رأينا للطريق الصوفى اتجاهين متميزين للتصوف عند صوفية القرنين الثالث والرابع، (راجع: @الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع@)
أحدهما: سني يتقيد أصحابه فيه بالكتاب والسنة، ويربطون أحواله ومقاماته بهما. والآخر: شبه فلسفي، ينزع أصحابه فيه إلى الشطحيات، وينطلقون من حال الفناء إلى إعلان الاتحاد أو الحلول.
وقد استمر الاتجاه الأول أثناء القرن الخامس الهجري بوضوح، على حين اختفى الاتجاه الثاني أثناءه، وإن كان قد عاود الظهور في صورة أخرى عند أفراد من متفلسفة الصوفية في القرن السادس وما بعده.
واختفاء الاتجاه الثاني في القرن الخامس راجع في رأينا إلى غلبة مذهب أهل السنة والجماعة الكلامي -الذي انتصر له أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة 324هـ([1])- على ما سواه من المذاهب، ومحاربته الغلو الذي ظهر في التصوف على يد كل من البسطامي والحلاج، وأصحاب الشطح عمومًا، وكل أنواع الانحرافات الأخرى التي بدأت تظهر في ميدان التصوف.
ولذلك اتخذ التصوف في القرن الخامس اتجاهًا إصلاحيًّا واضحًا على أساس من إرجاعه إلى أطاره السليم فى ضوء الكتاب والسنة.
ويعتبر القشيري والهروي والغزالى من أبرز صوفية هذا القرن الذين نحوا بالتصوف هذا المنحى السني، وسينهج نهجهما في الإصلاح الإمام الغزالي في النصف الثاني من هذا القرن، ويكتب بذلك الانتصار للتصوف السني، فينتشر على نطاق واسع جدًا في العالم الإسلامي، وتستقر دعائمه زمنًا طويلًا في المجتمعات الإسلامية.
أما القشيري فهو شخصية هامة من شخصيات التصوف الإسلامي في القرن الخامس، وترجع أهميته([2])إلى ما كتب عن التصوف والصوفية في القرنين الثالث والرابع من ذوي الاتجاه السني، فحفظ بذلك أقوالهم وتراثهم في التصوف من ناحيتيه: النظرية، والعملية.
وقد كان القشيري من أكبر المدافعين عن مذهب أهل السنة والجماعة العقائدى في عصره ضد عقائد المعتزلة، والكرامية، والمجسمة، والشيعة. والمتأمل في (الرسالة القشيرية) يلاحظ في وضوح اتجاه القشيري لتصحيح التصوف على أساس عقيدة أهل السنة، ويعطينا القشيري صورة أخرى عن انحرافات صوفية القرن الخامس في عبارات أخاذة، وإصلاح التصوف في رأي القشيري لا يكون إلا بإرجاعه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، والاقتداء في ذلك بالصوفية السنيين الذين ذكرهم في رسالته من أهل القرنين الثالث والرابع.
ويستند تصوف الهروى بوضوح مثله مثل القشيرى والغزالى إلى عقيدة أهل السنة([3])، كما يعتبر من أصحاب الاتجاه الإصلاحي للتصوف، وهو من المنكرين على أصحاب الشطحيات من أمثال البسطامي والحلاج. وأهم ما كتب الهروي في التصوف كتابه (منازل السائرين إلى رب العالمين)، وهو كتاب موجز شيق يصف فيه مقامات الطريق الصوفي أو منازله، ويجعل لها بدايات ونهايات.
ويعتبر الإمام الغزالي أكبر مدافع في الإسلام عن التصوف السني، وهو التصوف القائم على عقيدة أهل السنة والجماعة، وعلى الزهد، والتقشف، وتربية النفس وإصلاحها. ويتفق الغزالي في هذا مع صوفية القرنين الثالث والرابع ، ومع القشيري والهروي وغيرهم من السابقين عليه الذين ينتمون إلى نفس الاتجاه. على أن الغزالي أعظم هؤلاء جميعًا من ناحية شخصيته، وثقافته، وتصوفه، وعلمه. وهو يعد بحق من أعظم صوفية الإسلام، وأثره على التصوف من بعده كبير للغاية.
(راجع: @الطريق الصوفى فى القرن الخامس ودور القشيرى فيه@)، وأيضا: (@الطريق الصوفى فى القرن الخامس ودور الهروى فيه@)، (@الطريق الصوفى فى القرن الخامس ودور الغزالى فيه@)
المرجع : مدخل إلى التصوف الإسلامي، د. أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 171 - 224).
([1]) نقد أبو الحسن الأشعري مذاهب المنحرفين من الصوفية القائلين بالحلول والإباحة ورؤية الله في الدينا، وذلك في مقالات الإسلاميين، استانبول 1920: جـ1، ص 5، وتابعه في ذلك مدرسته. وممن هاجموا هذه المذاهب بحجج قوية الفخر الرازي في (المسائل الخمسون)، مجموعة الرسائل: ص 357 وما بعدها.
([2]) لا يَقِلُ عنه في هذه الاهمية –أيضًا- صوفيان آخران هما: السلمي صحاب (الطبقات)، المتوفى سنة 410، والهجويري صاحب (كشف المحجوب) المتوفى بعد سنة 481هـ. وقد تتلمذ القشيري- فيما يذكر عنه- على السلمي، كما أن الهجويري التقى به وباحثه في بعض مسائل التصوف. انظر مقدمة الدكتور فير. محمد حسن للرسائل القشيرية، باكستان 1384هـ=1964م: ص 9، ص 23.
([3]) ينتمي الهروي إلى الحنابلة، وهم من السنة والجماعة، غاية ما في الأمر أنهم أكثر تعويلًا على الحديث، ولا يتأولون النصوص الدينية خلافًا للأشعرية. وليس هناك في رأينا ما يبرر اعتباره ممثلًا لنوع من التصوف خاص يسميه زميلنا الدكتور عبد القادر محمود في كتابه: (الفلسفة الصوفية في الإسلام، القاهرة، 1967، ص 100 وما بعدها) بــ: (التصوف السلفي)، فإن لفظ (السلفية) أطلق فيما بعد على ابن تيمية وتلاميذه، وهم السلف المتأخرون.
والمحاسبي من قبل الهروي يدرج في عداد السلف. (الشهرستاني (الملل والنحل) بهامش الفصل: جـ1، ص 92-93)؛ لأنه دافع عن عقائد السلف، ويقصد بهم: الصحابة ومن تابعهم، بالأدلة العقلية، وألف فيها. لذلك فإن مذهب أهل السنة والجماعة يشمل الهروي وغيره ممن اتخذوا اتجاهه من قبله، وهذا لا ينفي أنه توجد تحت هذا المذهب الواحد اتجاهات مختلفة بالنسبة لاستخدام التأويل أو عدم استخدامه.