الكلام بشكل أكثر توسعا وعمقا عن الطمأنينة أو السكينة التى صارت غاية من غايات الطريق الصوفى ، ومرتبة من مراتبه يعد من الخصائص المميزة للطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع (راجع: @الطريق الصوفى فى القرنين الثالث والرابع@).
والطمأنينة عند صوفية القرنين الثالث والرابع تعني سكون القلب وراحته، وهي من خصائص تصوفهم، وهي عندهم حال رفيع، ولا تكون إلا «لعبد رَجَحَ عَقْلُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ، وَرَسَخَ عِلْمُهُ، وَصفَا ذِكْرُهُ، وَثَبَتَتْ حَقِيقَتُهُ»([1]). وهذا لا يكون إلا في نهاية الطريق.
وقد ورد اطمئنان القلب في القرآن في مثل قوله تعالى: +الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ_[الرعد:28]، وقوله تعالى حاكيًا عن إبراهيم: +قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي_[البقرة:260].
وليس من شك في أن الصوفية يُعَانُونَ في بداية طريقهم صراعًا نفسيًّا يُصَاحِبُهُ الحزن والقلق، أما في النهاية فهم يتحققون بهدوء القلب نتيجة لاستقرار الإيمان بالله فيه وأنه مرجع الكل، ومصدر كل نعمة، ومنتهى كل أمل، وبذلك يصدق توكلهم عليه. فالمعرفة الحقيقية بالله يصاحبها اطمئنان كامل، أو فرح حقيقي، أو سعادة غامرة.
وقد بين لنا الطوسي في (اللمع) في باب خاص عقده عن حال الطمأنينة، أن الطمأنينة على ثلاثة أقسام([2]):
الأول:للعامة، الذين إذا ذَكَرُوا اللهَ اطْمَأَنُّوا إلى ذكرهم له، وأنه سوف يستجيب لدعائهم، ويدفع عنهم الآفات، وهو ما قال الله: +النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ_[الفجر:27]، أي المطمئنة بالإيمان بأنه لا دافع ولا مانع إلا الله.
والثاني:للخاصة، وهو ما اقترن بالرضا بقضاء الله، والصبر على بلائه، والإخلاص والتقوى والسكون، لقوله تعالى: +إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ_[النحل:128]، وقوله تعالى: +إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ_[البقرة:153]، فاطمأنوا وسكنوا إلى قوله: +مَعَ_، فكانت طمأنينتهم ممزوجة برؤية طاعاتهم منهم.
والثالث:لخاصة الخاصة، وهو اطمئنان يختلف عن سابقيه، فأصحابه يعلمون أن قلوبهم لا تقدر أن تطمئن إلى الله أو تسكن معه؛ هيبة له وتعظيمًا، إذ هو غاية لا تدرك لأنه: +لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ_[الشُّورى:11]، +وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ_[الاخلاص:4]، وهم كفنائهم عن أنفسهم مأخوذون بجلال الله وجماله وعظمته، فشغلهم ذلك عن رؤية أعمالهم، وعن كل معنى آخر إذ هم لله لا لشيء دونه.
ويشير الصوفية إلى أن تحقق الصوفي بالطمأنينة يضفي عليه قوة نفسية، ويجعل الغير يأنس به، فيقول سهل بن عبد الله التستري: «إذا سكن قلب العبد إلى مولاه، واطمأن إليه، قويت حال العبد، فإذا قويت، أنس بالعبد كل شيء»([3]).
ويشيرون كذلك إلى أن اطمئنان القلوب يحدث من مداومة ذكر الله والمعرفة به. وقد سئل الحسن بن علي الدامغاني عن قوله تعالى: +الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ_[الرعد:28]، فقال: إن القلوب هَشَّتْ من معرفة جلال الله تعالى وعظمته، وبَشَّتْ من معرفة رحمة الله وفضله، وسَكَنَتْ من معرفة كفايةالله وصدقه، واستأنست من معرفة إحسان الله ولطفه([4]).
وجدير بالذكر أن الصوفية يُدْخِلُونَ في اعتبارهم أن من أسباب الطمأنينة أن يجد الفرد كفايته في المجتمع، فهم لم يكونوا يعيشون في فراغ، ولذلك نجد صوفيًا كأبي الدراني يقول: «النفس إذا أحرزت قوتها، اطمأنت»، وسئل الشبلي عن معنى هذه العبارة: «إذ عرفت من يُقَوِّتُهَا -أي الله-، اطمأنت»([5]). ويقول أبو تراب النخشعي([6])كذلك: «التوكل طرح البدن في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكافي، فإن أُعْطِيَ شَكَرَ ، وإن مُنِعَ صبر»([7]).
وقد يعبر بعض الصوفية – أيضًا- عن الطمأنينة بالفرح، والفرح الحقيقي عندهم هو شهود الله تعالى في حركاتهم وسكناتهم، ورؤية المنعم الوحيد عليهم، فأعمال طاعتهم وعباداتهم ليست إلا فضلًا منه ورحمة، وهذا مشار إليه في قوله تعالى: +قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ_[يونس:58]، وهذا يقتضي منهم الفرح بما مَنَّ الله عليهم، لا الفرح بأعراض الدنيا، فهذا الفرح الأخير وَهْمٌ على التحقيق؛ لأنه يَسْتَجْلِبُ بالتدريج همومًا لا حصر لها. وإلى هذا المعنى يشير سهل بن عبد الله التستري بقوله: «من فَرِحَ بغير مفروح به استجلب حزنًا لا انقضاء له»([8]).
خلاصة القول أن صوفية القرنين الثالث والرابع جعلوا حال الطمأنينة مميزًا لتصوفهم، ويعتبر كلامهم في رأينا ممهدًا لنظرية الغزالي في السعادة الصوفية الحاصلة عن المعرفة بالله، كما سنبين فيما بعد.
المرجع : مدخل إلى التصوف الإسلامي، د. أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 160- 162).