للإمام الحسن البصرى ومدرسته أثرهما الواسع فى التصوف الإسلامى، وشهرتهما التى لا تخفى فى عالم الطرق الصوفية منذوا ظهروا فى صدر الإسلام وقرنه الأول وحتى يومنا هذا، وقد كان للإمام الحسن البصرى موضوعه الخاص (راجع: @ الطريق الصوفى فى القرن الأول ودور الحسن البصرى فيه@). وفى هذا الموضوع تناول مدرسة الحسن البصرى وتلاميذه بشىء من التفصيل.
ولقد اجتمع حول الحسن البصري خلق كثير من طالبي العلم والفقه في الدين والعبادة. ولكن يظهر من بعض الأخبار([1]) أنه كان يستصفي منهم: مالك بن دينار، وأيوب السختياني، وثابت البناني، ومحمد بن واسع، وفرقد السبخى، وعبد الواحد بن زيد –فكان يخلو بهم في بيته للعبادة والتفكر. فلنذكر بعض المعلومات عن هؤلاء:
1- أما أيوب السختياني:
فهو أيوب بن أبي تميمة السختياني، ويكنى أبا بكر، وكان مولى لعنزة، إحدى القبائل التي لا تزال قوية حتى اليوم في نجد. وولد أيوب سنة 68هـ، ومات بالطاعون في البصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة، وهو يومئذ ابن ثلاث وستين سنة([2]).
«وكان أيوب ثقة ثبتًا في الحديث، جامعًا، عدلاً، ورعًا، كثير العلم، حجة»([3]). وقال عنه أستاذه الحسن البصري: «هذا سيد الفتيان»([4]).
وكان إذا سئل عن شىء ليس عنده فيه شىء قال: سل أهل العلم. وكان كثيرًا ما يقول: «لا أدري»حتى قال حماد بن زيد: «ما رأيت أحدًا أكثر من قول «لا أدري»من أيوب ويونس».
وكان يحب ستر زهده ويقول: «لأن يستر الرجل زهده خير له من أن يظهره»(الموضع نفسه، ص 249). وحج أيوب أربعين حجة، وكان عبيد الله بن عمر يرتاح قلبه في موسم الحج بلقاء أقوام نور الله قلوبهم بالإيمان، منهم أيوب([5]).
وكان صديقًا ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، فلما تولى يزيد الخلافة ، قال أيوب : «اللهم أنسه ذكري»([6])!. وكان شديد التبسم في وجوه الناس.
ومن كلمات أيوب:
أ- «لا يستوي العبد –أو لا يسود العبد- حتى تكون فيه خصلتان: اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم»(الكتاب نفسه جـ 3 ص 5).
ب- «الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء: أحبها إلى الله وأعلاها عند الله وأعظمها ثوابًا عند الله تعالى: الزهد في عبادة من عبد دون الله من كل ملك، وصنم، وحجر، ووثن. ثم الزهد فيما حرم الله تعالى من الأخذ والإعطاء. ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو والله أخسه عند الله؛ الزهد في حلال الله عز وجل».
جـ- وكان يقول في دعائه: «اللهم إني أسألك الإيمان وحقائقه ووثائقه، وكريم ما مننت به علي من الأعمال التي ينال بها منك حسن الثواب. واجعلنا ممن يتقيك ويخافك ويرجوك ويستحييك. الله استرنا بالعافية».
د- «ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا، إلا ازداد من الله بعدًا».
هـ- «إن قومًا يتنعمون ويأبى الله إلا أن يضعهم؛ وإن أقوامًا يتواضعون، ويأبى الله إلا أن يرفعهم».
و- «ما أفسد على الناس حديثهم إلا القصاص».
ز- «إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون»([7]).
وكان ينصح بالعمل لاكتساب الرزق، «لأن الغنى من العافية»كما قال (الحلية، جـ3 ص 10). ولأن المرء لا يزال كريمًا على أخوانه طالما لم يحتج إليهم ( الكتاب نفسه جـ3 ص 11).
وقد أسند أيوبُ الحديث عن أنس بن مالك، وعمرو بن سملة الجرمي؛ ومن قدماء التابعين: عن أبي عثمان الهندي، وأبي رجاء العطاردي، وأبي العالية والحسن البصري، وابن سيرين، وأبي قلابة الجرمي.
2- فرقد السبخي:
وهو أبو يعقوب فرقد بن يعقوب السبخي([8]) (بالسين فالباء فالحاء المعجمة) وتوفي في أيام الطاعون بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة، مثل أيوب السختياني.
وقد أُثرت عنه أقوال؛ وفي بعضها يقول إنه قرأ ذلك في «التوراة»!مما يشير إلى مدى اتساعه وأفقه ، وتعطشه للعلم والمعرفة من شتى مصادرها. ومن هذه الأقوال:
أ- قال فرقد السبخي: «قرأت في التوراة: أمهات الخطايا ثلاث: أول ذنب عصى الله به: الكبر، والحسد، والحرص. فاستل من هؤلاء الثلاث ست، فصاروا تسعًا: الشبع، والنوم، والراحة، وحب المال، وحب الجماع، وحب الرياسة»([9]).
ب- «ويل لذي البطن من بطنه: إن أضاعه ضعف، وإن أشبعه ثقل» (الموضع نفسه).
جـ- «قرأت في التوراة: من أصبح حزينًا على الدنيا أصبح ساخطًا على ربه. ومن جالس غنيًا فتضعضع له ذهب ثلثا دينه. ومن أصابته مصيبة فشكاها إلى الناس فكأنما يشكو ربه عز وجل» (الكتاب نفسه جـ3 ص 46).
د- «إن ملوك بني إسرائيل كانوا يقتلون قراءهم على الدين، وإن ملوككم إنمايقتلونكم على الدنيا. فدعوهم والدنيا» (الموضع نفسه)
هـ- وقال فرقد: «قال عيسى بن مريم: طوبى للناطق في آذان قوم يسمعونكلامه! إنه ما تصدق رجل بصدقة أعظم أجرًا عند الله تعالى من موعظة قوم يصيرون بها إلى الجنة»(الموضع نفسه).
و- «إذا عصم الرجل من ذنب سبع سنين لم يعد فيه»(الموضع نفسه).
ز- عن جعفر قال: غدوت على فرقد يومًا، فسمعته يقول: إني رأيت الليلة في المنام كأن مناديًا ينادي من السماء: يا أصحاب القصور، يا أصحاب القصور، يا أشباه اليهود !إن أعطيتم لم تشكروا، وإن ابتليتم لم تصبروا»(الموضع نفسه).
جـ- «عن عبد الواحد بن زيد قال: سمعت فرقد السبخي يقول: ما انتبهت من نوم لي قط إلا ظننت مخافة أن أكون قد مسخت»(الكتاب نفسه، جـ 3 ص 47).
ط- «عن ابن شوذب قال: سمعت فرقد يقول: إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل؛ ألم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين نقيين. وأنتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل !»(«الحلية»جـ 3 ص 47).
ى- «الغريب من ليس له حبيب»(الموضع نفسه).
يا- «عن عمران قال: دعي الحسن (=البصري) إلى طعام. فنظر إلى فرقد وعليه جبة صوف، فقال: يا فرقد !لو شهدت الموقف لخرقت ثيابك مما ترى من عفو الله تعالى»(الموضع نفسه).
وقد أسند فرقد السبخي عن أنس بن مالك؛ وسمع الحديث من ربعى بن خراش، ومرة الطيب، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وجابر بن زيد أبي الشعثاء.
والشىء الذي يلفت النظر في هذه الأقوال ما يذكر فرقد أنه قرأه في التوراة وما ينقل من قول عن عيسى بن مريم. ويظهر أنه كان على صلة بالتراث اليهودي والمسيحي أو برجال هذا التراث.
3- مالك بن دينار:
ويكنى أبا يحيى، وكان مولى لامرأة من بني سامة بن لؤي. «وكان ثقة، قليل الحديث. وكان يكتب المصاحف. ومات قبل الطاعون بيسير. وكان الطاعون سنة إحدى وثلاثون ومائة»([10]).
ومثله مثل فرقد السبخي: تنسب إليه أقوال قرأها في «التوراة»ونبدأ بها في ذكر أقواله:
أ- «قرأت في التوراة: أيها الصديقون !تنعموا بذكر الله في الدنيا، فإنه لكم في الدنيا نعيم، وفي الآخرة جزاء عظيم»([11]).
ب- «حدثنا جعفر قال: سمعت مالكًا يقول: قرأت في التوراة: ابن آدم !لا تعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكيًا، فإني أنا الله الذي اقتربت لقلبك، وبالغيب رأيت نوري. قال مالك: يعني تلك الرقة وتلك الفتوح التي يفتح الله لك منه» («الحلية» جـ 2 ص 359).
جـ- «قال: بلغني أن بني اسرائيل خرجوا إلى مخرج لهم، فقيل لهم: يا بني اسرائيل !تدعوني بألسنتكم وقلوبكم بعيدة عني ؟ !باطل
ما تذهبون»(الحلية»جـ 2 ص 362).
د- «قرأت في الحكمة أن الله يبغض كل حبر سمين»«الحلية»جـ 2 ص 362).
هـ- «قال: وجد في بعض الكتب: سبحوا لله، أيها الصديقون، بأصوات حزينة» («الحلية» جـ2 ص 358).
و- «قال: إن في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: إن أهون ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه»(«الحلية»جـ 2 ص 3602).
ز- «مالك بن دينار قال: قال موسى عليه السلام: يا رب !أين أبغيك ؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم»(«الحلية»جـ 2 ص 364).
ح- «قال جعفر: كنت عند مالك بن دينار ، فجاء هشام بن حسان،وكان يأتيه هشام وسعيد بن أبي عروبة، وحوشب يطلبون قلوبهم. فجاء هشام، فقال: أين أبو يحيى ؟ قلنا: عند البقال: قال: قوموا بنا إليه. قال: فحانت منه نظرة إلى هشام، وقال: يا هشام !إني أعطي هذا البقال كل شهر درهمًا ودانقين، وآخذ منه كل شهر ستين رغيفًا، وكل ليلة رغيفين، فإذا أصبتهما سخنًا فهو أدمهما. يا هشام !إني قرأت في زبور داود عليه السلام: «إلهي !رأيت همومي وأنت من فوق العلى». فانظر ما همومك يا هشام»(«الحلية» جـ 2 ص 368).
ط- «قال: قال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم !إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس». («الحلية» جـ 2 ص 369).
ى- «سمعت مالك بن دينار يقول: في التوراة أن الله يبدد عظام رجل –في يوم- يجمع الله فيه الأولين والآخرين- تكلم بين اثنين بهوى». («الحلية» جـ 2 ص 372).
يا- «سمعت مالكًا يقول: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله. قال: فرأى بعض بنيه يومًا غمز للنساء. فقال: مهلا يا بني !قال: فسقط عن سريره فانقطع نخاعه، وأسقطت امرأته، وقتل بنوه في الجيش. فأوحى الله عز وجل –إلى نبيهم عليه السلام أن أخبر فلانًا الحبر أتي لا أخرج من صلبك صديقًا أبدًا. ما كان غضبك لي إلا أن قلت «يا بني مهلاً !» («الحلية» جـ 2 ص 372-373).
يب- «قرأت في بعض الحكمة: لا خير لك –أو لا عليك- أن تعلمن ما لم تعلم ولا تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبًا، فحزمه حزمة، فذهب ليحملها، فعجز عنها –فضم إليها أخرى !» («االحلية» جـ 2 ص 375).
يج- «قرأت في بعض الكتب: يجاء براعي السوء يوم القيامة، فيقال: يا راعي !شربت اللبن وأكلت اللحم، ولم تؤ الضالة، ولم تجبر الكسير، ولم ترعها حق رعايتها، اليوم أنتقم لهم منك» («الحلية» جـ 2 ص 375).
يد - «عن مالك بن دينار، قال: قرأت في الزبور: بكبرياء المنافق يحترق المساكين. وقرأت في الزبور: إني لأنتقم من المنافق بالمنافق، ثم أنتقم من المنافقين جميعًا. ونظير ذلك في كتاب الله عز وجل: +وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ_[الأنعام:129] «الحلية»جـ 2 ص 376).
يه- «عن مالك بن دينار قال: مكتوب في التوراة: مثل امرأة حسناء لا تحصن فرجها كمثل خنزيرة على رأسها تاج، وفي عنقها طوق من ذهب- يقول القائل: ما أحسن هذا الحلي وأقبح هذه الدابة !!(«الحلية»جـ 2 ص 377).
يو- «عن مالك بن دينار قال: «مكتوب في الزبور: طوبى لمن لم يسلك طريق الأثمة ولم يجالس البطالين، ولم يقم في هوى المستهزئين، إنما همه حكمة الله: لها يطلب، وبها يتكلم، فمثله مثل شجرة في وسط الماء لا يتساقط من ورقها شىء، وكل عمل هذا تام، لا يذهب منه شىء([12])»(«الحلية»جـ 2 ص381).
يز- «عن مالك بن دينار قال: «مر عيسى بن مريم مع الحواريين على جيفة كلب. فقال الحواريون: «ما أنتن ريح هذا»!فقال عيسى: «ما أشد بياض أسنانه!»([13])-يعظهم وينهاهم عن الغيبة»(«الحلية»جـ 2 ص 383).
يح- «عن مالك بن دينار قال: دخل عيسى بن مريم مسجد بيت المقدس، وهم يتبايعون([14]) فيه. فجعل ثوبه مخراقًا وسعى عليهم ضربًا، وقال: يا بني الحيات والأفاعي !اتخذتم مساجد الله أسواقًا»(«الحلية»جـ 2 ص 383).
يط- «سمعت مالك بن دينار يقول: «أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا عيسى !عظ نفسك؛ فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني»(«الحلية»جـ 2 ص 382).
ك- وقال مالك بن دينار: «كان عيسى بن مريم عليه السلام –إذا مر بدار قد مات أهلها، وقف عليها فنادى: ويح أربابك الذين يتوارثونك، كيف لم يعتبروا فعلك بأخوانهم الماضين !»(«الحلية»جـ 2 ص 386).
ونقف قليلاً عند أقواله التي أوردناها حتى الآن لنلاحظ ما يلي:
1- أن مالك بن دينار كان واسع الاطلاع على الكتاب المقدس بقسميه: العهد القديم، والعهد الجديد. ونقوله عنهما نقول صحيحة وردت في الكتاب المقدس، وليست من نوع تلك الأقاويل التي يعزى وجودها إلى «التوراة»و«الزبور»ولا توجد فيهما.
2- أن ثم خبرًا أورده صاحب «الحلية»يفسر هذا الاطلاع ويدل دلالة قاطعة على غشيانه الأديرة. قال أبو نعيم: «حدثنا أبو بكر الآجري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد، قال: حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا المبارك بن سعيد عن عباد بن كثير، عن مالك بن دينار، قال: كنت مولعًا بالكتب أنظر فيها. فدخلت ديرُا من الديارات ليالي الحجاج. فأخرجوا كتابًا من كتبهم، فنظرت فيه، فإذا فيه: يا ابن آدم !لم تطلب علم ما لم تعلم، وأنت لا تعمل بما تعلم ؟»([15]).
وهذا الخبر يفسر لنا إذن سر اطلاع مالك بن دينار الواسع على «الكتاب المقدس»، ولا بد أن اطلاعه كان على ترجمة عربية، لأننا لا نعرف أن مالك بن دينار، كان يعرف السريانية؛ وعن هذه الترجمة العربية للكتاب المقدس حفظ ما حفظ وما أوردها هنا من عباراته، ولا بد أنه كان ينقل هذه العبارات لنفسه ليحفظها فيما بعد؛ أو ربما كان يقتني نسحة من «الكتاب المقدس»نفسه في ترجمة عربية أو فارسية.
3- ويلاحظ كذلك أن في بعض أقوال له أخرى يستلهم بعض ما ورد في الأنجيل من عبارات، دون أن يذكر أنه ينقل عن الأنجيل. ومن ذلك قوله: «يا هؤلاء !إن الكلب إذا طرح إليه الذهب والفضة لم يعرفهما؛ وإذا طرح إليه العظم أكب عليه، كذلك سفهاؤكم لا يعرفون الحق»([16]). فهذا القول قد نظر فيه إلى قول المسيح في أنجيل متى (الإصحاح السابع، عبارة 6): «لا تعطوا القدس للكلاب، ولاتطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم».
***
وزهد مالك بن دينار قريب من التصوف. ولهذا يمكن أن يعد حلقة وسطى بين الزهد كما يمثله الحسن البصري، وبين التصوف كما يظهر عند رابعة العدوية ومعروف الكرخي.
ذلك أنه أخذ يدعو إلى أمور لا نراها عند الزهاد السابقين:
1- من ذلك دعوته إلى التجرد، أي عدم الزواج.
ويدل على هذا سلوكه هو، فقد امتنع من الزواج، ولما قيل له: «ألا تتزوج ؟ فقال: لو استطعت لطلقت نفسي»([17])؛ وكذلك قوله: «لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب»([18]). ثم القصة الخاصة بأحد أغنياء البصرة، وكانت له ابنة نفيسة فائقة الجمال. وقد خطبها بعض بني هاشم فأبت فقال لها: «أراك تريدين مالك بن دينار وأصحابه ؟ فقالت هو والله غايتي». فقال الأب لأخ له: ائت مالك بن دينار فأخبره بمكان ابني وهواها له. قال: فأتاه فقال له: فلان يقرئك السلام، ويقول لك: إنك تعلم أني أكثر أهل هذه المدينة مالاً، وأفشاهم ضيعة، ولي ابنة نفيسة، وقد هويتك، فشأنك وهي، فقال مالك للرجل: عجبًا لك يا فلان !أو ما تعلم أني قد طلقت الدنيا ثلاثًا ؟ !([19]).
2- من ذلك قوله في زهده في الطعام، قال: «ما أكلت العام رطبة ولا عنبة ولا بطيخة –فجعل يعد كذا وكذا- ألست أنا مالك بن دينار؟ !([20]) . وقال مرة لرجل من أصحابه: إني لأشتهي رغيفًا لينًا بلبن رائب، فانطلق فجاء به « فجعل مالك يقلبه وينظر إليه. ثم قال: اشتهيتك منذ أربعين سنة فغلبتك، حتى كان اليوم وتريد أن تغلبني ؟ !إليك عني وأبى أن يأكله« (الكتاب نفسه، جـ 2 ص 366). وسُمع يقول: «إنه لتأتي علي السنة لا آكل فيها لحمًا إلا في يوم الأضحى، فإني آكل من أضحيتي» (الموضع نفسه). وقال مرة : «اشتريت لأهلي طيبًا بدرهم. وإني لأحاسب نفسي فيه منذ عشرين سنة، فما أجد له مخرجًا» (الموضع نفسه). وكان أدمه كل سنة ملحًا بفلسين. وكان يتكسب من شيئين: من عمل الخوص، ومن نسخ القرآن. وسُمع مالك بن دينار يقول: «دخل علي جابر بن يزيد وأنا أكتب. فقال: يا مالك !ما لك عمل إلا هذا: تنقل من كتاب الله من ورقة إلى ورقة ؟ هذا والله الكسب الحلال» (الكتاب نفسه جـ 2 ص 367). وكان يكتب المصاحف ولا يأخذ عليها من الأجر أكثر من عمل يده. وكان يكتب المصحف في أربعة أشهر.
كذلك كان في ملبسه في غاية الزهد: وكان يقول: «لو صلح لي أن أعمد إلى برد لي فأقطعه باثنتين فأتزر بقطعة وأرتدي بقطعة -لفعلت»(الكتاب نفسه جـ 2 ص 367). وكان يلبس إزار صوف وعباءة خفيفة؛ فإذا كان الشتاء ففرو وعباءة.
وقد اعترف له الحسن البصري بأنه لا يقدر على أن يجاريه في شدة زهده. قال مالك: «لما وقعت الفتنة أتيت الحسن أساله: يا أبا سعيد !ما تأمرني ؟ فلا يجيبني. فقلت: يا أبا سعيد !أتيتك ثلاثة أيام أسالك وأنت معلمي فلا تجيبني. والله لقد هممت أن آخذ الأرض بقدمي، وأشرب من أفواه الأنهار، وآكل من بقل البرية حتى يحكم الله بين عباده. قال: فأرسل الحسن عينيه باكيًا، ثم قال: يا مالك !ومن يطيق ما تطيق ؟ !لكننا والله ما نطيق هذا»([21]).
ومن غرائب أقواله في الزهد، قوله: «لولا أن يقول الناس: جن مالك –للبست المسوح ووضعت الرماد على رأسي، أنادي في الناس: من رآني فلا يعص ربه عز وجل»([22]).
***
وفي الوقت نفسه نراه يتابع رسالة أستاذه الحسن البصري:
1- في نصح الولاة. إذ يذكر أنه دخل «على والي البصرة، فقال له الوالي: ادع لي. فقال: كم من مظلوم بالباب يدعو عليك !»([23]). ومر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته. فقال له مالك: أما علمت أن «هذه المشية تكره إلا بين الصفين ؟ فقال له المهلب: أما تعرفني ؟ فقال له: أعرفك أحسن المعرفة. قال (المهلب): وما تعرف عني ؟ قال (مالك): أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت بينهما تحمل العذرة. قال: فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة»(«الحلية»جـ 2 ص 385).
وفي هذا المعنى من تحقير أبهة الملك في الدنيا نجد رواية أخرى، عن مالك بن دينار، «قال؛ كنت عند بلال بن أبي بردة([24]) وهو في قبة له، فقلت: قد أصبت هذا خاليًا، فأي قصص أقص عليه ؟ فقلت في نفسي: ما له خير من أن أقص عليه ما لقي نظراؤه من الناس. فقلت له: أتدري من بنى هذا الذي أنت فيه ؟ بناها عبيد الله بن زياد، وبني البيضاء، وبني المسجد؛ فولى ما ولى، وصار من أمره أن هرب، فطلب فقتل. ثم ولي البصرة بشر بن مروان، فقالوا: أخو أمير المؤمنين. فمات بالبصرة، فحملوه، وحشد الناس في جنازته. ومات زنجي، فحمله الزنج على طن قصب. فذهب بأخي أمير المؤمنين فدفنوه، وذهب بالزنجي فدفنوه. ثم جعلت أقص عليه أميرًا أميرًا حتى انتهيت إليه... » وقد كان من أمره أنه بنى دارًا بالكوفة، فلم يرها حتى أخذ فسجن فعذب، حتى قتل فيها («الحلية» جـ 2 ص 380).
وثم رواية أخرى عن قولة قالها لما لقى بلال بن أبي بردة في الطريق والناس يطوفون حوله؛ فقال له بلال: أما تعرفني ؟ «قال: بلى !أعرفك أولك نطفة، وأوسطك جيفة، وأسفلك دودة»(«الحلية»جـ 2 ص 385) وهي تشبه تمامًا قولته للمهلب التي ذكرناها منذ قليل.
2- وفي الوعظ البالغ الذي يدور حول تحقير الدنيا والزهد فيها والتزام الفقر والحزن. ومن ذلك قوله:
أ- «إذا لم يكنفي القلب حزن خرب، كما إذا لم يكن في البيت ساكن يخرب»([25]).
ب- وكان يقول في دعائه: «اللهم أقبل بقلوبنا إليك حتى نعرفك حسنًا، وحتى نرعى عهدك وحتى نحفظ وصيتك حسنًا. اللهم سومنا سيما الأبرار، وألبسنا لباس التقوى ؟ !اللهم إنا نتوب إليك قبل الممات، ونلقي بالسلام قبل اللزام !اللهم انظر إلينا نظرة تجمع لنا بها الخير كله: خير الآخرة: وخير الدنيا». ويقف مالك عند كلامه هذا ويقول: «يحسبون أني أعني بخير الدنيا الدينار والدرهم. لا !إنما أعني العمل الصالح –حتى ألقاك يوم القاك. وأنت عني راض، رغبة ورهبة إليك يا إله السماء والأرض، ثم يبكي بكاء خفيفًا»([26]).
جـ- وقال في وصف الصدق، وهو يكثر من ذكر الصدق والصديقين في كلامه:
«إن الصدق يبدو في القلب ضعيفًا، كما يبدو نبات النخلة: يبدو غصنًا واحدًا، فإذا نتفها صبي ذهب أصلها؛ وإن أكلتها عنز ذهب أصلها. فتسقي فتنشر، وتسقي فتنشر، حتى يكون لها أصل أصيل يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها. كذلك الصدق يبدو في القلب ضعيفًا، فيتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى، ويتفقده صاحبه، فيزيده الله حتى يجعله الله بركة على نفسه، ويكون كلامه دواء للخاطئين. قال. ثم يقول مالك: أما رأيتموهم ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: بلى !والله لقد رأيناهم: الحسن وسعيد بن جبير وأشباههم: الرجل منهم يحيى الله بكلامه الفئام من الناس»([27]).
د- وكان يزجر حملة القرآن لا يفيدون منه في تقويم نفوسهم وسلوك سبيل الصلاح والتقوى. قال: «يا حملة القرآن !ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض: فإن الله ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحس([28]) فتكون فيه الجنة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن. فيا حملة القرآن !ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ !أين أصحاب سورة ؟ أين أصحاب سورتين ؟ ماذا عملتم فيهما ؟ !» ( «الحلية» جـ 2 ص358-359).
وقال أيضًا: «إن من الناس ناسًا إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم؛ وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم. فكونوا من قراء الرحمن، بارك الله فيكم » ( «الحلية» جـ 2 ص 363).
هـ- ويحمل على زمانه فيقول: «إنكم في زمان أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير، إنكم في زمان كثر فيه تفاخرهم، قد انتفخت ألسنتهم في أفواههم، وطلبوا الدنيا بعمل الآخرة. فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعونكم في شباكهم»(«الحلية» جـ 2 ص 363).
و- وينهى عن حب الدنيا فيقول: «إن البدن إذا سقم لم ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة؛ وكذلك القلب إذا علقه حب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة»([29])(الموضع نفسه).
وقال: «اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا يزرنا الله على هذا. فليت شعري أي عذاب الله ينزل!» (الموضع نفسه).
وقال في الدنيا وخداعها: «اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء –يعني الدنيا» («الحلية»جـ 2 ص 364).
وقال أيضًا في نفس المعنى: «من غلب شهوة الحياة الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله»(«الحلية»جـ 2 ص 365).
وقال أيضًا: «إن الله تعالى إذا أحب عبدًا انتقصه من دنياه، فكف عليه ضيعته، ويقول: لا تبرح من يدي. قال: فهو متفرغ لخدمة ربه تعالى. وإذا أبغض عبدًا دفع في نحره شيئًا من الدنيا، ويقول: اغرب من يدي فلا أراك بين يدي. فتراه معلق القلب بأرض كذا وبتجارة كذا»(«الحلية»جـ 2 ص 370)([30]).
وقال: «عجبًا ممن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده –كيف تقر بالدنيا عينه، وكيف يطيب فيها عيشه !ثم يبكي مالك حتى يسقط مغشيًا عليه («صفة الصفوة) جـ 3 ص 204).
وقال: «إن الله جعل الدنيا دار مفر، والآخرة دار مقر. فخذوا لمقركم من مفركم. وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم. ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، ففي الدنيا جييتم، ولغيرها خلقتم. إنما مثل الدنيا كالسم: أكله من لا يعرفه، واجتنبه من يعرفه. مثل الدنيا مثل الحية مسها لين وفي جوفها السم القاتل، يحذرها ذوو العقول ويهوي إليها الصبيان بأيديهم»(«صفة الصفوة»جـ 3 ص 206).
مواجيد مالك بن دينار:
وكان مالك بن دينار كثير المواجيد. فكان كثيرًا ما يغلق على نفسه باب الحجرة في بيته ويترنم بكلام بينه وبين نفسه لا يسمعه غيره، ويبكي بكاء شديدًا، ويشهق ويتنفس حتى يغشى عليه، كما شهد بذلك عبد العزيز بن سلمان العابد، وعبد الواحد بن زيد([31]).
وكان يحقق ما قاله عن الأبرار من أن «الأبرار يتواصون بثلاث: بسجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة»([32]).
ودخل المقابر ذات يوم «فإذا رجل يدفن. فجاء حتى وقف على القبر ينظر إلى الرجل وهو يدفن. فجعل يقول: «مالك غدًا هكذا يصير، وليس له شىء يتوسده في قبره. فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشيًا عليه»([33]).
وسمع قارئًا يقرأ: «إذا زلزلت الأرض زلزالها»فجعل ينتفض وأهل المجلس يبكون ويصرخون؛ حتى انتهى القارىء إلى هذه الآية :﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ=٧-وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ_[الزَّلزلة:7-8]. –فأخذ مالك يبكي ويشهق حتى غشي عليه، فحمل بين القوم صريعًا([34]).
وكان دائم الحزن، لأنه كان يقول: «إن القلب إذا لم يكن فيه حزن –خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن -يخرب»([35]).
ومن كلماته البليغة في هذا المعنى: «حدثنا جعفر قال: قلنا لمالك بن دينار: ألا تدعو قارئًا؟ قال: إن الثكلى لا تحتاج إلى نائحة. فقلنا له: ألا تستسقي ؟ فقال: أنكم تستبطئون المطر، لكني أستبطىء الحجارة !»([36]).
ولما أوشك على الموت جعل يقول: لمثل هذا اليوم كان دؤوب أبي يحيى»([37])(يعني نفسه).
ولما حضره الموت قال: «لولا أني أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد كان قبلي، لأوصيت أهلي إذا أنا مت أن يقيدوني وأن يجمعوا يدي إلى عنقي، فينطلقوا بي على تلك الحال حتى أدفن، كما يصنع بالعبد الآبق»([38]).
ذلك أنه كان يرى أن «عرس المتقين يوم القيامة»([39]). والموت هو الطريق إلى حضور هذا العرس. فلماذا لا يرحب به !
وهكذا نرى أن شخصية مالك بن دينار من الشخصيات ذات الخطر والأهمية في تطور التصوف الإسلامي. وهو يمثل حلقة الانتقال من مرحلة الزهد التي بلغت أوجها عند الحسن البصري، ومرحلة التصوف بالمعنى الدقيق التي ستبدأها رابعة العدوية.
وهو أول شخصية صوفية امتزجت فيها الروحية الإسلامية بعناصر غير إسلامية، وكتابية على وجه التخصيص. فقد كان يغشى أديرة النصارى. ويديم الاطلاع على «الكتاب المقدس»بعهديه القديم والجديد، ويستشهد بما ورد فيهما بدقة تدل على علم واسع صحيح بأسفار العهد القديم والجديد، وبخاصة منها المزامير والأناجيل الأربعة.
ومواجيده تشهد بتوكيده للجانب العاطفي الانفعالي في التصوف، إلى جانب الزهد في السلوك.
ولهذا نعتقد أن من الواجب دراسته دراسة عميقة، وإبراز دوره في تطور التصوف الإسلامي، ووضعه في المكانة الجديرة به.
4- عبد الواحد بن زيد:
أما عبد الواحد بن زيد فبينه وبين مالك بن دينار مشابهة عدة، ومكانتهما في تطوير التصوف أو الزهد إلى تصوف متقاربة. ثم أنه أوفى على مالك في جانب المواجيد، وفي كثرة السياحة.
فنحن نعلم من مصادرنا أنه كان في الشام وذهب إلى بيت المقدس([40])وأنه كان يتردد على عبادان([41]). وكان يصحبه في هذه السياحات بعض كبار الزهاد؛ فقد كان في رحلته في سوريا وفلسطين بصحبة محمد بن واسع ومالك بن دينار. وفي إحدى رحلاته إلى عبادان كان بصحبة صالح المري وعتبة الغلام وسلمة الأسواري. وقد توفىى في سنة 177هـ.
وكان أيضًا يتردد على الرهبان ويحادثهم ويأخذ عنهم النصائح([42]).
وأبرز مناقبه الإفراط في البكاء وفي إثارة الوجد عند الآخرين –حتى قال حصين بن القاسم الوزان: «لو قُسِّم بَثُّ عبد الواحد بن زيد على أهل البصرة لوسعهم»([43]). وكان تأثيره إلى درجة أن يفضى بذلك على السامعين من شدة التأثر.
وفي الحث على البكاء قال: «يا أخوتاه !ألا تبكون خوفًا من النيران ؟ !ألا وإنه من بكى خوفًا من النار أعاذه الله تعالى منها. يا أخوتاه !ألا تبكون خوفًا من شدة العطش يوم القيامة !يا إخوتاه !ألا تبكون ؟ !بلى !فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله أن يسقيكموه في حظائر القدس مع خير القدماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. –ثم جعل يبكي حتى غشي عليه»([44]).
وكان هو في الوقت نفسه يبكي دائمًا. قال الحارث بن عبيد: «كان عبد الواحد بن زيد يجلس إلى جنبي عند مالك بن دينار، فكنت لا أفهم كثيرًا من موعظة مالك، لكثرة بكاء عبد الواحد»([45]).
وقد بالغ الرواة في بيان تأثير عبد الواحد بن زيد في سامعيه مبالغة ربما لا يقبلها كثيرون. من ذلك ما رواه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» (جـ 3 ص 241) عن زيد ين عمر، قال: «شهدت مجلس عبد الواحد بن زيد بعد العصر. فكنت أنظر إلى منكبيه يرتعدان، ودموعه تنحدر على لحيته، وهو ساكت والناس يبكون. فقال: ألا تستحيون من طول ما لا تستحيون ؟ - و (كان) في القوم فتى، فغشي عليه، وما أفاق حتى غربت الشمس، فأفاق وهو يقول: مالي !كأنه يعمي على الناس أمره. ثم خرج فتوضأ.» وفي رواية أخرى: «عن مسمع بن عاصم قال: شهدت عبد الواحد ذات يوم وهو يعظ. قال: فمات يومئذ في ذلك المجلس أربعة أنفس، قبل أن يقوم. قال مسمع: فأنا شهدت جنازة بعضهم»([46]). كذلك يروي صاحب «حلية الأولياء» حكاية أخرى في نفس المعنى: «عن حصين بن القاسم الوزان قال: كنا عند عبد الواحد بن زيد وهو يعظ. فناداه رجل من ناحية المسجد: «كف عنا يا أبا عبيدة، فقد كشفت قناع قلبي»… فلم يلتفت عبد الواحد إلى ذلك، ومر في الموعظة. فلم يزل الرجل يقول « : كف عنا يا أبا عبيدة ! فقد كشفت قناع قلبي» وعبد الواحد لا يقطع موعظته حتى والله حشرج الرجل حشرجة الموت، ثم خرجت نفسه، ثم مات. قال؛ أنا والله شهدت جنازته يؤمئذ، فما رأيت بالبصرة يومًا أكثر باكيًا من يومئذ»([47]).
هذه الروايات تتسم من غير شك بالمبالغة ، لكننا نستطيع أن نستخلص منها أمرين:
الأول: أن عبد الواحد بن زيد كان شديد التأثير فيمن يعظهم، وهذا التأثير لا يرجع الى بلاغة عبد الواحد بن زيد بقدر ما يرجع الى طريقته في الوعظ: من البكاء والتحنن وإبداء التأثر بحيث يكون تأثير الكلام عاطفيًّا أشد وأعنف.
والثاني: أن جو البصرة الديني كان آنذاك مشحونًا بالعواطف الدينية الفياضة، وبنوع من الحساسة المرهفة للتقوى. ترى أكان ذلك بسبب الأحداث السياسية العنيفة التي عجب بها هذا الفترة، مما وقع بين الأمويين وخصومهم الثائرين عليهم ؟ يبدو أن الأمر كان كذلك، فانصرف الناس الى التقوى وشدة الحساسية الدينية.
ولم تقتصر هذه الحالة الوجدانية على عبد الواحد بن زيد، بل شملت كذلك أصحابه مثل صالح المري وعتبة الغلام وسلمة الأسواري. فقد ذكر صاحب «الحلية» عن مسلم العباداني (نسبة إلى: عبادان الثغر المشهور، والحافل آنذاك بالعباد) قال: قدم علينا مرة صالح المري وعبد الواحد بن زيد وعتبة الغلام وسلمة الأسواري، فنزلوا على الساحل. فهيأت لهم ذات ليلة طعامًا، فدعوتهم إليه، فجاؤوا. فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا قائل يقول من بعض أولئك المطوعة، وهو على ساحل البحر مارًا رافعًا صوته يقول:
وتلهيك عن دار الخلود مطاعم |
* |
ولذة نفس غيها غير نافع |
قال: فصاح عتبة صيحة فسقط مغشيًا عليه. وبكى القوم، ورفعنا الطعام وما ذاقوا منه والله لقمة واحدة»([48]).
وكان يدعو إلى الفقر التام، ولذا قال: «ما يسرني أن لي جميع ما حوت عليه البصرة من الأموال والثمرة بفلسين»([49]).
ولابد أنه كان كثير السهر والتهجد، إذ يروى أنه كان يصلي الغداة بوضوء العتمة طوال أربعين سنة([50]). ويفسر سلوكه هذا قوله: «فرق النوم بين المصلين وبين لذتهم في الصلاة، وبين الصائمين وبين لذتهم في الصيام»([51])، وكان كثيرًا ما يردد هذين البيتين:
ينام من شاء غفلة |
* |
والنوم كالموت فلا تتكل |
تنقطع الأعمال فيه كما |
* |
تنقطع الدنيا عن المنتقل |
فكرة المحبة عند عبد الواحد بن زيد:
ويبدو أن عبد الواحد بن زيد كان أول من نمى فكرة المحبة بين العبد والرب. فهو كثيرًا ما يردد هذا التعبير: المحبة –ومن ذلك قوله:
أ- «ما أحسب شيئًا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا؛ ولا أعلم درجة أرفع ولا أشرف من الرضا، وهي رأس المحبة».
ب- «من نوى الصبر على طاعة الله صبره الله عليها وقواه لها. ومن نوى الصبر عن معاصي الله أعانه الله على ذلك وعصمه منها… يا سيار([52])!أتراك تصبر لمحبته عن هواك فيخيب صبرك ؟ لقد أساء بسيده الظن من ظن به هذا وشبهه. قال: ثم بكى عبد الواحد حتى خفت أن يغشى عليه، ثم قال: أتأبى أنت يا مسمع([53])!نعمة غادية ورائحة على أهل معصية؛ فكيف ييأس من رحمته أهل محبته ؟ !»([54]).
ومن هنا كان عبد الواحد بن زيد هو الراوي للحديث القدسي التالي، عن الحسن (=البصري) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يقول الله تعالى: إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذته في ذكري. فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه، وصرت معالم بين عينيه، لا يسهو إذا سها الناس. أولئك الأبطال حقًّا. أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة وعذابًا ذكرتهم فصرفت ذلك عنهم».
وقد علق عليه أبو نعيم فقال: «كذا رواه عبد الواحد عن الحسن مرسلاً. وهذا الحديث خارج من جملة الأحاديث المراسيل المقبولة عن الحسن، لمكان محمد بن الفضل، وعبد الواحد وما يرجعان إليه من الضعف»([55]).
وهذا الحديث القدسي ينص صراحة على فكرة العشق الإلهي، وبلفظ العشق، لا المحبة([56]).
وكان عبد الواحد بن زيد يرى أن تلاوة «الشهادة»لا تفيد، إلا بفضل خاص من الله. قال([57])–وهو يروي عن الراهب الذي التقى به أن الراهب قال له: «يا هذا !كما لا يجوز الزيف من الدراهم، كذلك لا تجوز«لا إله إلا الله»إلا بنور الأخلاص».
5- محمد بن واسع([58]):
وآخر من نتحدث عنهم من أصحاب الحسن البصري: محمد بن واسع. وكان من كبار القراء ومن أفضلهم. قال مالك بن دينار: «القراء ثلاثة: فقارىء للرحمن، وقارىء للدنيا، وقارىء للملوك. ويا هؤلاء !محمد بن واسع عندي من قراء الرحمن»؛ وفي رواية أخرى، قال مالك بن دينار: «للأمراء قراء، وللأغنياء قراء، وإن محمد بن واسع من قراء الرحمن»([59]). وكان محمد بن واسع يقول: «القرآن بستان العارفين: فأينما حلوا منه حلوا في نزهة»([60]). ولهذا كان الحسن البصري يسميه «زين القراء».
وكان أيضًا من البكائين، حتى قيل: «إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى»([61]). ولكن بكاءه من النوع الهادىء المتكتم، ومدح هو جماعة بكاؤها من هذا النوع فقال: «لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس أقرانه على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه»([62]).
كذلك كان يعيب الطعام مع البكاء. وكان مع ذلك يأخذ على البكائين تقصيرهم في البكاء.
وكان شديد الإحساس بالذنوب، حتى قال: «لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنو مني من نتن ريحي»([63]). ويشعر بأنه «يرحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة»([64]).
ولهذا كان يدعو إلى مقت النفس في سبيل الله. وفي هذا يقول: «من مقت نفسه في ذات الله أمنه الله من مقته»([65]).
وهو من أولئك الذين أبوا أن يتولوا القضاء حين ما دعوا إلى ذلك، لأنهم يتحرجون من كل ما يتعلق بالسلطان. لما يلابسه من الجور. فعن ابن شوذب قال: «قسم أمير من أمراء البصرة على قراء أهل البصرة. فبعث إلى مالك بن دينار فقبل، وأبى محمد بن واسع، وقال: يا مالك !قبلت جوائز السلطان !فقال: يا أبا بكر !سل جلسائي. فقالوا: يا أبا بكر !اشتري بها رقابًا فأعتقهم. فقال له محمد (بن واسع): أنشدك الله !أقلبك الساعة له على ما كان عليه قبل أن يجيزك ؟ قال (مالك بن دينار): اللهم لا !قال (محمد بن واسع): ترى أي شىء دخل عليك !فقال مالك لجلسائه: إنما مالك حمار؛ إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع»([66]).
أما دعوته إلى القضاء فذلك أن مالك بن المنذر، وكان على شرطة البصرة، دعا محمد بن واسع ليجلس على القضاء. فأبى محمد بن واسع؛ فعاود مالك بن دينار العرض عليه، فاستمر ابن واسع على رفضه. فقال له مالك بن المنذر يهدده: لتجلسن على القضاء، أو لأجلدنك ثلثمائة جلدة. فقال له محمد بن واسع: «إن تفعل، فأنت مسلط. وإن ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة»([67]). وقد عاتبته زوجته على عدم قبوله منصب القضاء وقالت له: «لك عيال، وأنت محتاج»فأجابها: «ما دمت تريني أصبر على الخل والبقل، فلا تطمعي في هذا مني !»([68]).
ذلك أنه كان يرى أن ولاية القضاء قد تدعو إلى التجبر وظلم الناس. ولهذا روي أن محمد بن واسع دخل على بلال بن أبي بردة، وقال له: «يا بلال !إن أباك حدثني عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن في جهنم واديًا يقال له هبهب، حقًّا على الله أن يسكنه كل جبار. فإياك، يا بلال، أن تكون ممن يسكنه»([69]).
ودعاؤه يدل على ما قلناه من شدة إحساسه بالذنوب. فقد روى أنه كان يقول في دعائه: «أستغفرك من كل مقام سوء، ومقعد سوء، ومدخل سوء، ومخرج سوء، وعمل سوء، ونية سوء. أستغفر منه فأغفر لي، وأتوب إليك منه فتب علي»([70]).
ومن كلماته في بيان الخطايا الكبرى، قال: «أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مثافنة النساء وحديثهن، وملاحاة الأحمق: تقول له ويقول لك ، ومجالسة الموتى، قيل: وما مجالسة الموتى قال: مجالسة كل غني مترف وسلطان جائر»([71]).
وكان محمد بن واسع يصوم أغلب أيامه، ويخفي عن الناس ذلك (المرجع نفسه، جـ 2 ص 352). ذلك لأنه كان يرى أن «من قل طعامه فهم وأفهم، وصفا ورق؛ وإن كثرة الطعام لتثقل صاحبه عن كثير مما يريد (المرجع نفسه جـ 2 ص 351).
واشترك مع يزيد بن المهلب في غزو خراسان. وفي أثناء ذلك استأذن يزيد بن المهلب للحج، فأذن له؛ فقال ابن واسع أتأذن به للجيش كلهم ؟ فقال يزيد: لا. فقال ابن واسع: إذن لا حاجة لي بالحج !(المرجع نفسه جـ 2 ص 352). وهذا يدل على سخاوة نفس وإيثار بالغ، إذ لم يسمح لنفسه أن يرخص له وحده دون سائر إخوانه في الجهاد.
وهذا شاهد آخر على اشتراك الصوفية في الجهاد في أطراف بلاد الإسلام.
ويظهر أنه أقام مدة في خراسان، وذلك في عهد ولاية قتيبة بن مسلم كما يدل على ذلك خبر آخر يقول: «كان محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان صاحب خراسان. وكانت الترك خرجت إليهم، فبعث إلى المسجد ينظر من فيه. فقيل له: ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعًا أصبعه. فقال قتيبة: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف عنان»([72]).
المرجع : أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 188- 217) .
([8]) في «الأنساب» للسمعاني: السبخي: من ثقات التابعين، يروى عن حفص بن عاصم؛ روى عنه مالك بن أنس وحسبه شرفًا أن يروي عنه مالك، إذ كان لا يروي إلا عن الثقات العلماء الحفاظ» (ص 313ب س18-19).
([12]) هذا بعينه هو نص المزمور الأول من مزامير داوود، عبارة 1-3 في الكتاب المقدس: طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الاشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً؛ فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل؛ وكل ما يصنعه ينجح».
([14]) ورد بنصه تقريبًا في انجيل متى الأصحاح الحادي والعشرون، العبارات 12-13: «ودخل يسوع غلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. وقال لهم: مكتوب: بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». ونظيره في انجيل مرقص أصحاح 11 العبارات 15-17؛ وفي انجيل لوقا. أصحاح 19 العبارة 45-46.
([24]) بلال بن أبي بردة الأشعري تولى القضاء في البصرة كما تولى الشرطة والقضاء في سنة 110 وذلك بقرار من خالد بن عبد الله القسري والي العراق، واستمر على ذلك حتى عزل هشام بن عبد الملك خالدًا بن عبد الله سنة 120 وولى يوسف بن عمر؛ فعزل يوسف بلالا، وولى مكانه أبا القارح كثير بن عبد الله السلمي. وكان ظلومًا في قضائه. فشكاه خالد بن صفوان؛ فأمر يوسف بحمل بلال مقيدًا في الحديد، ثم هرب بلال إلى الشام واختفى به، وعتر به.بعد ذلك فأخذ وأرسل إلى يوسف بن عمر والي الكوفة فعذبه حتى قتله. راجع «أخبار القضاة» تأليف وكيع محمد بن خلف بن حيان، جـ 2 ص 21-41؛ القاهرة سنة 1947؛ شارل بلا: «بيئة البصرة وتكوين الجاحظ» ص 288، وما يتلوها.. Ch. Pellat: Le milieu basrien.قال الطبري (أخبار سنة 120 جـ 2 ص 1658): «كان بلال قد اتخذ دارًا بالكوفة. وإنما استأذن خالدًا لينظر إلى داره، فما نزلها إلا مقيدًا ثم جعلت سجنًا إلى اليوم».
([27]) «الحلية» جـ 2 ص 359-360. والئام (بكسر الفاء): الجماعة من الناس؛ ولا واحد له من لفظه؛ وجمعه: فؤم (بضم الفاء والهمزة على الواو).
([28]) الحس: برد يحرق الكلأ. وحواس الأرض: البرد والبرد والريح والجراد والمواشي –قيل لها ذلك لاستئصالها نبات الأرض. ويقال أيضًا: أصابتهم حاسة، وذلك إذا أضر البرد وغيره بالكلأ.
([47]) ابو نعيم: «حلية الأولياء» جـ 6 ص 159-160.
* راجع عن صالح المري: «حلية الأولياء»لأبي نعيم جـ 6 ص 165-177؛ وعن عتبة بن الغلام: «الحلية»جـ 6 ص 226-239.
([56]) يرى ماسينيون («بحث في أصول المطلح الفني»… ص 214) أن العشق يدل على الرغبة، بينما المحبة تدل على تمام الحب!.
([57]) ابن عربي: «محاضرات الأبرار» جـ 2 ص 202، القاهرة سنة 1305 –في خبر عبد الواحد بن زيد مع الراهب.
* في الحديث: «إن في جهنم واديًا يقال هل هبهب، يسكنه الجبارون» (لسان العرب جـ 2 ص 277، تحت مادة: هبب). والهبهب: السريع .