إن الطريق الصوفى يقوم في جوهره على أساس التجربة الصوفية المباشرة لاقتراب العبد  من الرب.

والتجربة الصوفية، تقتضي القول بملكة خاصة غير العقل المنطقي، هي التي بها يكون هذا الاقتراب، وفيها تقوم البواده واللوائح واللوامع مقام التصورات والأحكام والقضايا في المنطق العقلي.

والمعرفة فى التجربة الصوفية معاشة، لا متأملة. ويغمر صاحبها شعور عارم بقوى تضطرم فيه تغمره كفيض من النور الباهر، أو يغوص فيها كالأمواج العميقة.

ويبدو له أيضًا أن قوى عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحي، وهو لهذا يسميها واردات، ونفحات علوية، وفي مرتبة أدنى تدعى خواطر. ومن هنا يشعر صاحب هذه التجربة بإثراء في كيانه الروحي، وتحرر في أفكاره وخواطره، وانطلاق لطاقات حبيسة عميقة الغور في نفسه. ويصحب هذه الأحوال أحيانًا ظواهر نفسية غير عادية مثل الإحساس بجذبات ومواجيد.

وقد يستعان على استدعاء هذه الأحوال بوسائل صناعية، مثل السماع على حد تعبير الصوفية وتحريك البدن بطريقة منتظمة وبإيقاع متفاوت الشدة. ولهذا كان للأحوال والمقامات –بالمعنى الاصطلاحي- دور أساسي جدًّا في كل تصوف.

ويدخل في هذه التجربة الباطنة عنصر سلبي هو محاولة الكشف عن دقائق الرياء والشهوة الخفية والشرك الخفي ووساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، والخواطر المذمومة.

والتجربة الصوفية تجربة نفسية وروحية صحيحة وليست مرضا عقليا ، وهذا أمر من المهم أن نناقشه ، خاصة وأنه متعلق بالتصوف من ناحيته النفسية. وهناك في الحقيقة دراسات كثيرة حول هذا الموضوع قام بها علماء نفس متخصصون في علم النفس الديني، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عالم النفس الأمريكي وليم جيمس (W.) James، وليوبا (Jsmes,H.) Leuda، وباستيد          (Roger)  Bastide، وأندرهيل (Evelyn) Underhill، وثولس (Robert) Thouless.

ولكن من الملاحظ - على ما يؤكد الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازانى - أن كثيرين من علماء النفس الذين درسوا الظواهر النفسية للتصوف دراسة علمية لم ينصفوا الصوفية، ولعل هذا يرجع إلى بعض الأخطاء المنهجية في الدراسة، فهم كانوا يحصرون أنفسهم في دائرة التجربة الحسية وحدها، ولم يدققوا في فهم مصطلحات الصوفية التي عبروا بها عن أحوال وجدانية ذاتية خاصة لا تتصف بصفة العمومية.

وفي رأينا أن الباحث لكي يحكم على هذا النوع من الحالات الصوفية حكمًا علميًّا فلابد له من أن يقوم بتجربته، أو أن يكون لديه استعداد معين لتذوقه. أما أن يصطنع علماء النفس في بعض الأحيان منهج المماثلة في دراسة حالات التصوف، فهذا هو الخطأ بعينه؛ لتعذر مماثلتهم للصوفي في حالاته الوجدانية الخاصة مماثلة حقيقية، وهم ليسوا بصوفية. أضف إلى ذلك أن أولئك العلماء لا يدرسون صوفية موجودين فعلًا، وإنما يَكْتَفُونَ بتحليل ما خَلَّفَهُ الصوفية القدامى من آثار أدبية، وهذا يعني أن دراساتهم ليست دراسات تجريبية بمعنى الكلمة.

ومن أمثلة الأخطاء الشائعة عند بعض علماء النفس اعتبار بعض حالات  التصوف حالات مرضية عقلية.

والحقيقة أن ما يشعر به الصوفي في لحظات معينة يغيب فيها عن ذاته مؤقتًا هو الذي يؤدي به إلى القول بأن عالم الظواهر لا حقيقة له. وهذا لا يبرر الحكم على الصوفي بأنه شخص مريض أو غير سوي؛ لأن المرض العقلي يصاحبه فقدان مستمر للشعور بالأنا، والصوفي في كل حالاته لا يفقد استبصاره لذاته مطلقًا. ولو جعلنا منه شخصًا مريضًا لجعلنا كذلك من الشاعر، والكاتب، والفنان، والموسيقيّ جميعًا مرضى لا لشيء إلا لأنهم يعانون مشاعر خاصة لا يعانيها غيرهم من أفراد الناس العاديين.

المرجع : - أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 18- 22) .

- أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 13-14) .