لعل أول شخصية بارزة في الزهد نعثر عليها في الإسلام هي شخصية الحسن البصري (ت 110 هـ)، الذي يعد من أنبل وأعظم الشخصيات الدينية في تاريخ الإسلام، «وكان الحسن جامعًا عالمًا عاليًا رفيعًا فقيهًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا، كبير العلم، فصيحًا جميلاً وسيمًا»([1]). ولهذا كان رفيع المنزلة في عصره سواء بين الساسة (الأمويين) وبين العلماء. وكان واعظًا من الطراز الأول، ولهذا لا يخلو أي كتاب من كتب الأدب من اقتباسات من كلامه ومواعظه.
ولا تخفى شهرة الإمام أبى الحسن البصرى فى عالم الطرق الصوفى، حيث تنتهى إليه كثير من سلاسل الطرق إن لم يكن أكثرها، ومن هنا اكتسب هذا التأثير الواسع فى التصوف الإسلامى ، ولأجل هذا التأثير لا بد له من حديث يناسبه ويوضحه ويجلى شيئا من معالمه. بل نظرا لهذه المكانة الواسعة للحسن البصرى ومدرسته ، سنخصه هو بحديث مستقل فى هذا الموضوع، كما سنفرد لمدرسته وتلاميذه حديثا خاصا بهم (راجع: @الطريق الصوفى فى القرن الأول ودور مدرسة الحسن البصرى وتلاميذه فيه@).
حياته:
وأبوه كان اسمه الأصلي بيروز، مما يؤذن بأنه كان إيرانيًا. ثم سبي في ميسان([2]) لما سقطت هذه الناحية التي كانت تقع في أسفل البصرة –في أيدي المسلمين لدى فتح العراق. ونقل من بين الأسرى إلى المدينة المنورة. ويقال : إن أم الحسن كانت مولاة لأم سلمة، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمها خيرة. وهنا «يذكرون أن أمه كانت ربما غابت، فيبكي الصبي، فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجىء أمه. فدر عليها ثديها فشربه. فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك»(«طبقات ابن سعد» جـ7 ص157؛ ونقله ابن خلكان جـ1ص 354، القاهرة سنة 1948م).ويرى الدكتور عبد الرحمن بدوى أن هذه الرواية غير صحيحة، لأن أم سلمة، زوجة النبي، لم تلد فكيف لها أن يدر ثديها لبنا ؟ ! لقد اخترع هذا الخبر لتفسير مصدر فصاحة الحسن؛ ولكنه غير معقول، لا هو ولا ما أضافه العطار([3]).
وكان مولد الحسن البصري في المدينة في سنة 21هـ أو سنة 22هـ (سنة 642م / 643م)، والأرجح هو التاريخ الثاني لأنه» كان للحسن يوم قتل عثمان –رضي الله عنه- أربع عشرة سنة».
ونشأ الحسن بوادي القرى. ثم عاد إلى المدينة المنورة في سنة 37هـ. ثم غادرها سنة 38هـ إلى البصرة. واشترك الحسن طوال ثلاث سنين في غزو كابل الأندقان والأندغان وزابلستان وكلها في شرقي إيران. وذلك في سنة 43هـ (سنة 663م) وكان كاتبًا للبديع بن زياد الحارثي بخراسان([4]). وبعد ذلك عاد إلى البصرة واستقر بها.
وتولى القضاء فكان «لا يأخذ على قضائه أجرًا» («طبقات» ابن سعد جـ7 ص 172) ثم استعفى.
أما موقفه السياسي فكان موقف المتباعد عن السياسة واضطراباتها، خصوصًا وقد عاش في عصر الحجاج بما عرف عنه من بطش شديد. فلما قام ابن الأشعث بثورته المشهورة في سنة 81هـ ضد الأمويين ممثلين في الحجاج، وانبى الحجاج لقتاله وإخماد فتنته، دعا بعض الناس الحسن إلى الاشتراك معهم في صف ابن الأشعث، وقالوا له في شأن الحجاج: «يا أبا سعيد !ما تقول في قتال هذا الطاغية) = الحجاج) الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل ؟ ... وذكروا من فعل الحجاج… فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم؛ وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين»([5]).
وكان الحسن البصري ينهى عن الخروج على الحجاج ويأمر بالكف عن الثورة ضده، ويدعو إلى مقابلة مظالم الحجاج بالسكينة والتضرع. وهو يفسر موقفه في موضع آخر. وذلك أنه «قيل للحسن (البصري): ألا تدخل على الأمراء، فتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر ؟ قال (الحسن): ليس للمؤمن أن يذل نفسه. إن سيوفهم لتسبق ألسنتنا: إذا تكلمنا قالوا بسيوفهم هكذا –ووصف لنا بيده ضربًا»([6]). فهو يعلم إذن أنه لا حيلة لصاحب الرأي أمام سيف الطغاة. إنهم لا يقابلون الحجة بالحجة، بل بالسيف والقهر والبطش والعذاب. وحين سئل عن رأيه في الموقف الذي ينبغي للمسلم أن يقفه من الفتنة، مثل فتنة يزيد بن المهلب وفتنة ابن الأشعث، كان يقول: لا تكن مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء.
وظل على تلك الحال من تجنب الخلفاء والولاة حتى كان عهد عمر بن عبد العزيز (سنة 99-101) أعدل خلفاء بني أمية وأشبه الخلفاء بعمر بن الخطاب فعدل عن سياسة تجنب الخلفاء؛ ويظهر أن عمر بن عبد العزيز هو نفسه الذي بدأ بالاتصال به، وكان الحسن البصري آنذاك في أوج مكانته الدينية والعلمية والاجتماعية. وهنا نلتقي بعدد كبير من الرسائل التي كتب بها الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز يعظه وينصحه، وقد أورد قسمًا كبيرًا منها ابن الجوزي في كتابه: «سيرة عمر بن عبد العزيز»وكتابه عن «الحسن البصري»([7])-نذكر منها ما يلىي:
1- رسالة في صفة الإمام العادل («سيرة عمر بن عبد العزيز»ص 121)
2- رسالة في ذم الدنيا (ابن الجوزي: «الحسن البصري»ص 54)
3- رسالة صغيرة في وعظ عمر (ابن الجوزي: «الحسن البصري»ص 55)
4- رسالة صغيرة في وعظ عمر («ابن الجوزي: «الحسن البصري»ص 56)
5- رسالة صغيرة في وعظ عمر («ابن الجوزي: «الحسن البصري»ص 54)
6- رسالة صغيرة في وعظ عمر (ابن الجوزي: «سيرة عمر بن عبدالعزيز» ص 124)
7- رسالة صغيرة في وعظ عمر ( ابن الجوزي: «سيرة عمر بن عبد العزيز»ص 124)
8- رسالة صغيرة في وعظ عمر (ابن الجوزي: «سيرة عمر بن عبد العزيز» ص 124)
9- رسالة صغيرة في وعظ عمر (ابن الجوزي: «سيرة عمر بن عبد العزيز» ص 126)
10-رسالة صغيرة في وعظ عمر (ابن الجوزي: »عمر بن عبد العزيز» ص 126)
11- رسالة صغيرة إلى عمر يعزيه في ابنه عبد الملك (العقد الفريد جـ2 ص 33)
12- رسالة طويلة إلى عمر بن عبد العزيز في الزهد (أبو نعيم: «حلية الأولياء» جـ2 ص134-140)
لكن الأهم من هذه الرسائل هو مواعظه([8]). ونجد منها مختارات في:
- أبو نعيم: «حلية الأولياء» جـ2 ص132-134ـ ص 140-159
- الجاحظ: «البيان والتبيين» - انظر فهرسه ، الجاحظ: «الحيوان»- انظر فهرسه
- المبرد: «الكامل»- انظر فهرسه
4- ابن قتيبة: «عيون الأخبار»- انظر فهرسه
5-العطار: «تذكرة الأولياء»جـ1 ص24-40 نشرة نكلسون؛ الترجمة العربية ص 5-13.
6- الهجويري: «كشف المحجوب»، ترجمة نيكلسون الانجليزية ص 86 وما يليها
7-ابن الجوزي: «آداب الحسن البصري» ص 50 وما يتلوها ؛ القاهرة سنة 1931.
8- «أمالي» السيد المرتضى
9- «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد
10- ابن عبد ربه: «العقد الفريد»
11- الحصري: «زهر الآداب»
ويذكر ابن النديم «الفهرست»ص 34 س1 – س2) الحسن البصري تفسيرًا للقرآن. وهو مفقود.
وهو في رسائله تلك إلى عمر بن عبد العزيز يكتفي بالنصح العام، دون أن يتخذ موقفًا معينًا من الأحداث الجارية أو الأشخاص. وشعاره: لا خروج، ولا كتمان –أي لا تمرد على أولي الأمر، ولا كتمان للرأي فيما يفعلون والحكم على ما يأتون.
لهذا نراه يدعو أهل البصرة إلى الطاعة للأمويين، ولكنه في الوقت نفسه ينقد الخلفاء الأمويين بلا هوادة ولا استخفاء. وفى الوقت نفسه لما قام يزيد بن المهلب في سنة 102هـ بثورته على الأمويين، كان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب ويقول للذي يريدون الخروج معه: «أيها الناس !الزموا رحالكم، وكفوا أيديدكم واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضًا على دنيا زائلة وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض. إنه لم يكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء؛ وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقي. فمن كان منكم خفيًا فليلزم الحق، وليحبس نفسه شرفًا، وكفى له به من الدنيا خلفًا. ومن كان منكم معروفًا شريفًا فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك. فواهًا لهذا ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله !–فهذا غدًا- يعني يوم القيامة- القرير عينًا، الكريم عند الله مآبًا»([9]).
وكان طبيعيًا أن يتهم الحسن بعد ذلك بالمراءاة من جانب أصحاب الثورة. إذ قام مروان بن المهلب خطيبًا لما بلغه ما قاله الحسن البصري، فأمر الناس بالجد والاحتشاد. ثم قال لهم: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي –ولم يسمه- يثبط الناس. والله لو أن جاره نزع من خص دراه قصبة لظل يرعف أنفه. أينكر علينا وعلى أهل عصرنا أن نطلب خيرنا، وأن ننكر مظلمتنا ؟ !أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إليها من سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة قومًا ليسوا من أنفسنا ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا –أو لأنحين عليه مبردًا خشنًا. –فلما بلغ ذلك الحسن قال: واللله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه. فقال له ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك. فقال لهم: فقد خالفتكم إذًا إلى ما نهيتكم عنه، أأمركم ألا يقتل بعضكم بعضًا مع غيري، وأدعوكم إلا أن يقتل بعضكم بعضًا دوني ؟ !»([10]).
فهو إذن كان يدعو إلى السلام والوفاق بين المسلمين. وعدم التمرد والفتنة، لأنه يرى أن ذلك كله صراع على دنيا تافهة لا تستحق أبدًا أن يقتل المسلم أخاه المسلم من أجلها. ويظهر أنه كان لكلامه آنذالك في البصرة وقع عظيم، فلم ينضم إلى يزيد بن المهلب غير قلة قليلة، وكان بعد ذلك أن التقى جيش الشام بقيادة مسلمة بن عبد الله ضد جيش ابن المهلب، فقتل ابن المهلب فى سنة 102هـ.
أما مواعظه فيبدو أنها جمعت في وقت مبكر، إبان حياته أو بعد وفاته بقليل، كما يدل على ذلك خبر في «البيان والتبيين»للجاحظ([11]). وكانت تعد نموذجًا عاليًا في الفصاحة. إذ كان من المشهور أن الحسن البصري والحجاج كانا أفصح الناس في عهدهما. قال عمرو بن العلاء: لم أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج. ولما سئل عن أفصحهما، أجاب: الحسن([12]). واعترف الحجاج نفسه بهذا، فكان يقول: «أخطب الناس صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة، إذا شاء خطب وإذا شاء سكت –يعني الحسن([13]) البصري».
ويغلب على هذه المواعظ ما يلي:
1- ذم الدنيا مثل قوله: «يا ابن آدم !بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا… الثواء هاهنا قليل والبقاء هناك موبل»([14])، «احذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة: العيون إليها نافذة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، ولألبابها دافعة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، والعارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر. فأبت القلوب لها إلا صبًّا ، وأبت النفوس بها إلا ضنًا. وما هذا منا لها إلا عشقًا؛ ومن عشق شيئًا لم يعقل غيره، ومات في طلبه ولم يظفر به، فهما عاشقان طالبان له: فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد فشغل بها لبه، وذهل فيها عقله حتى زلت عنها قدمه وجاءته –أسر ما كانت له- منيته، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته، واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرة الموت بغصته، غير موصوف ما نزل به؛ وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته، فذهب بكربه وغمه ولم يدرك منها ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب. خرجا جميعًا بغير زاد، وقدما على غير مهاد. فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل. فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يعجبك منها، وضع عنك همومها لما عاينت من فجائعها وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه؛ وكلما ظفر بشىء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به. فالسارى فيها غار. والنافع فيها غدًا ضار. وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن. فانظر إليها نظر الزاهد المفارق لا الآمن. لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آت فيها فينتظر فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة. عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر: إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما منية قاضية، فلقد كدرت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر، ومن البلوى على حذر، ومن المنايا على يقين. فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر، ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد –لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافلز فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها واعظ !فما لها عند الله –عز وجل- قدرن ولا لها عند الله تعالى وزن من الضغر؛ ولا تزن عند الله مقدالر حصاة من الحصا؛ ولا مقدار ثراة في جميع الثرى ولا خلق خلقًا –فيما بلغت، أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتًا لها. ولقد عرضت على نبينا –صلى الله عليه وسلم !- بمفاتيحها وخزائنها- ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة- فأبى أن يقبلها. وما منعه من القبول لها، ولا ينقصه عند الله شىء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئًا فابغضه، وصغر شيئًا فصغره، ووضع شيئًا فوضعه. ولو قبلها، كان الدليل على حبه إياها قبولها. ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه. ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثوبًا للمطيعين، وأن يجعل عقوبتها عذابًا للعاصين، فأخرج ثواب الطاعة منها، وأخرج عقوبة المعصية عنها»([15]).
وسيكون موضوع ذم الدنيا والتحذير منها وبيان هوانها من الموضوعات الرئيسية عن الصوفية. وفي هذا الذم يستشهد الحسن البصري بالقرآن كما رأينا.
2- ويرتبط بذم الدنيا الدعوة إلى التقليل منها ومن متعها إلى أقل درجة، وذلك بالفقر والزهد والتقشف. ويسوق لبيان ذلك نماذج من سير الأنبياء: «فأما محمد صلى الله عليه وسلم فشد الحجر على بطنه من الجوع؛ وأما موسى عليه السلام فرؤيت خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، ما سأل الله تعالى، يوم أوى إلى الظل- إلا طعامًا يأكله من جوعه. ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه أن: يا موسى !إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحبًا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل: ذنب عجلت عقوبته. –وإن شئت ثلثت بصاحب الروح والكلمة
(= عيسى بن مريم) ففي أمره عجيبة. كان يقول: أدمي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، دابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبت الأرض للسباع والأنعام. أبيت وليس لي شىء، وليس أحد أغنى مني. –ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام، فليس دونهم في العجب: يأكل خبر الشعير في خصته، ويطعم أهله الخشكار([16])والناس الدرمك. فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد إلى العنق وبات باكيًا حتى يصبح؛ يأكل الخشن من الطعام، ويلبس الشعر من الثياب…ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم، وأخذوا بآثارهم، وألزموا الكد والعبر وألطفوا التفكر، وصبروا في مدة الأجل القصير»([17]). كذلك يذكر أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم «لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة»([18]).
3- وتتردد هذه الدعوة إلى الزهد في موعظة بعث بها الحسن إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز لما كتب هذا إليه: «عظني وأوجز»فكتب الحسن إليه: «أما بعد !فإن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يدك: الزهد في الدنيا. وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار. فإذا أنت تفكرت في الدنيا لم تجدها أهلا أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلاً أن تكرمها بهوان الدنيا، فإنما الدنيا دار البلاء، ومنزل غفلة»([19]).
4- الدعوة إلى محاسبة النفس والشعور العميق بالمسئولية –كما في قوله: «يا ابن آدم !اذكر قوله: +وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُمَنْشُورًا=١٣-اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا_[الإسراء:13-14]. عدل، والله، عليك من جعلك حسيب نفسك… أعدوا الجواب، فإنكم مسئولون. المؤمن من لم يأخذ دينه عن رأيه ولكنه أخذه من قبل ربه»([20]).
ويرى أن تكون هذه المحاسبة بالرجوع إلى كتاب الله ومراجعة ما فيه مع ما يفعله الإنسان. قال الحسن: «رحم الله رجلاً خلا بكتاب الله، فعرض عليه نفسه؛ فإن وافقه حمد ربه، وسأله الزيادة من فضله. وأن خالفه، أعتب وأناب، وراجع من قريب»([21]).
5- وعلى الإنسان أن يبدأ بإصلا ح نفسه قبل أن يأمر بإصلا ح عيوب الآخرين. قال الحسن: «لا يستحق أحد حقيقة الإيمان، حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه ؛ ولا يأمر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك في نفسه؛ فإنه إذا فعل ذلك لم يصلح عيبًا إلا وجد في نفسه عيبًا آخر ينبغي له أن يصلحه. فإذا فعل ذلك شغل بخاصة نفسه عن عيب غيره. وانك ناظر إلى عملك بوزن خيره وشره، فلا تحقرن شيئًا من الخير وإن صغر، فإنك إذا رأيته سرك مكانه؛ ولا تحقرن شيئًا من الشر وإن صغر، فإنك إذا رأيته ساءك مكانه»([22]).
6- وحين كان يعترض عليه أحد من الولاة أو سائر الناس بأن الله لم يحرم على الناس التمتع بنعيم الدنيا- كان الحسن يجيب على ذلك بحمية وغضب، لما يرى في تفسير كلام الله هذا التفسير من خروج على روح الدين.
ومن ذلك ما رواه ابن الجوزي فقالك «وأحضر النضر بن عمرو –وكان واليًا على البصرة الحسن البصري يومًا، فقال (له): يا أبا سعيد !إن الله عز وجل- خلق الدنيا وما فيها من رياشها وبهجتها وزينتها لعباده. وقال عز وجل: +كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ_([23])[الأعراف:31]. وقال –عز من قائل: +قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا_([24])[الأعراف:32]؟
فقال الحسن: «أيها الرجل !اتق الله في نفسك. وإياك والأماني التي ترجحت([25]) فيها فتهلك. إن أحدًا لم يعط خيرًا من خير الدنيا ولا من خير الآخرة بأمنية. وإنما هي داران: من عمل في هذه أدرك تلك، ونال في هذه ما قدر له منها. ومن أهمل نفسه خسرهما جميعًا. إن الله سبحانه اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم- لنفسه، وبعثه برسالته ورحمته، وجعله رسولاً إلى كافة خلقة، وأنزل عليه كتابًا مهيمنًا، وحد له في الدنيا حدودًا، وجعل له فيها أجلاً؛ ثم قال عز وجل: +لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ_([26])[الأحزاب:21]. وأمرنا أن نأخذ بأمره ونهتدي بهديه وأن نسلك طريقته ونعمل بسنته. فما بلغنا إليه فبفضله ورحمته؛ وما قصرنا عنه فعلينا أن نستعين ونستغفر. فذلك باب مخرجنا، فأما الأماني فلا خير فيها ولا في أحد من أهلها».
فقال نضر: «والله يا أبا سعيد إنا على ما فينا لنحب ربنا».
فقال الحسن: «قد قال ذلك قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى عليه:+قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ_([27])[آل عمران:31]. فجعل سبحانه اتباعه صلى الله عليه وسلم علمًا للمحبة؛ وأكذب من خالف ذلك. فاتق الله، أيها الرجل، في نفسك. وأيم الله، لقد رأيت أقوامًا كانوا قبلك في مكانك يعلون المنابر وتهتز لهم المراكب، ويجرون الذيول بطرًا ورياء الناس. يبنون المدر ويؤثرون الأثر([28])، ويتنافسون في الثياب –أخرجوا من سلطانهم. وسلبوا ما جمعوا من دنياهم، وقدموا على ربهم، ونزلوا على أعمالهم. فالويل لهم يوم التغابن([29]). ويا ويحهم ! +يَوْمَ([30])يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ=٣٤-وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ=٣٥-وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ=٣٦-لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ_[عبس:34-37]([31]).
وهنا يلاحظ أن الحسن البصري يرد على الاحتجاج بالآيات القرآنية –بإيراد نموذج حياة النبي؛ وكأنه رأى أن القرآن «حمال أوجه»كما قال الإمام على بن أبي طالب، ولهذا يحسن تفسيره بالسنة النبوية، كما أن في كلامه هنا دعوة –لعلها الأولى- إلى الاقتداء بالنبي.
7- وقد طبق الحسن هذا الزهد تطبيقًا عمليًّا صريحًا حين زهد في المناصب. والشاهد البارز على هذا موقفه حين ولي عدي بن أرطاة البصرة فعزم على أن يولي الحسن البصري القضاء فهرب الحسن واستتر، وكتب إلى عدي ما يلي:
«أما بعد !أيها الأمير !فإن الكاره غير جدير بقضاء الواجب فيه؛ وإن العامل للعمل بغير نية حقيق أن لا يعان عليه. ولك في المختارين للأمر الذي دعوتني إليه كفاية وقناعة. وقصدك إياهم وتعويلك عليهم أولى بك وأصون لعملك، فإنه لا خير في الاستعانة بمن لا يرى أن العمل الذي يدعى إليه واجب عليه وفرض لازم له. فعافني، أيها الأمير، عافاك الله. وأحسن إلي بترك التعرض لي، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً».
فعافاه عدي وأكرمه، وقال: «والله ما كنت لأبتليه بما يكرهه»([32]).
وهذا يدل على إخلاص الحسن في الدنيا وفي صدقه في دعوته الناس إلى ذلك. خصوصًا وهذا المنصب كان أرفع ما يطمع فيه العالم الفقيه من مناصب الإدارة.
8- ثم نراه في هذه المواعظ يحدد أخلاق المؤمن الصادق:
فيحدد خصائص أهل التقوى فيقول: إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الخلق مما يقرب إلى الله عز وجل»([33]).
ويحدد الخلال الرئيسية التي بها ينجو المؤمن: قال: «من كانت له أربع خلال حرمه الله على النار، وأعاذه من الشيطان: من يملك نفسه عند الرغبة، والرهبة، وعند الشهوة، وعند الغضب»([34]).
ومنها في وصف الذين سينالون الجنة: «قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة؛ حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة: صبروا أيامًا قصارًا تعقب راحة طويلة؛ أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا، ربنا !وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء، كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا –ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم»([35]).
ويعرف الإسلام فيقول: «الإسلام، وما الإسلام ؟ السر والعلانية فيه مشتبهة، وأن يسلم قلبك لله، وأن يسلم منك كل مسلك وكل ذي عهد»([36]).
وأما المؤمن فيقول: «المؤمن من يعلم أن ما قال الله –عز وجل- كما قال. المؤمن أحسن الناس عملاً وأشد الناس خوفًا: لو انفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين. لا يزداد صلاحًا وبرًا وعبادة إلا ازداد فرقًا، يقول: لا أنجو. والمنافق يقول: سواد الناس كثير، وسيغفر لي ولا بأس علي، فينسى العمل ويتمنى على الله تعالى»([37]).
ويعرف الإيمان فيقول إنه : «الصبر والسماحة…الصبر عن معصية الله، والسماحة بأداء فرائض الله عز وجل»([38]).
ويقسم الناس إلى ثلاثة: «مؤمن، وكافر، ومنافق، فأما المؤمن فقد ألجمه الخوف، وقومه ذكر العرض([39]). وأما الكافر فقد قمعه السيف، وشرده الخوف، فأذعن بالجزية وسمع بالضريبة. وأما المنافق ففي الحجرات والطرقات يسرون غير ما يعلنون، ويضمرون غير ما يظهرون»([40]).
9- ويتخذ من هذه الموضوعات الثلاثة: الموت، والمرض، والفقر –موضوعات أساسية للترهيب. وقد قال([41]): «لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر».
أ) فمن كلامه عن الموت: «فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحًا([42])».
ب) وأما كلامه في الفقر فلا يجخل تحت حصر وقد أوردنا بعضه من قبل. ونضيف إليه قوله: «رحم الله رجلا لبس خلقًا، وأكل كسرة، ولصق بالأرض، وبكى على الخطيئة، ودأب في العبادة»([43])، وتكاد هذه العبارة أن تكون برنامجًا كاملاً للزاهد الصادق.
10- ويشبه الدنيا بأنها حلم فيقول: «والدنيا… حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام»([44])، وهذا التشبيه سيشتهر كثيرًا، وسيجعله كالدرون (1600- 1681) –المؤلف المسرحي الأسباني الشهير –عنوانًا لأحدى مسرحياته La Vidaes sueno.
والواقع أن للحسن البصري في كلامه ومواعظه تشبيهات أدبية رائعة، مثل قوله أيضًا: «إنما أنت، أيها الإنسان، عدد، فإذا مضى لك يوم فقد مضى بعضك»([45]). وقوله: «واجعل الدنيا كالقنطرة: تجوز عليها، ولا تعمرها»([46]). وقوله: «يا ابن آدم !نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمك. وكذلك ليلك»([47]).
فهذه التشبيهات تنطوي على صور عينية حية من شأنها أن تزيد في وقع الموعظة في النفوس.
ولهذا فإن مواعظ الحسن البصري تعد من النماذج العليا في البلاغة العربية.
أحواله النفسية:
وكان الغالب على نفسية الحسن البصري الميل إلى الحزن والهم. وله في هذا عبارات كثيرة تبرر اتخاذه الحزن مزاجًا سائدًا. منها قوله: «إن المؤمن يصبح حزينًا، ويمسي حزينًا، ولا يسعه غير ذلك لأنه بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقى لا يدري ما يصيب فيه من المهالك»([48]).
«وعن أبي حزم قال: سمعت الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: ما يسع المؤمن في دينه إلا الحزن».
وقال أيضًا: «يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده –أن يطول حزنه».
وقال أيضًا: «طول الحزن في الدنيا تلقيح العمل الصالح».
–وقال: «والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل، وإلا نصب وإلا ذاب وتعب».
وفي نفس المعنى قال أيضًا: «والله يا ابن آدم !لئن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك».
فدواعي الحزن عنده هي حال الإنسان: إذ الانسان بين خوف من سوء عمله، ورهبة من أجله، وتحسر على ما فرط فيه في جنب الله، وخشية من سوء منقلبه. فمن ذا الذي يطمئن إلى أنه يعمل صالحًا، ويخشى الله في الناس، ويؤدي ما عليه من حقوق الرعاية لله ؟ !إن الإنسان يمضي عمره في الخوف والقشعريرة، فأنى له إذن بالفرح والسرور !ثم إن الدنيا غدارة قتالة خداعة، واللبيب من حذرها؛ والحذر مدعاة القلق: والقلق يؤدي إلى الحزن.
فالمرء المؤمن هو بالضرورة في قلق دائم، وحزن مستمر. وسئل مرة: ما يبكيك ؟ فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي. لهذا كان قلب الحسن البصري –وهو المخلص فى سلوكه- محزونًا دائمًا، حتى قيل عنه: «ما كنا نراه إلا كأنه حديث عهد بمصيبة»([49]). وكان يرى أن «كثرة الضحك تميت القلب»([50]).
وهذا المسلك سيأخذه عنه كبار الصوفية والزهاد في القرن الثاني الهجري، الذي يعتبر بحق عصر البكائين –مثل عبد الواحد بن زيد وعطاء بن رباح القيسي، وهشام بن حسان الفردوسي (المتوفى سنة 148هـ) الذي جمع روايات الحسن البصري، وعبد العزيز بن سليمان الراسي (المتوفى سنة 150هـ).
وسيصبح باب الحزن من الأبواب الرئيسية في كتب التصوف، على أساس أن «الحزن من أوصاف أهل السلوك»([51]). ويؤيد الصوفية ذلك بحديث نبوي يقول: «إن الله تعالى يحب كل قلب حزين»، كما يروون أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة»؛ بل يزعمون أنه ورد في التوراة أنه «إذا أحب الله عبدًا جعل في قلبه مزمارًا». وأن السلف كانو يقولون «إن على كل شىء زاكاة، وزكاة العقل طول الحزن» (المرجع نفسه ص 71).
وكان الحسن البصري «يخلو مع أخوانه وأتباعه من النساك والعباد في بيته، مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، ومحمد بن واسع، وفرقد السبخي، وعبد الواحد بن زيد فيقول: هاتوا انشروا النور فيتكلم عليهم في هذا العلم من علم اليقين والقدرة وفي خواطر القلوب وفساد الأعمال ووسواس النفوس»([52]).
النزعة العقلية في التفسير عند الحسن البصري:
وقد أبرز ماسينيون النزعة العقلية البارزة في تفسير الحسن البصري للقرآن. وأيد ذلك بشواهد من تفسيره مما ورد في ثنايا كتب التفسير:
- ومن ذلك تفنيد الحسن للأساطير التي حيكت حول أبناء آدم الأول.
2- وملاحظاته الخاصة بإبراهيم الخليل، من القول بأن الذبيح هو إسحق لا إسماعيل([53]).
3- وملاحظاته عن هاروت وماروت وقوله إنهما لم يكونا ملكين هبطا بابل، بل كانا أميرين من العلجان([54])، أي من غير العرب.
4- لكن على الرغم من هذه الروح النقدية فقد كان الحسن ذا نزعة واقعية راسخة فيما يتعلق ببعض النقط المهمة، مثل رؤية الله حين الإسراء إذ يؤكد –ولا يشاركه في هذا الرأي غير ابن عباس –وحده تقريبًا – أن النبي محمدًا رأى الله تعالى (لا الملك) حينما أسري به إلى السماء([55]). وقرر أيضًا أن الأبرار سيرون ربهم في الجنة، «بلا إحاطة»([56]). ولو أدرك المؤمنون أنهم لن يروا الله في الآخرة، لماتت قلوبهم حزنًا في هذه الدار.
وإذا فحصنا أقوال ماسينيون هذه وجدنا أن ثم عدم تدقيق فيما يقول:
1- ففيما يتعلق بالذبيح من ولدي إبراهيم نجد في الطبري عكس ذلك، فقال في تفسير الآية 103 من سورة الصافات: +فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ_[الصَّفات:103]وهو يورد أقوال القائلين بأن الذبيح هو اسماعيل، بعد أن أورد أقوال من قالوا إنه إسحق:
«حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن اسحق، عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد، عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك: أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم: إسماعيل»([57]).
فلسنا ندري من أين استقى ماسينيون قوله ذلك وهو أن الحسن البصري كان يرى أن الذبيح هو إسحق، لا إسماعيل!
وقد شارك الحسن في هذا الرأي عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعامر ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي، بينما قال بأن الذبيح هو إسحق: ابن عباس أيضًا (أي أنه نسب إليه القول بكلا الرأيين) وعبد الله بن مسعود وكعب الأحبار. وقد رجح الطبري الرأي الأخير فقال: وأولى القولين بالصواب في المفدي من ابني إبراهيم خليل الرحمن. على ظاهر التنزيل، قول من قال هو إسحق، لأن الله قال: +وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ_[الصَّفات:107]فذكر أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدًا صالحًا من الصالحين، فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ_[الصَّفات:100]فإن كان المفدي بالذبح من ابنيه هو المبشر به، وكان الله –تبارك اسمه - قد بين في كتابه أن الذي بشر به هو إسحق، ومن ورء إسحق: يعقوب، فقال جل ثناؤه: +وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ_[هود:71] وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معنى به إسحق –كان بينًا أن تبشيره إياه بقوله+فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ_[الصَّفات:101] في هذا الموضع نحو سائر إخباره في غيره من آيات القرآن»([58]).
2- أما فيما يتعلق بهاروت وماروت، فلم نجد في الطبري –وإليه يشير ماسينيون –أي رأي للحسن البصري في أمرهما، رغم وفرة كلام وروايات الطبري في تفسير هذه الآية رقم 102 من سورة البقرة، وخصوصًا ما ورد من الأخبار في بيان حقيقة هذين الملكين([59]). فهو يورد عن ابن عباس وابن مسعود أنهما ملكان اختارهما الملائكة من بين أنفسهم وأهبطا إلى الأرض، فوقعا في الخطيئة. وقريب من هذا أيضًا قول كعب الأحبار ومجاهد. ولم يورد رأيًا للحسن البصري في هذا الموضوع.
الإمام العادل في نظر الحسن البصري:
وقد قدم الحسن البصري صورة للإمام العادل في رسالته التي كتبها إلى عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة سنة 99هـ، فقال:
«اعلم، يا أمير المؤمنين !أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة([60]) كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف.
والإمام العادل، يا أمير المؤمنين، كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع النهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر([61]).
والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا، ويعلمهم كبارًا. يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته.
والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها: حملته كرهًا، ووضعته كرهًا، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته.
والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين: يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم.
والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالقلب بين الجوانح: تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده.
والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، ونظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن، يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله.
واعلم، يا أمير المؤمنين، أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها ؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم ؟
واذكر، يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه: فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم، يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويسلمونك في قعره فريدًا وحيدًا. فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. وأذكر، يا أمير المؤمنين، إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور: فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فالآن، يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل –لا تحكم، يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ([62]) ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك، وأثقالاً مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم. إني، يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهي من قبلي، فلم([63]) آلك شفقة ونصحك. فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»([64]).
والمعاني الرئيسية في هذه الرسالة هي:-
1- أن أهم صفة في الإمام هي العدل. ولكنه عدل ممزوج بالرحمة الأبوية.
2- وأن أولى الناس باتباع حدود الله هو الإمام، لأنه إن لم يتبعها، فأجدر بالرعية ألا يتبعوها؛
3- وأن الإمام هو المنفذ للقصاص، فلا يحق له أن يقتل أحدًا بغير حق؛ وإن في القصاص حياة، فكيف يقضي على الحياة من وكل إليه أمر توفير الحياة ؟ !
4- أن صلاح الرعية بصلاح الإمام وفسادها بفساده؛ فمسئوليته عن أفعاله هي في الوقت نفسه مسئوليته عن أفعال كل رعيته. فما أعظم مسئوليته إذن !
5- وتظهر هذه المسئولية خصوصًا في تعيين الولاة، فما يرتكبه ولاة الإمام وعماله الإمام هو أول مسئول عنها. ولهذا يجب على الإمام ألا يسلط المستكبرين على المستضعفين، لأن المتكبرين لا يرعون الحرمات ولا يراقبون الله في أعمالهم وأحكامهم. فإذا عين الإمام واحدًا من هؤلاء، فقد تحمل مع أوزاره الخاصة أوزارهم.
وكان الحسن يتطلب في الحاكم العادل الزهادة التامة. ويقدم لذلك مثل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «لما بعث الله –عز وجل- محمدًا صلى الله عليه وسلم يعرفون وجهه ويعرفون نسبه قال: هذا نبي، هذا خياري. خذوا من سنته وسبيله. أما والله ما كان يغدي عليه بالجفان ولا يراح، ولا يغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحجبة: كان يجلس بالأرض ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار ويردف خلفه. وكان يلعق يده». وكان يقول أيضًا في الزراية على الولاة المعاصرين له: «ما أكثر الراغبين عن سنة نبي الله –صلى الله عليه وسلم- وما أكثر التاركين لها !ثم إن علوجًا فساقًا أكلة ربا وغلول، قد شغلهم ربي –عز وجل- ومقتهم. زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا وستروا البيوت وزخرفوها، ويقولون +قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ_([65])[الأعراف:32] ويذهبون بها إلى غير ما ذهب الله بها إليه. إنما جعل الله ذلك لأولياء الشيطان. الزينة ما ركب ظهره، والطيبات ما جعل الله تعالى في بطونها، فيعمد أحدهم إلى نعمة الله عليه فيجعلها ملاعب لبطنه وفرجه وظهره. ولو شاء الله - إذ أعطى العباد ما أعطاهم- أباح ذلك لهم، ولكن تعقبها بما يسعون: +وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ_([66])[الأعراف:31] فمن أخذ نعمة الله وطعمته أكل بها هنيئًا مريئًا؛ ومن جعلها ملاعب لبطنه وفرجه وعلى ظهره جعلها وبالاً يوم القيامة»([67]).
ويتصل بهذا المعنى ما قاله الحسن البصري حين رأى الدار التي بناها الحجاج بواسط. فإنه زارها فلما شاهدها قال:
«الحمد لله !إن الملوك ليرون لأنفسهم عزًّا، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرًا: يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده، وإلى فرش فينجده، وإلى ملابس ومراكب فيحسنها. ثم يحف به ذباب طمع وفراش نار، وأصحاب سوء، فيقول: «انظروا ما صنعت»!فقد رأينا أيها المغرور، فكان ماذا يا أفسق الفاسقين ؟ أما أهل السموات فقد مقتوك، وأما أهل الأرض فقد لعنوك. بنيت دار الفناء، وخربت دار البقاء، وغررت في دار الغرور لتذل في دار الفناء، وخربت دار البقاء، وغررت في دار الغرور لتذل في دار الحبور». ثم خرج وهو يقول: «إن الله سبحانه أخذ عهده على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه».
وبلغ الحجاج ما قال. فاشتد غضبه، وجمع أهل الشام، فقال: يا أهل الشام !أيشتمني عبد من عبيد أهل البصرة وأنتم حضور فلا تنكرون !ثم أمر بإحضاره، فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل على الحجاج، فقال: «يا أبا سعيد !أما كان لإمارتي عليك حق حين قلت ما قلت»؟ فقال: «يرحمك الله أيها الأمير !إن مَن خَوَّفك حتى تبلغ أمنك أرفق بك وأحب فيك ممن أمنك حتى تبلغ الخوف. وما أردت الذي سبق إلى وهمك. والأمران بيدك: العفو، والعقوبة. فافعل الأولى بك وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل». فاستحيا الحجاج منه واعتذر إليه وأكرمه وحباه»([68]).
وردّ الحسن البصري هنا مثل موقف الحسن البصري بعامة أمام الحكام، كما رأيناه من قبل. يعظ وينهر وينكر ما يرى فى شىء منه خروج عن تعاليم الإسلام القويمة، لكن حين الصدام مع الموعوظ أو المنتهَر يتلطف ولا يصطدم ، ويبين للموعوظ أنه ما وعظه استهانة به، ولا خروجا عليه، بل نصحه مخلصا مريدا نجاة الموعوظ أولا، لم يعظه طلبا للرئاسة ولا للشهرة.
فمبدؤه هو دائمًا مبدؤه: لا خروج على ولاة الأمور ، ولا كتمان لهذا الخروج، ولا كتمان لخيانتهم، أي لا تمرد ولا عنف؛ ولكن لا كتمان لما يعتقد أنه حق. يقول رأيه، ولا يلجأ إلى العنف في الدفاع عنه.
إنه ديمقراطي بكل معنى الكلمة: يصرح برأيه ولكنه لا يلجأ إلى العنف وليس مستعدًا للصدام مع السلطة أبدًا.
وفي رواية أخرى لهذه المقابلة بين الحجاج والحسن البصري ما يؤكد المعنى نفسه. تقول هذه الرواية إنه لما دخل الحسن البصري على الحجاج لما أن استدعاه «قال له الحجاج: ها هنا !وأجلسه قريبًا منه وقال: ما تقول في علي وعثمان ؟ قال: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك: قال فرعون لموسى: +قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى=٥١- قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى_([69])[طه:52] –علم علي وعثمان عند الله. قال: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد !»ودعا بغالية([70]) وغلف بها لحيته»([71]).
فهو هنا لم يشأ الحكم على الخلاف بين علي وعثمان أو بالأحرى وأصحاب عثمان، وكان بذلك مؤسس مذهب الإرجاء، إذ يرجىء الحكم عليهما إلى أن يحكم الله بينهما يوم القيامة وهو أعدل الحاكمين.
ويتصل بهذا أيضًا وصفه لأصحاب رسول الله، فقد وصفهم بنفس الصفات التي تطلبها في الحاكم أو الإمام العادل. فقد قال لما سئل عنهم: «ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدى والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستعادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، واستخفوا بسخط المخلوقين (في سبيل) رضا الخالق. لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا في جور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن. شغلوا الألسن بالذكر؛ بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم. ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين. حسنت أخلاقهم، وهانت مؤونتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم لآخرتهم»([72]).
رأي الحسن في فقهاء السوء:
لم يكن الحسن البصري كبير وزن لذلك النمط من الفقهاء الذين يتلاعبون بالشريعة، ويبيحون للناس العمل بأهوائهم، ويخرجون عن حد الورع، بل ينكرهم. ذكر صاحب «الحلية»: «عن عمران القصير قال: سألت الحسن عن شىء فقلت إن الفقهاء يقولون كذا وكذا. فقال (الحسن): وهل رأيت فقيهًا بعينك ؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل»([73]). فهو إذن ينكر على المترسمين برسم الفقهاء أنهم فقهاء حقًا لأنهم ليسوا زاهدين، وليسوا على بصيرة من دينهم إذ هم شكليون لا يرعون باطن العبادات، ولأنهم لا يداومون على عبادة الله، بل يكتفون بأداء القروض في أوقاتها وينسون العبادة فيما بين ذلك.
وينعي على الفقهاء مماحكاتهم الشكلية في الشعائر الدينية، دون أدنى اهتمام بالنيات وخلوصها.
وقد روى فرقد السبخي أقواله العنيفة ضد الفقهاء([74]). قال صاحب «القوت»:
«قال فرقد السبخي للحسن –رحمهما الله تعالى- في شىء سأله عنه. فأجابه: يا أبا سعيد !إن الفقهاء يخالفونك. فقال: ثكلتك أمك، فريقد!وهل رأيت بعينيك فقهاء ؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع، الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم».
آراء الفضلاء فيه
1- وصف خالد بن صفوان الحسن البصري لمسلمة بن عبد الملك بالحيرة لما سأله هذا عن خبره وحاله، فقال خالد: «أصلح الله الأمير !أخبرك عنه بعلم. أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به: (هو) أشبه الناس سريرة بعلانية ، وأشبه قولاً بفعل. إن قعد على أمر قام به؛ وإن قام على أمر قعد عليه. وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شىء كان ألد الناس له. رأيته مستغنيًا عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه. قال (مسلمة): حسبك يا خالد!كيف يضل قوم هذا فيهم ؟!»([75]).
2- ومن الأوصاف الجامعة لمناقبه ما قاله ثابت بن قرة (المتوفى سنة 288هـ) أكبر علماء الصابئة: قال أبو حيان التوحيدي في كتابه: «تقريظ الجاحظ»: «حدثني أبو سعيد السيرافي –وهمك من رجل، وناهيك من عالم، وشرعك من صدوق- قال: حدثنا جماعة من الصابئين الكُتّاب أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة إلا على ثلاثة أنفس، أولهم: عمر بن الخطاب… والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري: فقد كان من دراري النجوم علمًا وتقوى، وزهدًا وورعًا، وعفة ورقة، وتألها وتنزهًا، وفقهًا ومعرفة، وفصاحة ونصاحة. مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول. وما أعرف له ثانيًا، ولا قريبًا، ولا مدانيًا. كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته. عاش سبعين سنة لم يُعرَف بمقالة شنعاء، ولم يزن بريبة([76]) ولا فحشاء، سليم الدين، نقي الأديم، محروس الحريم. يجمع مجلسه مضروبًا من الناس وأصناف اللباس، لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه: هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع منه الحلال والحرام. وهذا يتبع في كلامه، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكي له الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة؛ وهو في جميع ذلك كالبحر العجاج تدفقًا، وكالسراج الوهاج تألقًا؛ ولا تنس موافقه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند الأمراء وأشباه الأمراء، بالكلام الفصل واللفظ الجزل، والصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان –مع شارة الدين، وبهجة العلم، ورحمة التقي، لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله رائمة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الرقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم، فمن مثله، ومن ذا يجري مجراه ؟ والثالث أبو عثمان الجاحظ»([77])…
3- وقال أبو طالب المكي في «قوت القلوب»عن الحسن البصري: «كان الحسن –رضى الله عنه- أول من أنهج سبيل هذا العلم، وفتق الألسنة به، ونطق بمعانيه، وأظهر أنواره، وكشف به قناعه. وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من إخوانه. فقيل له: يا أبا سعيد !إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك. ممن أخذت هذا ؟ فقال: مِن حذيفة بن اليمان، قيل: وقالوا لحذيفة بن اليمان: نراك تتكلم في هذا العلم بكلام لا نسمعه من أحد من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فمن أين أخذته ؟ فقال: خصني به رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الناس يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه؛ وعلمت أن الخير لا يسبقني… وكان حذيفة قد خُص بعلم المنافقين. وأُفرد بمعرفة علم النفاق، وبسرائر العلم ودقائق الفهم وخفايا اليقين من بين الصحابة. فكان عمر وعثمان وأكابر أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسألونه عن الفتن العامة والفتن الخاصة، ويرجعون إليه في العلم الذي خص به، ويسألونه عن المنافقين… وكان عمر يستكشفه عن نفسه هل يعلم فيه شيئًا من النفاق؛ فبرأه منه»([78]).
4- وثم أقوال أخرى صغيرة متفرقة، نذكر منها:
أ- قال عنه محمد بن علي بن الحسين: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء»([79]).
ب- الأعمش قال: «ما زال الحسن البصري يعي الكلمة حتى نطق بها»(الموضع نفسه)
جـ- عن أيوب السختياني قال: «لو رأيت الحسن لقلت إنك لم تجالس فقيهًا قط»(الموضع نفسه).
المرجع : أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 152 - 187) .
([2]) قال ياقوت في «معجم البلدان» جـ5 ص 242 (طبع بيروت 1957): «ميسان: بالفتح ثم السكون والسين مهملة وآخره نون: اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنحل بين البصرة وواسط، قصبتها ميسان». وقد فتحت في أيام عمر بن الخطاب. فولاها النعمان بن عدي. من مركز ولاية خوزستان، مساحتها عشرة آلاف كم، وتقع بين خط طول 47 درجة و 15 دقيقة وحتى خط طول 48 درجة و 18 دقيقة. وكان أكثر سكان ميسان فارسيًا أيام الفتح.
([9]) «تاريخ» الطبري جـ2 ص 1400-1401، طبع ليدن سنة 1885-1889
* راجع هذه المسألة تفصيلاً في «الحسن البصري»لابن الجوزي ص 53؛ «والمنية والأمل»لابن المرتضى ص 14؛ و «أمالي» السيد المرتضى جـ1 ص112.
([15]) أبو نعيم: حلية الأولياء» جـ 2 ص 135-136. ويوجد بعض ما هنا مت عبارات في رسالة الحسن الى عمر بن عبد العزيز (راجع «الحسن البصري» لابن الجوزي ص 54).
([16]) كلمة فارسية بمعنى: ماخشن من الطحين، وتكتب أيضًا: خشكر. وهي بالفارسية –خشكار، فرسمها الصحيح بالعرببية خشكار. والدرمك: دقيق الحواري، والحواري هو الدقيق الأبيض وهو لباب الدقيق.
([45]) «الحسن البصري» لابن الجوزي، و«البيان والتبيين» للجاحظ جـ 3 ص 76-83، الخ راجع «جمهرة خطب العرب» جمع أحمد زكي صفوت جـ 2 ص 481، القاهرة سنة 1933.
([54]) تفسير الآية رقم 96(= 102 في المصحف المصري) من سورة البقرة، ابن قتيبة: «تأويل مختلف الحديث »223، 264.
([67]) أبو نعيم: «حلية الأولياء»جـ 1 ص 153-154. والغلول: الخيانة –غل الرجل غلولاً: خان. والطعمة: المأكلة والرزق. والعلج: الكافر، والجمع علوج وأعلاج ومعلوجاء وعلجة.