الكرامة هى الأمر الخارق لما تعود عليه البشر أن يجدوه مقبولًا عقلًا ومطابقًا لقوانين ونظم الطبيعة والحياة، غير أن هذا الأمر الخارق لما تعود عليه البشر لا يقترن بدعوى النبوة ولا إيحاء لها ، وإنما يخص الله أولياءه العارفين بها وهو القادر الفعال لما يريد.
وأعظم كرامة يهبها الله لمخلوق من مخلوقاته هي كرامة الهداية والتوفيق للطاعة في حياته وأعماله قال القشيري: «اعلم إن من أجل الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعة والعصمة عن المعاصي والمخالفات»([1]).
وتبرز أهمية الموضوع من المفارقة بين ما تحتله الكرامة الحسية من أهمية تعلو كلما دنونا من القاعدة الشعبية فى الأوساط الصوفية حتى يصل الأمر إلى أنه لا يعترف لولى بأنه ولى حتى ((يظهر كرامة)) ، وتنخفض أهميتها كلما ارتفعنا إلى قمة الهرم الصوفى واقتربنا من المتحققين بالطريق والشيوخ الكاملين ، والذى ينظرون إليها على أنها لعب ولهو وزينة وتكاثر ، وأن الكرامة المعنوية هى الكرامة الحقيقية ، ومن ثم قرروا أن أكبر كرامة هى الاستقامة .
إننا اليوم فى أمس الحاجة إلى أن نلتف حول كل شيخ صادق رزقه الله علما وحالا وذوقا ، وشيد أمره على الكتاب والسنة ، لنحتذى منه علما ، أو نسترق منه هَدْيا ، أو نلتمس منه قبسا ، أو نصلح به شأنا ، ولا ينبغى لنا ونحن نسعى سعيا حثيثا وراء شيوخنا أن نقيم لهم الموازين بما أظهروه من الخوارق ، فلا يلين لهم قيادنا إلا إذا أظهروا كرامة ، وكفى بالمريد بلادة وغلظة وبُعْدا أن يفعل بشيخه ذلك ، فالاستقامة أكبر كرامة ، وكم من مدعين للمشيخة تمخرقوا لأتباعهم بالحيل والسحر والملاعيب فأوقعوا أنفسهم فى الكبائر ليثبتوا لأتباعهم أنهم أصحاب كرامة حتى يتبعوهم .
والشيخ الحق الكامل المتشرع لا يحتاج إلى كرامة ، والمريد الصادق لا يطلبها لنفسه ، ولا يطالب بها شيخه .
ولن يتطرق كلامنا هنا عن إثبات الكرامة إذ أنه موضوع قد استوفى بحثه العديد من العلماء المتقدمين([2])، ولهذا سنبنى كلامنا على التسليم بوقوعها ، ويكون محل البحث عن موقع الكرامة ومنزلتها عند محققى القوم.
الكرامة عند محققى القوم:
يقول أبو عبد الرحمن السلمى – لسان القوم – ومن عيوبها (يعنى عيوب النفس) - : "الاغترار بالكرامات . ومداوتها أن يعلم أن أكثرها اغترارات واستدراج ، والله تعالى يقول {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}"([3]). وقد قال بعض السلف : "ألطف ما يخدع به الأولياء الكرامات والمعونات"([4]).
بينما يرى الكلاباذى (ت 380 هـ) أن الأولياء إذا ظهر لهم من كرامات الله شىء ازدادوا لله تذللا وخضوعا وخشية واستكانة ، وازدراء بنفوسهم ، وإيجابا لحق الله عليهم ، فيكون ذلك زيادة لهم فى أمورهم ، وقوة على مجاهدتهم وشكرا لله على ما أعطاهم([5]).
فهذا هو دور الكرامة الظاهرة فيما يرى الكلاباذى أن تزيد الولى تذللا وخضوعا وخشية واستكانة وازدراء لنفسه وإيجابا لحق الله عليه ، فإذا لم يكن حاله كذلك فلن تكون كرامة عندها ، بل ستكون استدراج ومكر وخديعة والعياذ بالله ، وذلك إذا اغتر من وقعت على يده الخارقة ، وتعلق بذلك ، وأورثه تكبرا على الخلق ، أو غفلة عمن أجراها على يديه إلى غير ذلك من الآفات ، فالخارقة إما خديعة أو كرامة ، وقد أعطانا الشيخ الكلاباذى الميزان الذى نفرق به بين النوعين فمن زادته الخارقة تذللا وخضوعا ... إلخ فهى فى حقه كرامة ، ومن زادته عكس ذلك فهى فى حقه خديعة .
ثم يؤكد الشيخ الكلاباذى على شأن المواهب القلبية ، وما يودعه الله تعالى فى قلوب أوليائه من أسرار الحقيقة ، وأن ذلك هو الكرامة على الحقيقة ، ولا يدخله مكر ولا خديعة ، وإلا لجاز أن يمكر بالأنبياء كما يمكر بالأعداء فيقول الشيخ رحمه الله تعالى : ((ويُؤَمِّنهم (يعنى الأولياء) أن يجدوا فى أسرارهم كرامات ومواهب وأنها على الحقيقة وليست بمخادعات كالذى كان للذى آتاه آياته فانسلخ منها ، ومعرفتهم أن أعلام الحقيقة لا يجوز أن يكون كأعلام الخداع والمكر ؛ لأن أعلام المخادعات تكون فى الظاهر من ظهور ما خرج عن العادة مع ركون المخدوع بها إليها واغترارهم بها ، فيظنوا أنها علامات الولاية والقرب وهو فى الحقيقة خداع وطرد ، ولو جاز أن يكون ما يفعله بأولياءه من الاختصاص كما يفعله بأعدائه من الاستدراج لجاز أن يفعل بأنبيائه ما يفعل بأعدائه ... وهذا لا يجوز أن يقال فى الله عز وجل ، ولو جاز أن يكون للأعداء أعلام الولاية وأمارات الاختصاص ويكون دلائل الولاية لا تدل عليها لم يقم للحق دليل بتة ، وليست أعلام الولاية من جهة حلية الظواهر وظهور ما خرج عن العادة لهم فقط ، لكن أعلامها إنما تكون فى السرائر بما يحدث الله تعالى فيها مما يعلمه الله تعالى وما يجده فى سره))([6]).
فالشيخ الكلاباذى هنا يؤكد على عدة أمور :
1- أن ما يجده الولى فى سره من الحقائق هى الكرامات والمواهب على الحقيقة ، ولا يمكن أن تكون مخادعات .
2- وأن المخادعات إنما تكون فى الكرامات الظاهرة ، دون الكرامات المعنوية الباطنة .
3- وأن أعلام الولاية الحقيقية إنما تكون فى السرائر بما يحدث الله تعالى فيها مما يعلمه الله تعالى وما يجده الولى فى سره من المعانى القلبية والواردات الإلهية ، وما يهبه الله تعالى له من سَنِىّ الأحوال ، وصفى المقامات .
ولعل من أفضل الطرق فى الكشف عن موقف كبار الأولياء أن نتعرض لموقف بعضهم ممن نسبت إليه الكرامات الكثيرة والعجيبة، مثل شيخ المغرب سيدى أبى مدين الغوث رحمه الله تعالى، فمن خلال الوقوف على رأيه الحقيقى والصحيح من الكرامات، يتبين لنا مدى المفارقة الواسعة بين موقفه الحقيقى من الكرامة، وبين ما يشيع عنه فى الأوساط الشعبية الصوفية.
قال شيخ الشيوخ أبو مدين رحمه الله تعالى : ((كرامات الأولياء نتائج معجزاته صلى الله عليه وسلم))([7]). وهو فى ذلك يعبر عن مذهب أهل السنة فى الكرامات .
ومن جانب آخر فإنه لا يتجاوز بالكرامات حجمها الذى قدر لها ، ويعلى من جانب الاستقامة والالتزام بأحكام الشرع ، وشأنه فى ذلك شأن مشايخ القوم جميعا ، والذين صرحوا بأن أكبر كرامة دوام الاستقامة .
وفى هذا المعنى يقول الشيخ أبو مدين : ((إذا رأيتم الرجل تظهر له الكرامات وتنخرق له العادات فلا تلتفتوا إليه ولكن انظروا كيف هو عند امتثال الأمر والنهى)) (حكم أبى مدين رقم 173) .
وقال التادلى : سمعت أبا على الصواف يقول : سمعت أبا مدين يقول : ((الملتفت إلى الكرامات كعابد الأوثان ، فإنه إنما يصلى ليرى كرامة))([8]).
فلم يكن رضى الله عنه ليهتم لأمر الكرامات إلا فى حدود هذا الفهم ، عالما بما فى الكرامات من استدراج وعلل وآفات ربما وقفت بالسالك عن الترقى فى مدارج السلوك .
وهذه الحكمة النافعة من سيدى أبى مدين من الوضوح والقوة اللذين لا يحتاج معهما إلى تعليق ، وحكمته تلك عليها نور الوراثة المحمدية فقد قال سيدى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ...)) الحديث ، وهكذا كل من تعلق بشىء دون الله فهو له عابد ، ومن سلك طريق التصوف فظهرت عليه الكرامة فالتفت إليها انقطع سلوكه ، وصار عبد الكرامة لا عبد الله ، وصارت الكرامة فى حقه وثن من الأوثان والعياذ بالله .
فالشيخ أبى مدين فى هذه الحكمة يضع أيدينا على علة خطيرة من علل الطريق .
وللشيخ موقف حاسم من الدعوى ، حيث إن دعوى المقامات والأحوال والكرامات من أخطر ما يقع من مدعى التصوف ، ولهذا يقول الشيخ : "المدعى منازع للربوبية" (حكمة 75) .
ويذكر ابن عربى أن شيخه أبا مدين كان على قدر عظيم من التوكل على الله وتفويض الأمر إليه ، فإن العارف يعلم أن الأمر الذى بيده تعالى ليس له وأنه مستخلف فيه ، ثم قال له الحق : هذا الأمر الذى استخلفتك فيه وملكتك إياه اجعلنى واتخذنى وكيلا فيه ، فامتثل الشيخ أبو مدين أمر الله فاتخذه وكيلا ، فكيف يبقى لمن شهد مثل هذا الأمر همة يتصرف بها ، ولهذا قال بعض الأبدال للشيخ عبد الرزاق : قل للشيخ أبى مدين بعد السلام عليه : يا أبا مدين لم لا يعتاص علينا شىء وأنت تعتاص عليك الأشياء ، ونحن نرغب فى مقامك وأنت لا ترغب فى مقامنا([9]).
وابن عربى هنا فى هذا النص يضع أيدينا على أمر يقع لبعض سالكى طريق التصوف وهو أن يرزقه الله همة يتصرف بها فى الكون ، فيتصرف ومن هنا تقع له الكرامات ، وأن من كمل حاله وتحقق بمقام التوكل على الله لا تبقى له همة يتصرف بها ، ومن هنا تعتاص الأشياء على أبى مدين ، ولا تعتاص على من هو دونه فى المقام من الأولياء لفرحهم بما رزقهم الله من الهمة والقدرة على التصرف ، بينما ذهبت همة أبى مدين فى الوقوف مع الله حسب مراده ، ومن كان هكذا من رجال الله كان أعلى درجة ممن تخرق له العادات.
وكان أبو مدين دائم الشهود كما كان صاحب غيرة ومن ثم كان يظهر الكرامات غيرة على دعوة الرسل أن ترد ، ويشرح لنا ابن عربى رحمه الله تعالى ذلك فيقول فى الباب (242) فى معرفة عين التحكم : ((عين التحكم عند القوم التصرف لإظهار الخصوصية بلسان الانبساط فى الدعاء وهذا ضرب من الشطح وقريب منه لما يتوهم من دخول النفس فيه إلا أن يكون عن أمر إلهى ... فعين التحكم مخصوص بالرسل فى إظهار المعجزات والتحدى بها عن الأمر الإلهى ... مثل قوله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد الناس يوم القيامة فلما كان فى قوة هذا اللفظ إظهار الخصوصية عند الله ، ومن هو مشغول بالله ما عنده فراغ لمثل هذا ، ومن شغل أهل الله بالله امتثال أمر الله ، فأخبر صلى الله عليه وسلم حين علم فقال : ولا فخر ، أى : ما قصدت الفخر ، أى : هكذا أمرت أن أعرفكم ، فإن العارف كيف يفتخر والمعرفة تمنعه ، ومشاهدة الحق تشغله ولا يظهر مثل هذا ممن ليس بمأمور به إلا عن رعونة نفس أو فناء لغلبة حال يستغفر الله من ذلك إذا فارقه ذلك الحال الذى أفناه ، وقد يظهر مثل هذا من صاحب الغيرة خاصة وهو مذهب شيخنا أبى مدين ... فلا يدل على إظهار الخصوصية وذلك بأن يرى الإنسان دعوة الرسل تُرَدُّ ويتوقف فى تصديقها ... فيقوم هذا العبد مقام وجود الرسول فيدعى ما يدعيه الرسول من إقامة الدلالة على صدق الرسول فى رسالته نيابة عنه فيأتى بالأمر المعجز على طريق التحدى للرسول لا لنفسه فيظهر منه ذلك([10]).
وفى هذا المعنى يقول الشيخ العارف الكبير سيدى أحمد الزاهد : كل فقير لا يظهر له برهان لا يحترم له جناب([11]).
للشيخ الأكبر ابن عربى موقف ناقد ومتميز من الكرامات إذ يقول فى الباب (309 ) من الفتوحات : "... رجال الله ثلاثة لا رابع لهم : رجال غلب عليهم الزهد والتبتل والأفعال الظاهرة المحمودة كلها وطهروا أيضا بواطنهم من كل صفة مذمومة ... غير أنهم لا يرون شيئا فوق ما هم عليه من هذه الأعمال ولا معرفة لهم بالأحوال ولا المقامات ... فهؤلاء يقال لهم العباد ...
والصنف الثانى : فوق هؤلاء يرون الأفعال كلها لله وأنه لا فعل لهم أصلا فزال عنهم الرياء جملة واحدة وإذا سألتهم فى شىء مما يحذره أهل الطريق يقولون {أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} ، ويقولون {قل الله ثم ذرهم} وهم مثل العباد فى الجد ... وغير ذلك غير أنهم مع ذلك يرون أن ثم شيئا فوق ما هم عليه من الأحوال والمقامات والعلوم والأسرار والكشوف والكرامات فتتعلق هممهم بنيلها فإذا نالوا شيئا من ذلك ظهروا به فى العامة من الكرامات ، لأنهم لا يرون غير الله وهم أهل خلق وفتوة ، وهذا الصنف يسمى الصوفية وهم بالنظر إلى الطبقة الثالثة أهل رعونة وأصحاب نفوس ، وتلامذتهم مثلهم أصحاب دعاوى يشمرون على كل أحد من خلق الله ويظهرون الرياسة على رجال الله .
والصنف الثالث : رجال لا يزيدون على الصلوات الخمس إلا الرواتب لا يتميزون عن المؤمنين المؤدين فرائض الله بحالة زائدة يعرفون بها يمشون فى الأسواق ويتكلمون مع الناس ... قد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين ، ولا يعرفون للرياسة طعما لاستيلاء الربوبية على قلوبهم ... قد احتجبوا عن الخلق واستتروا عنهم بستر العوام فإنهم عبيد خالصون مخلصون لسيدهم مشاهدون إياه على الدوام فى أكلهم وشربهم ويقظتهم ونومهم وحديثهم معه فى الناس ، يضعون الأسباب مواضعها ويعرفون حكمتها ... وهم يرون كون الأشياء لا تفتقر إليهم ويفتقرون إليها كون الله قال للناس {أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد} فهم وإن استغنوا بالله فلا يظهرون بصفة يمكن أن يطلق عليهم منها الاسم الذى قد وصف الله نفسه به وهو الاسم الغنى ، وأبقوا لأنفسهم ظاهرا وباطنا الاسم الذى سماهم الله بهم وهو الفقير ، وقد علموا من هذا أن الفقر لا يكون إلا إلى الله الغنى ، ورأوا الناس قد افتقروا إلى الأسباب الموضوعة كلها وقد حجبتهم فى العامة عن الله وهم على الحقيقة ما افتقروا فى نفس الأمر إلا إلى من بيده قضاء حوائجهم وهو الله ... فلهذا افتقرت هذه الطائفة إلى الأشياء ولم تفتقر إليهم الأشياء ... فهؤلاء هم الملامية وهم أرفع الرجال ... .
فالعباد متميزون عند العامة بتقشفهم وتبعدهم عن الناس وأحوالهم وتجنب معاشرتهم بالجسم فلهم الجزاء ، والصوفية متميزون عند العامة بالدعاوى ، وخرق العوائد من الكلام على الخواطر ، وإجابة الدعاء ، والأكل من الكون ، وكل خرق عادة لا يتحاشون من إظهار شىء مما يؤدى إلى معرفة الناس به قربهم من الله ، فإنهم لا يشاهدون فى زعمهم إلا الله وغاب عنهم علم كبير ، وهذا الحال الذى هم فيه قليل السلامة من المكر والاستدراج .
والملامية لا يتميزون عن أحد من خلق الله بشىء فهم المجهولون حالهم حال العوام ... ولهذا رأت الطائفة أن خرق العوائد واجب سترها على الأولياء كما أن إظهارها واجب على الأنبياء لكونهم مشرعين ... والذى ليس له التشريع ولا التحكم فى العالم بوضع الأحكام فلأى شىء يظهر خرق العوائد حين مكنه الله من ذلك ليجعلها دلالة له على قربه عنده لا لتعرف الناس منه فمتى أظهرها فى العموم فلرعونة قامت به غلبت عليه نفسه فيها فهى إلى المكر والاستدراج أقرب منها إلى الكرامة ، فالملامية أصحاب العلم الصحيح فى ذلك فهم الطبقة العليا وسادات الطريقة المثلى ..."([12]).
فابن عربى يرى أن أصحاب الكرامات أهل رعونة وأصحاب نفوس ، وتلامذتهم مثلهم أصحاب دعاوى يشمرون على كل أحد من خلق الله ويظهرون الرياسة على رجال الله .
وقد أفرد الشيخ الأكبر للكلام على الكرامات بابا خاصا([13])ينبغى الوقوف عليه ، وقد قسم فيه الكرامات إلى قسمين: 1- حسية. 2- معنوية. أما الكرامات الحسية فهي كرامات العامة مثل المشي على الماء ، وطي الأرض ، والاطلاع على الكوائن ، والإخبار بالماضي والحاضر والمستقبل. أما الكرامات المعنوية فهي كرامات الخاصة من عباد الله ، وهي كرامة العمل بشريعة القرآن والتمسك بها.
ونفس هذا التقسيم للكرامة أخذه بن عطاء الله السكندري في لطائف المنن([14]).
ومما قاله ابن عربى فيه رحمه الله تعالى : ((وهى (يعنى الكرامات) على قسمين حسية ومعنوية ، فالعامة ما تعرف الكرامة إلا الحسية مثل الكلام على الخاطر والإخبار بالمغيبات الماضية والكائنة والآتية والأخذ من الكون والمشى على الماء واختراق الهواء وطى الأرض والاحتجاب عن الأبصار وإجابة الدعاء فى حال ، فالعامة لا تعرف الكرامات إلا مثل هذا .
وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إلا الخواص من عباد الله ، والعامة لا تعرف ذلك ، وهى أن تحفظ عليه آداب الشريعة وأن يوفق لإتيان مكارم الأخلاق واجتناب سفسافها ، والمحافظة على أداء الواجبات مطلقا فى أوقاتها ، والمسارعة إلى الخيرات وإزالة الغل والحقد من صدره للناس والحسد وسوء الظن ، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس ، ومراعاة حقوق الله فى نفسه وفى الأشياء ، وتفقد آثار ربه فى قلبه ومراعاة أنفاسه فى خروجها ودخولها فيتلقاها بالأدب إذا وردت عليه ويخرجها وعليها خلعة الحضور ، فهذه كلها عندنا كرامات الأولياء المعنوية التى لا يدخلها مكر ولا استدراج)) .
ومن ثم يرى الشيخ الأكبر أن عدم التعريج على الكرامات من مناقب أبى محمد عبد العزيز المهدوى صديقه الوفى ، والذى كتب إليه برسالته روح القدس فى مناصحة النفس فيقول له فى مقدمة الرسالة : ((وقد فزت يا أخى فى زمانك بخلال لم أقدر أن أراها فى غيرك : منها معرفتك بمرتبة العلم وأهله ، وعدم تعريجك على الكرامات والأحوال))([15]).
فها هو الشيخ الأكبر وهو أعجب القوم شأنا فى باب خرق العادة ، والتعامل مع عوالم ما وراء الحس والعادات ، حتى تظن أن ذلك عالمه الحقيقى لا عالمنا الذين نعيشه ، ومع هذا فقد أنزل كل هذا منزلته التى لا ينبغى أن تتجاوزه .
ويؤكد ابن عطاء على أن الكرامات ليست دليلا على كمال الولاية فيقول : ((ربما رزق الكرامة من لم تكمل له الاستقامة)) (حكم ابن عطاء 181) .
ويوجه استفهاما استنكاريا إلى ذلك الذى سلك الطريق وجلس ينتظر وقوع الكرامات على يديه ، فيقول له : ((كيف تخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد)) (حكم ابن عطاء 129) .
وأما الكرامات الحقيقية فيقول سيدى ابن عطاء الله : ((أكرمك بكرامات ثلاث : جعلك ذاكرا له ، ولولا فضله لم تكن أهلا لجريان ذكره عليك . وجعلك مذكورا به ، إذ حقق نسبته لديك . وجعلك مذكورا عنده فتمم نعمته عليك)) (حكم ابن عطاء 260) .
أما سبب وقوع الكرامات لكبار الأولياء فيرى ابن عطاء الله السكندرى : "أن المسافة بعدت بين الأولياء والصحابة فجعلت الكرامات جبرا لما فاتهم من قرب المتابعة التامة فإن من الناس من يقول : إن الأولياء لهم الكرامات والصحابة لم يكن لهم ذلك ، بل كانت لهم الكرامات العظيمة بصحبتهم له صلى الله عليه وسلم وأى كرامة أعظم منها"([16]).
ويقول ابن قنفذ : "واعلم أن الكرامة ليست من شرط حصول الولاية ، فقد تحصل الكرامة لكن إن وقعت للولى فهى دالة على صدق عبادته وعلو مكانته بشرط اتباعه لحقيقة ما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم وإلا فهى خذلان من الشيطان ... وقد ظهر أنه لا يستدل على الولاية بالكرامة لاحتمال أن تكون من الشيطان ، وإنما يستدل على صدق الكرامة بصحة الولاية"([17]).
وهذا الكلام من ابن قنفذ يكشف عن الموقف الحقيقى للصوفية من الكرامات ، ويضعها موضعها الصحيح ، فليست الكرامة شرطا للولاية ولا دليلا عليها ، بل على العكس تدل صحة الولاية وكونها على الكتاب والسنة على صدق الكرامة فى حال وقوعها وأنها ليست استدراجا ولا مكرا به .
ومن جهة أخرى نؤكد على أن الكرامات إنما يتعلق بها بعض المبتدئين فى الطريق لتثبيت يقينهم ، وأن شأن الراسخ فى عقيدته والصادق فى إرادته ألا يلتفت إلى ذلك وألا يتعلق به إن وقع له ، وأن طالب الكرامة لنفسه أو سائلها من شيخه مثله مثل الآية {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية}([18]).
ولسيدى عبد العزيز الديرينى واقعة مشهورة ، فقد طلب جماعة منه كرامة وقالوا : مرادنا شيء يقوى يقيننا واعتقادنا فيك حتى نأخذ عنك الطريق . فقال : يا أولادى وهل ثم كرامة من الله لعبد العزيز أعظم من أن يمسك به الأرض ولم يخسفها به ، وقد استحق الخسف به من سنين ؟ فقال له شخص : إن الخسف لا يكون إلا للكفار ، وأنتم من المؤمنين . فقال : قد خسف الله تعالى بشخص لبس حلة وتبختر فيها فى مكة كما فى البخارى عن ابن عباس وكم لعبد العزيز من ذنب أعظم من التبخر([19]).
ويقول سيدى على الخواص : ((ما ثم كرامة للعبد أفضل من ذكر الله تعالى لأنه يصير جليسا للحق كلما ذكر ، وقد اختلى مريد سنة كاملة فما رأى نفسه وقعت له كرامة فذكر ذلك لشيخه فقال : أتريد كرامة أعظم من مجالسة الحق تعالى ثم قال له : ما رأيت أكثف حجابا منك لك فى الكرامة العظمى سنة كاملة ولا تشعر بها))([20]).
ويعزى الشيخ عبد الوهاب الشعرانى شيوخ الطريق فى مريديهم ويذكر أصنافهم وانقسامهم حولهم كما انقسم من كان حول النبى صلى الله عليه وسلم ، ليتأسى شيوخ الطريق به صلى الله عليه وسلم ، ولينظر المريد فى حال نفسه مع حال من كان حول النبى صلى الله عليه وسلم ، فمنهم المؤمن ومنهم المنافق ولينصح المريد لنفسه ويختار ، فيقول لهم : ((لا يخفى أنه لا بد أن ينقسم جماعة كل داع إلى الله تعالى كما انقسم من دعاهم النبى صلى الله عليه وسلم إلى دين الإسلام إذ هو الشيخ الحقيقى لجميع الأمة كما مر بيانه أول خطبة الكتاب وجميع الدعاة نوابه صلى الله عليه وسلم فلا بد يقع لهم مع أصحابهم كما وقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه فمنهم من يقول : سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومنهم من يقول : سمعنا وعصينا ومنهم من يقول : سمعنا وأطعنا نفاقا ... ومنهم من يقول لشيخه بلسان المقال أو الحال لن نؤمن لك إلا إن أريتنا كرامة كما قالت قريش : {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا}([21])، وكما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}([22])...))([23]).
وكلام أئمة القوم فى هذا الشأن واسع لا يحتمله هذا الموضع ، ولكنا سنختم الكلام هنا بمحقق القوم الشيخ زروق (ت 899 هـ) ، والذى ضبط بقواعده أسس الطريق ، ومما قاله رحمه الله تعالى : ((كل شيخ لم يظهر بالسُّنة فلا يصح اتباعه لعدم تحقق حاله وإن صح فى نفسه وظهر عليه ألف ألف كرامة من أمره))([24]).
ويقول رحمه الله تعالى : ((من الناس من يغلب عليه الغنى بالله فتظهر عليه الكرامات وينطق لسانه بالدعوى من غير احتشام ولا توقف فيدعى بحق عن حق لحق فى حق كالشيخ أبى محمد عبد القادر وأبى يعزى وعامة متأخرى الشاذلية ، ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله فيكل لسانه ويتوقف مع جانب الورع كابن أبى جمرة وغيره ، ومن الناس من تختلف أحواله وهو أكمل الكمال لأنه أحواله عليه الصلاة والسلام إذ أطعم ألفا من صاع وشد الحجر على بطنه))([25])، نسأل الله تعالى أن يرزقنا أكمل الأحوال ، ويجعلنا على قدم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل الكمال كما يقول الشيخ زروق .
الكرامة بين القبول والرد:
ويرى بعض الباحثين([26])أن هذه المشكلة من المشكلات التي يختلف فيها متكلمو الإسلام اختلافًا بينًا ، فبينما نجد المعتزلة يرفضون القول بحدوث مثل هذه الخوارق في الطبيعة([27])، نجد الأشاعرة وجميع أهل السنة يسلمون بوقوعها([28]). وكل فريق منهم يدعم رأيه بأدلة من الكتاب والسنة وبأدلة عقلية خالصة أيضًا.
فالمعتزلة الذين أنكروا الكرامة احتجوا بأمور حكاها عنهم الإمام المناوى ، ثم أجاب عليها، فمما احتج به المعتزلة:
الأول: أنها توجب عدم تميزها عن المعجزة فلا تدل المعجزة على النبوة.
الثاني: أنها تفضي إلى السفسطة لاقتضائها انقلاب الجبل ذهبًا إبريزًا والبحر دمًا عبيطًا ونحو ذلك.
الثالث: أنه لو ظهر لولي كرامة لجاز الحكم له بمجرد دعواه أنه يملك حبة بر أو فلسًا واحدًا بغير بينة لظهور كرامته المؤذنة بعلو درجته عند الله المانعة لكذبه سيما في تافه ، وهو باطل بإجماع المسلمين المؤيد بقول إمام المرسلين «البينة على من ادعى واليمين على من أنكره».
الرابع: أن ظهورها يوجب نقض العادة لتكثرها بتكثر الأولياء عن كونه خارقا فيصير عادة.
الخامس: أنها تسد باب إثبات النبوة لاحتمال كون المعجزة إكرامًا لا تصديقا فيطوى بساط النبوة رأسا.
السادس: أنها تخل بجلال كمال الأنبياء لمشاركة الأولياء لهم في ذلك.
السابع: أنها لا تتميز عن السحر([29]).
ويرد المناوي على كل حجة من هذه الحجج فيقول: «فأجيب عن الأول بأن المعجزة تقارن دعوة النبوةِ ، والكرامةُ لا تعارضها ، بل يجب قرنها بالانقياد إلى النبي وتصديقه والسير على منهاجه فلا التباس .
وعن الثاني : بأن ذلك لا يقتضي سفسطة على أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم العادية.
وعن الثالث : بأن الكرامة لا توجب للولي ولا تصديقه في كل أمر، وقد سئل شيخ الطريقة الجنيد ، أيزني العارف؟ فقال: وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وهب أن الظن حاصل بصدقه في دعواه ، لكن الشارع جعل لثبوت الدعوى منهجًا مخصوصًا ورابطًا معروفا لا يسوغ العدول عنه، ألا ترى أن كثيرًا من الظنون التي تكاد تقرب من اليقين لا يجوز الحكم بها لخروجها عن الضوابط الشرعية.
وعن الرابع : بأن كثرتها تكون استمرارًا لنقض العادة فلا نسلم كونها خروجًا عنه، والكرامة وإن توالت على الولي حتى ألفها واعتادها، لا تخرجه عن طريق الرشاد ووجه السداد.
وعن الخامس : بأن المقارنة للدعوى تفيد القطع بالصدق عادة.
وعن السادس : بأن الكرامة تفيد جلالة قدر الأنبياء حيث بلغت أممهم ذلك ببركة الاقتداء بهم فلا إخلال.
وعن السابع : بأنها تفارقه وتتميز عنه بأنها لا يجدي فيها التعلم والتعليم ، ولا تمكن المعارضة ، ولا تجامع شرة النفس ، ولا تكون بمزاولة أعمال مخصوصة بخلافه([30]).
ثم يقول المناوي : «إن أهل القبلة اتفقوا على أن الكرامات لا تظهر على الفسقة الفجرة، بل على الموفقين البررة، وبذلك لاح الطريق إلى معرفة الأنبياء لا تفسد، فإن الولي ينقاد للنبي الذي ظهرت المعجزة على يديه ويقول معشر الناس هذا نبي الله فاتبعوه، ويكون أول منقاد»([31]).
وقد قرر المحققون من علماء المتكلمين من أهل السنة والجماعة أن ما كان معجزة لنبى جاز أن يكون كرامة لولى، لحديث جريج الراهب المشهور الصحيح .
على أنه يجب ألا تصادم الكرامة للعقل فليس معنى خرق العادة أن يكون الخارق مستحيلا، إذ أن المعجزات والكرامات تجري على أسباب لو كشفها الله تعالى لعباده لرأوها سهلة مفهومة ولعلموها أنها تجري على سنن كونية خفية([32]).
والحقيقة أنه لا يمكن بحال إنكار كرامات الأولياء ، وقد ثبت ذكرها فى القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فقد قال تعالى لمريم : ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾[مريم : 25]،ومريم لم تكن نبية، وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾[آل عمران: 37]، وحديث النبي ×في قصة جريج الراهب ... وجريج هذا لم يكن نبيًّا، وحديث المصطفى ×إن في أمتي مكلمون ومحدثون ... كل ذلك وغيره يؤكد وجود الكرامة؛ فلا ينبغى أن ننكرها.
لكن لا يعنى قبول الكرامة ، ووقوعها لبعض الأولياء ، أن نقبل كل ما يروى من كرامات تخرج عن نطاق العقل الصحيح، وأن نرددها مع من يرددها دون تثبت من ثبوتها وصحتها.
ولهذا فمن الضرورى أن نضيف إلى معايير قبول الكرامات معيارا أساسيا هو الثبوت وصحة الرواية، فحكاية الكرامة هى من قبيل الرواية التى تتطلب النظر فى إسنادها وثبوت صحتها شأنها شأن كل المرويات ، ولهذا فإننا نتوقف فى كثير مما روى من الكرامات عن الأولياء سواء فى ذلك سيدى أبى مدين أو غيره ، مطالبين بتطبيق المعايير العلمية الدقيقة فى قبول ذلك أو رده ، مؤكدين على أن القول بجواز الكرامة ووقوعها لا يعنى إطلاقا قبول كل ما يحكى دون تثبت ، ولا يعنى كون الكرامة أمرا خارقا للعادة قبول كل ما يحكى مما يمج سماعه وتسمج حكايته ، ولهذا فلا نرى قبول ذلك كله وإيراده ولا رفض ذلك كله ورده ولكنا نرى نقده وتمحيصه .
وقد ألف الشيخ عبد الله بن الصديق الغمارى([33])كتابا نفيسا فى الكرامات سماه : "الحجج البينات فى إثبات الكرامات"([34])، وناقش كل ما دار حول الموضوع ، وقد أشار إلى شرطه فى كتاب آخر له فقال : مع تخريج الأسانيد وتوخى الصحة بغاية الدقة([35])، وقد أطال فيه النفس وأجاد رحمه الله ، وكان مما قاله : "... ولكن غرضى التنبيه على ما كثر من الأكاذيب حول الأولياء والكرامات مما يدعو إلى كثير من التحفظ والاحتراس مع اليقظة والتحرى وإن من الحزم سوء الظن ..."([36])، ثم نعى بعد ذلك على قليلى الدين ضعفاء الإيمان الذين يستبعدون كثيرا من المعجزات والكرامات ويصدقون ما يرد عن الغربيين ولو كان أشبه بالخيال منه بالواقع([37]).
وكان للشيخ الغمارى فضلا عن ذلك موقف حاسم فى هذا الموضوع فى رسالته : "أولياء وكرامات أو النقد المبرم لرسالة الشرف المحتم" ، وهو نقد لرسالة الشرف المحتم فيما من الله به على وليه السيد أحمد الرفاعى من تقبيل يد النبى المكرم المنسوبة للسيوطى([38]). ومما ذكره الشيخ الغمارى أن الناس فى هذا الوقت لا يعرفون الاعتدال فإما أن يعتقدوا ما يحكى عن الأولياء جميعه لا يفرقون بين غثه وسمينه وإذا أنكر الشخص بعض الكرامات التى اقتضى الدليل بطلانها اعتبروه وهابيا وناصبوه العداء ، وإما أن ينكروا الأولياء وكراماتهم جملة ويعتبروا معتقد ذلك مخرفا كبيرا والحق خلاف هذين الطريقين .
واختار فى تعريف الكرامة : أنها الأمر الخارق الذى يظهر على يد رجل صالح فى زمن التكليف ويكون دليلا على تمسكه بالشريعة وعمله بأحكامها وآدابها([39]).
ومن الضوابط التى قررها الشيخ الغمارى أن الكرامات لا تخرج عن دائرة الإمكان ، قال : والذين يحكون هذه المستحيلات غير مدركين ما فيها من مناقضة لقضايا العقول يفتحون على أنفسهم وعلى الأولياء بابا للطعن الشديد([40]).
وأكد ذلك فى موضع آخر : أنه لم يقع المحال العقلى كرامة لولى قط([41]).
ومن الضوابط التى قررها : أن التضارب بين روايات الكرامة دليل على الكذب([42]).
ومن الضوابط التى ذكرها : أن الغرض من ترجمة الولى وذكر بعض كراماته الاعتبار بما قدم من أعمال صالحة والاقتداء به ، والمجذوب ليس أهلا للقدوة .
والحاصل أنه لا ينكر الكل ولا يقبل الكل ، ولكن يقبل مع التحفظ والاحتراس مع اليقظة والتحرى كما قال الشيخ عبد الله بن الصديق .
ومن هنا يصير عندنا عدة معايير لا بد منها لقبول الكرامة:
المعيار الأول: أن تقع على يد ولى صالح عالم عامل بالشريعة ، عُرف بكل ذلك .
المعيار الثانى: أن تكون خارقة للعادة فحسب، وليست خارقة للعقل.
المعيار الثالث: الثبوت وصحة الرواية، ولا بد من استخدام معايير صحة الرواية التى وضعها علماء الحديث الشريف.
وفى ضوء هذه المعايير الدقيقة، لا بد من نقد ما يشيع من كرامات وألا نتقبلها إلا فى ضوء مثل هذه المعايير، سواء فى ذلك الكرامات التى تتلقفها الألسنة وتتحاكاها، أو الكرامات التى بُثت فى بطون الكتب.
كما أنه فى ضوء هذه المعايير يمكن فى الحقيقة أن نتقبل كثيرا من النقد الذى وُجه إلى ظاهرة الكرامات، كما يمكن أن نتفهم كثيرا من التحليلات التى قدمت فى محاولة لتفسيرها.
ومن ذلك ما يراه بعض الباحثين أنه قد تكون ظروف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهابطة والتى عاشها المجتمع الإسلامى منذ القرن السابع الهجري وما تلاه من قرون ضعف وانقسام وتفكك سياسي واجتماعي ساعد على ذيوع كثير من الكرامات حول شيوخ الطرق الصوفية (ولقد وجد حول كل ولي من أوليائه المتقين مجموعة من المنتفعين الذين يعيشون على حساب سمعة ذلك الولي أو الشيخ حيًّا وميتًا، وهؤلاء يهمهم أن يظهروا شيخهم في صورة القادر على كل شيء؛ فما من كربة إلا وهو قادر على تفريجها وما من غمة إلا ويستطيع كشفها، وهكذا يقصد أصحاب الحاجات شراء الشيخ، وأتباعه، بما يقدمونه من صدقات ونذور في مقامه، فإذا رضى الشيخ عنهم، فإن طلبهم مجاب وحاجتهم مقضية)([43]).
ومن ذلك فإن من مصلحة خلفاء الولي وأنصاره وأتباعه تصوير وليهم بصورة القادر على صنع المعجزات ومن هنا كان افتراؤهم عليه ونشر حكايات مشكوك فى صحتها في معظم الأحيان عن قدرات وليهم الخارقة على شفاء المرضى وقضاء الحاجات وقص كرامات لا أساس لها من الصحة.
وإذا نظرنا للكرامة من الناحية النفسية نجد أن «الكرامة بعد ذلك ليست عسيرة على التحليل السيكولوجي حتى يبدو اللامعقول مستساغا مقبولا، فحين تفشي الظلم وانقطع أمل الناس في الإصلاح من حكام الظاهر منذ أواخر عصر المماليك([44]) ساد الاعتقاد بين مريدي التصوف بحكومة الباطن إذ يحكم الكون ويتحكم في البلد أولياء من الأقطاب وأبدال ونقباء فعوض لهم الخيال آلام الواقع ومكنه في نفوسهم وغالبا ما يكون حكّام الباطن من الفقراء أصحاب الحرف»([45]).
ومن ثم يقول المرحوم الدكتور زكي مبارك : والاعتقاد في الكرامات عزاء كبير للفقراء فهم يخلقون لأنفسهم دنيا من المجد الموهوم يعوضون بها ما ضاع عليهم من حظوظ الحياة. ومن المؤكد أن هذه الوساوس لا تسود إلا في عصور الضعف السياسي والاقتصادي حين تصبح الأمة وهي فارغة الأيدي من سلطان الجاه والمال، ومن ذلك رأينا المسلمين في عصور قوتهم لا يعرفون غير الواقع، مع أن الصلاح كان من أغلب الصفات عليهم([46]) ثم رأيناهم في عصور الانحطاط يصدقون كل شيء ويلقون زمامهم إلى كل مخلوق، عساهم ينسون ما هم فيه من شظف العيش ونكد الشقاء([47]).
ويبدو لنا أنه مما ساعد على انتشار الكرامات حول الأولياء أن العقلية الشعبية تستريح وتميل إلى الاعتقاد في الأولياء وكراماتهم اعتقادًا متأصلًا راسخًا في أفكار العامة منذ أزمان بعيدة ، ويبدو أيضًا أن هناك عناصر قديمة الجذور متأصلة في النفسية الشعبية تجعلها تؤمن بهذه الخرافات، حول قدرة الأولياء على التصرف في الأكوان وعمل المستحيل كما يقال([48]).
وختاما فإن قضية الكرامة قد احتلت مساحة ليست بالضيقة فى الوسط الصوفى وعلى مدى قرون طويلة ، وارتبط بها كثير من الممارسات غير الصحيحة ، ولا شك أن معالجة هذه القضية ووضعها فى إطار صحيح يساعد على إصلاح بعض ما اختل من شأن الطريق ، ويرد عنه شيئا مما اعترض به منتقدو التصوف ، والذين سلكوا مسلكا غير سوى بعدم رجوعهم إلى محققى القوم وأئمتهم ، وبنوا نقدهم على من ليس بحجة على الطريق ، بل الطريق حجة عليهم بما شيد به من أصول الكتاب والسنة .
المراجع :
- الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، أ/د عامر النجار ، القاهرة:مكتبة الأنجلو المصرية ، د ت، (ص 67- 73) ، باختصار وتصرف واسعين.
- "الكرامة بين التسليم النظرى وقطع الالتفات العملى - أبو مدين الغوث والشيخ الأكبر نموذجا – ضوابط القبول والرد"، عصام أنس الزفتاوى، بحث منشور بموقعه على شبكة المعلومات الدولية.
([2]) انظر : مبحث الكرامة فى أغلب كتب علم الكلام والعقيدة ، حيث جعلوا لها مبحثا مستقلا ، كما تناولها أغلب المؤلفين فى التصوف فى مؤلفاتهم ، كما أن هناك العديد من العلماء الذين أفردوا الموضوع بالتأليف انظر مثلا :
النبهانى : جامع كرامات الأولياء ، بتحقيق إبراهيم عطوة عوض المدرس بالأزهر الشريف ، القاهرة : مصطفى الحلبى ، ط3 ، 1404 هـ / 1984 م . والذى تناول موضوع الكرامات من الناحية النظرية فى مقدمة كتابه بتوسع وتميز ، فى ثلاثة مطالب : 1- إثبات كرامات الأولياء . 2- أنواع الكرامات . 3- الكرامات نتائج الطاعات . وهذه المطالب الثلاثة استغرقت الصفحات (1/14-68) ، ثم ختم بالمطلب الرابع فى طبقات الأولياء ومراتبهم وأصنافهم . أما باقى الكتاب وهو فى مجلدين فرتبه على أسماء الأولياء ذاكرا لكل منهم ما وقف عليه من كرامات نسبت له .
اليافعى ، عبد الله بن أسعد (ت 768 هـ) : نشر المحاسن الغالية فى فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية ، تحقيق إبراهيم عطوة عوض المدرس بالأزهر الشريف ، القاهرة : مصطفى الحلبى ، ط2 ، 1410 هـ / 1990 م .
ابن مغيزيل ، عبد القادر بن الحسين بن على الشاذلى (ق 10 هـ) : الكواكب الزاهرة فى اجتماع الأولياء يقظة بسيد الدنيا والآخرة ، ومعه الأجوبة عن الأسئلة فى كرامات الأولياء لشيخ الإسلام شمس الدين الشوبرى الشافعى ، تحقيق د. محمد سيد سلطان ، ود. على عبد الحميد عيسى ، ومراجعة أ . د عبد القادر حسين ، الأساتذة بجامعة الأزهر ، القاهرة : دار جوامع الكلم ، 1999م .
الحموى ، شهاب الدين أحمد الحسينى (ت 1098 هـ) : نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف لأولياء الله تعالى بعد الانتقال ، ويليه فتويان فى الموضوع نفسه للشيخين : محمد بخيت المطيعى ويوسف الدجوى ، تقديم وتحقيق الدكتور محمد سيد سلطان عبد الرحيم . القاهرة : دار جوامع الكلم .
الجوهرى الخالدى (ت 1181 هـ) : كرامات الأولياء فى الحياة وبعد الانتقال ، تحقيق سعيد عبد الفتاح ، دار الآفاق العربية ، 2002 م .
عبد الباقى المقدسى الحنفى : السيوف الصقال فى رقبة من ينكر كرامات الأولياء بعد الانتقال ، تقديم وتحقيق الدكتور محمد سيد سلطان عبد الرحيم . القاهرة : دار جوامع الكلم ، 1997 .
([4])عيوب النفس ، لأبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق مجدى فتحى السيد . مصر : دار الصحابة للتراث بطنطا ، ط 2 ، 1413 هـ / 1993 م ، (ص 36 – 37) .
([5]) التعرف لمذهب أهل التصوف ، لأبى بكر محمد الكلاباذى ، تحقيق محمود أمين النواوى ، القاهرة : الكليات الأزهرية ، ط 2 ، 1400 هـ / 1980 م ، ص 89 .
([9]) فصوص الحكم لابن عربى مع شرح عبد الرزاق القاشانى ، القاهرة : مصطفى الحلبى ، ط 2 ، 1386 هـ / 1966 م ، (ص 192) .
([12])الفتوحات المكية 3/ 34- 36 . وقد نقلنا النص بطوله لأهميته وتحديده لمواقف السالكين إلى الله عز وجل من الكرامات الحسية ، وبيان أن اختيار ذوى المقامات العُلا من الصوفية إخفاءها .
([15]) روح القدس فى مناصح النفس ، لابن عربى ، بتحقيق الدكتور حامد طاهر ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط 1 ، 2005 م ، ص 203 .
([16])تاج العروس الحاوى لتهذيب النفوس ، لابن عطاء الله السكندرى ، القاهرة : مكتبة صبيح ، د ت ، (ص 29) .
([19]) العهود المحمدية أو لواقح الأنوار القدسية فى بيان العهود المحمدية لسيدى عبد الوهاب الشعرانى ، القاهرة : مصطفى الحلبى ، ط 2 ، 1393 هـ / 1973 م ، ص 562 .
([24]) قواعد التصوف للشيخ زروق ، بتحقيق عبد المجيد الخيالى ، بيروت : دار الكتب العلمية ، ط 1 ، 1424 هـ/ 2003 م ، القاعدة 224 ، ص 135 .
وهذا الكتاب من أنفس كتب التصوف ، وأعمقها ، وألزمها للشرع الشريف ، ولهذا ما زال شيوخنا يوصون به ، وتعد هذه الطبعة أفضل طبعة للكتاب ظهرت للآن ويسهل الحصول عليها ، بعد الطبعة الأولى بالقاهرة بالمعاهد العلمية ، سنة 1318 هـ ، والتى ما زالت هى أصح الطبعات ، لكن يتعذر الحصول عليها . ومع هذا فقد وقفت على أصل مخطوط للكتاب فيه عشرات من القواعد التى لم ترد فى طبعة القاهرة والتى اقتصرت على (215) قاعدة ، ولا وردت فى طبعة بيروت والتى اقتصرت على (225) قاعدة ، بينما بلغ عدد القواعد فى ذلك الأصل (261) قاعدة ، وقد أوشكت على الفراغ من تحقيقه ، ييسر الله إتمامه .
([29]) الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤوف المناوي ص8، 9 صححه وعلق عليه محمود حسن ربيع.
([33])أحد كبار علماء القرن درس بالمغرب ، ورحل إلى مصر فأخذ عن علمائها وتخرج فى الأزهر الشريف ، ومهر فى علم الحديث والفقه وكان ينحو إلى الاجتهاد والنظر فى الأدلة والترجيح وعدم التعصب لمذهب ، وأقام بمصر طويلا ، وتولى مشيخة الطريقة الصديقية الشاذلية بطنجة بعد وفاة أخوه الحافظ أحمد بن الصديق ، وقد ترجم لنفسه فى سبيل التوفيق فى ترجمة عبد الله بن الصديق ، القاهرة : مط الدار البيضاء ، 1990 م . وقد توفى رحمه الله تعالى سنة 1413 هـ .
([35])انظر : الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام ، بتحقيق عصام محمد الصارى ، القاهرة : مكتبة القاهرة ، ط1 ، 1419 هـ / 1998 م ، (ص 46) .
([38])نشر مكتبة القاهرة ط 1 ، 1419 هـ / 1998 م . هذه الرسالة ضاعت فى حياة الشيخ ، حتى عدها الشيخ مفقودة وحكى قصتها فى سبيل التوفيق (ص 132) ، ثم وجدها ابن الناشر فى مخزن المكتبة ، وطبعت بعد وفاة مؤلفها بست سنين .
([41])رفع الإشكال عن مسألة المحال ، لعبد الله بن الصديق . القاهرة : د ن ، مط هجر ، ط 1 ، 1408 هـ / 1987 م ، (ص 34) . وذكر نحوه فى أولياء وكرامات (ص 44) .
([44]) وأيضا في أوائل عصر المماليك منذ القرن السابع الهجري ، وإن كانت الكرامات حول الأولياء ظهرت بوضوح وتفشت بصورة رهيبة في أواخر عصر المماليك.
([45]) بحث للأستاذ الدكتور أحمد صبحي بمجلة عالم الفكر الكويتية عدد يوليو، أغسطس، سبتمبر سنة 1975 المجلد السادس العدد الثاني وعنوان البحث: التصوف: ايجابياته وسلبياته.