما لم يعلم، فهو إذًا منطق ذوقي.
ومن أهم النتائج التي وصل إليها ابن سبعين في منطقه هذا أن حقائق المنطق فطرية في النفس الإنسانية، وأن الألفاظ المنطقية الستة: (الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، والشخص) تشعر بالكثرة الوجودية، فهي محض وهم، والمقولات العشر كذلك، وإن اختلفت وتباينت فإنما تشير إلى الوجود الواحد المطلق، فهو إذًا يحمل المقولات على الوجود الواحد، وإلى ذلك يشير بقوله: «ألا ترى أن المقولات العشر مختلفة ومتباينة ويطلق عليها: الوجود، والشيء الواحد، والأمر بالترادف».
وبذلك يجعل ابن سبعين المقولات العشر جنسًا واحدًا أو تحت جنس واحد، وهو يختلف في هذا مع ابن رشد الذي ذكر في (تلخيص ما بعد الطبيعة)([12])أن أرسطو –أيضًا- قد ناقض أولئك الذين قالوا بأنها تحت جنس واحد في المقالة الأولى من السماع.
والدليل على أن ابن سبعين يجعل المقولات تحت جنس واحد قوله: «فلا موضوع إلا واحد وهو الجوهر الموطأ لجميع المقولات (التسع) المتقدم عليها بالطبع، وهو الجنس العالي»([13]). وهكذا يطبق ابن سبعين مذهبه في الوحدة في مجال المنطق الأرسطي؛ ليثبت دائمًا أن كل مباحث هذا المنطق التي تشعر بالكثرة في الوجود وهم على التحقيق، أو يتناول بعض هذه المباحث لتبدو متمشية مع مذهبه هو.
ويمد ابن سبعين في مذهبه في الوحدة المطلقة إلى مجالات أخرى من البحث الفلسفي، فهو يرى النفس والعقل مثلًا لا وجود لهما بذاتيهما، وإنما وجودهما من الواحد، والواحد لا يتعدى، فهما لا يخرجان عن قضية الوجود الواحد، والأخلاق عنده ملونة بلون الوحدة المطلقة، فالخير، واللذة، والسعادة في التحقق بهذه الوحدة، والخير والشر لا فرق بينهما من حيث الحقيقة الوجودية؛ لأن الوجود قضية واحدة، وهو الخير المطلق، فمن أين يتأتى الشر في الوجود؟ أضف إلى ذلك أن ابن سبعين يرى أن المحقق لا يطلق عليه سعيد؛ لأنه عين السعادة، وعين الخير، وعين الوجود.
ومما يلفت النظر عنده –أيضًا- أن الرياضات العملية التي يتوصل بها إلى اكتساب الأخلاق خاضعة لتصوره للوجود، فذكر المحقق مثلًا يكون بصيغة (لا موجود إلا الله) بدلًا من (لا إله إلا الله)، والذاكر في هذا الذكر هو المذكور حقيقة، والمقامات والأحوال التي هي ثمرة الذكر لا تخرج عن نطاق الوحدة، وكذلك الخلوة، والعزلة، والصوم، والدعاء، بل السماع –أيضًا- جميع ذلك عنده ينتهي بالسالك أو المسافر إلى زوال الإضافة والتحقق بالوحدة المطلقة.
المرجع : مدخل إلى التصوف الإسلامي، د. أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 251- 259).
)[1]( Ibn Masarra y su escuela, Obras Escogidas, Madrid, 1916, t 1, p. 1-216.
وانظر عنه أيضًا:
Massignon: Recueil…etc pp. 70-71.
([6]) كتبنا عنه بحثًا عنوانه (ابن سبعين وفلسفته الصوفية) كان موضوعًا لدرجة الدكتوراه من جامعة القاهرة (سنة 1961م) ونشر مؤخرًا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973.
([7]) استعمل ابن سبعين نفسه هذا المصطلح بالنسبة لمذهبه في (الرسالة الفقيرية) وغيرها. ابن سبعين وفلسفته: ص 214.