لقد قام الصوفية أنفسهم بعملية نقد ذاتي، تبينوا فيها انحراف بعض المترسمين بالتصوف.
وأول ما لدينا في هذا الباب ما كتبه أبو نصر السراج (المتوفى سنة ۳۷۸هـ/ ۹۸۸م) في كتابه «اللمع في التصوف» (ص ٤۰۹ – ٤۳٥ ، نشرة نيكلسون ليدن سنة ۱۹۱٤).
وقد صنف الغالطين في التصوف إلى ثلاث طبقات:
«فطبقة منهم غلطوا في الأصول: من قلة إحكامهم لأصول الشريعة، وضعف دعائمهم في الصدق والإخلاص، وقلة معرفتهم بذلك، كما قال بعض المشايخ حيث يقول: إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول.
وطبقة ثانية منهم غلطوا في الفروع، وهي الآداب والأخلاق والمقامات والأحوال والأفعال والأقوال – فكان ذلك من قلة معرفتهم بالأصول، ومتابعتهم لحظوظ النفوس ومزاج الطبع، لأنهم لم يدنوا ممن يروضهم ويجرعهم المرارات ويوقفهم على المنهج الذي يؤدبهم إلى مطلوبهم. فمثلهم في ذلك كمثل من يدخل بيتًا مظلمًا بلا سراج، فالذي يفسده أكثر مما يصلحه، وكلما ظن أنه قد ظفر بجوهر نفيس لم يجد معه إلا خزفًا خسيسًا لأنه لم يتبع أهل البصيرة الذين يميزون بين الأشباه والأشكال والأخلاق والأجناس. فعند ذلك يقع لهم الغلط، ويكثر منهم الهفوة والشطط: فهم متحيرون ومتفرقون بين منهزم ومفتون، ومتجبر ومحزون، ومغتر بالظنون؛ ومحترف بالجنون، ومتلبس بالمجون، ومكمد بالشجون، ومدع ومفتون ومتمن للمنون. فسبحان من قسم لهم بذلك، وهو العالم بدائهم ودوائهم، وسقمهم وشفائهم.
والطبقة الثالثة كان غلطهم فيما غلطوا فيه زلة وهفوة، لا علة وجفوة. فإذا تبين ذلك عادوا إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، فسدوا الخلل، ولموا الشعث وتركوا العناد وأذعنوا للحق وأقروا بالعجز؛ فعادوا إلى الأحوال الرضية والأفعال السنية والدرجات الرفيعة، فلم تنقص مراتبهم هفوتهم، ولم تظلم الوقت عليهم جفوتهم، ولم تمتزج بالكدورة صفوتهم.
وكل طبقة من هذه الطبقات الثلاث على أحوال شتى من التفاوت والإرادات والمقاصد والنيات... فمن غلط في الأصول فلا يسلم من الضلالة، ولا يرجى لدائه دواء إلا أن يشاء الله ذلك. والغلط في الفروع أقل آفة وإن كانت بعيدة من الإصابة([1]).
إذن تنقسم أغلاط الصوفية –بحسب السراج- إلى أغلاط في الأصول وأغلاط في الفروع، وغلط موقوت مالبثوا أن عادوا بعده إلى الطريق المستقيم. والأغلاط في الأصول خطيرة لا يرجى لدائها دواء إلا أن يشاء الله، والغلط في الفروع أهون وإن كان لا يزال غلطًا، أما الغلط الموقوت فأمره هين.
ويبدأ ببيان الأغلاط في الفورع، فيحصرها فيما يلي:
أ- تفضيل الغني على الفقير، وبالتالي ترك التوكل والاعتماد على الكسب بدلا من الثقة بما وعد الله.
ب- فتور الهمة نتيجة التبرم بطول المجاهدة والرياضة، والكسل والتواني والاستسلام للأماني الكواذب.
جـ- ظنه أن ترك الطعام والعزلة والانفراد كافية لردع النفس الأمارة، مع أن الآفات في الباطن.
د- ظنه أن التشبه بكبار المشايخ في الملبس والأشارات وحفظ الحكايات، واستعمال الألفاظ الصحيحة والعبارات الفصيحة- يؤدي إلى أن يكون المرء منهم .
هـ- ظنه أن «التصوف هو السماع والرقص واتخاذ الدعوات وطلب الأرفاق والتكلف للاجتماعات على الطعام وعند سماع القصائد والتواجد والرقص ومعرفة صياغة الألحان بالأصوات الطيبة والنغمات الشجية والاختراع من الأشعار الغزلية بما يشبه أحوال القوم، على نحو ما رأوا من بعض الصادقين أو بلغهم ذلك عن المتحققين»([2]).
الأغلاط في الأصول: أما الأغلاط في الأصول فيذكر منها:
أ- الغلط في معنى الحرية والعبودية، «فظنت الفرقة الضالة أن اسم الحرية أتم من اسم العبودية. للمتعارف بين الخلق أن الأحرار أعلى مرتبة وأسنى درجة في أحوال الدنيا من العبيد. فقاست على ذلك. فضلت وتوهمت أن العبد ما دام بينه وبين الله تعالى تعبد فهو مسمى باسم العبودية. فإذا وصل إلى الله فقد صار حرًّا، وإذا صار حرًّا سقطت عنه العبودية. وإنما ضلت هذه الفرقة لقلة فهمها وعلمها وتضييعها لأصول الدين، وقد خفى على هذه الفرقة الضالة أن العبد لا يكون في الحقيقة عبدًا حتى يكون قلبه حرًّا من جميع ما سوى الله عز وجل، فعند ذلك يكون في الحقيقة عبدًا لله. وما سمى الله تعالى المؤمنين باسم أحسن من اسم العبد، إذ يقول: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان:63] ، ﴿نَبِّئْ عِبَادِي﴾ [الحجر:49]، لأنه اسم سمى به ملائكته فقال: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ_ [الأنبياء:26](الكتاب نفسه ص ٤۲۰ – ٤۲۱).
ب- الغلط في الإخلاص، فقد زعمت فرقة «أن الإخلاص لا يصح للعبد حتى يخرج عن رؤية الخلق ولا يوافقهم في جميع ما يريد أن يعمله –كان ذلك حقًّا أو باطلاً. وإنما ضلت هذه الفرقة لأن جماعة من أهل الفهم والمعرفة تكلموا في حقيقة الإخلاص أنه لا يعنو لهم ذلك حتى لا يبقى على العبد بقية من رؤية الخلق والكون وكل شىء غير الله تعالى. فظنت هذه الفرقة وطمعت أن يصح لهم بالدعوى والتقليد والتكلف، قبل سلوك مناهجها والتأدب بآدابها والابتداء ببدايتها حتى يؤديه ذلك إلى نهايتها حالاً بعد حال، ومقامًا بعد مقام. فأداهم الدعوى والطمع الكاذب إلى قلة المبالاة وترك الأدب ومجاوزة الحدود، فأسرهم الشيطان وغلبتهم النفس والهوى بما خيل إليهم أنهم برسم المخلصين في الإخلاص... وقد خفي عليهم – لشقاوتهم - أن العبد المطلوب بدرجة الإخلاص هو العبد المهذب المؤدب الذي هجر السيئات وجرد الطاعات وعمل في الإرادات، ونازل الأحوال والمقامات، حتى أداه ذلك إلى صفاء الإخلاص»([3]).
ج- الغلط في تفضيل الولاية على النبوة، والذي جرهم إلى الوقوع في هذا الغلط قصة موسى والخضر، إذا استخلصوا منها أن الولي أفضل من النبي، لأن الخضر في هذه القصة يبدو هو العالم بباطن الأمور وأسرار الحوادث، بينما موسى جهل هذه الأسرار والبواطن، «فظنت هذه الطائفة الضالة - هكذا يقول السراج - أن ذلك نقص في نبوة موسى عليه السلام وزيادة للخضر –عليه السلام- على موسى في الفضيلة: فأداهم ذلك إلى أن فضلوا الأولياء على الأنبياء عليهم السلام.
وقد ذهب عنهم أن الله جل وعز يخص من يشاء بما يشاء كيف شاء، كما خص آدم عليه السلام بسجود الملائكة له، وخص نوح عليه السلام بالسفينة وصالح عليه السلام بالناقة، وإبراهيم عليه السلام بأن جعلت عليه النار بردًا وسلامًا، وخص عيسى عليه السلام بإحياء الموتى، وخص نبينا صلى الله عليه وسلم بانشقاق القمر ونبع الماء بين أصابعه» (ص ٤۲۳). ويذكر شواهد أخرى لغير الأنبياء كلها تهدف إلى بيان أن الله يخص من المواهب ما يشاء من عباده، ولا محل لأن يستنبط من ذلك قاعدة عامة، بل الأمر أمر فردي يخص بعض الأفراد دون بعض. وعلى هذا فلا محل للاستشهاد بقصة الخضر وموسى على أن الولي أفضل من النبي.
د- الزعم بأن الأصل في الأشياء أنها مباحة، وأنما وقع الخطر بسبب التعدي «فإذا لم يقع التعدي تكون الأشياء على أصلها من الإباحة... فأداهم ذلك بجهلهم إلى أن طمعت نفوسهم بأن المحظور الممنوع منه المسلمون مباح لهم إذ لم يتعدوا في تناوله» (ص٤۲٤). والسبب في وقوعهم في هذا الغلط أنهم سمعوا بما كان يحدث بين كبار مشايخ الصوفية من مشاركة بعضهم لبعض في المال والطعام، ويرى السراج أن الأولى بأن يقال : إن «الأشياء في الأصل محظورة وإنما وقعت إباحتها بالأمر والنهى في التوسعة والرخص» (ص٤۲٥) .
هـ- غلط الحلولية الذين زعموا« أن الحق- تعالى ذكره!- اصطفى أجسامًا حل فيها بمعاني الربوبية، وأزال عنها معاني البشرية» (ص٤۲٦).
والسراج يقرر أن هذا ما بلغه عن جماعة، ولكنه لم يعرف منهم أحدًا ولم يصح عنده شيء من ذلك الخبر. ولهذا يقول:«إن صح عن أحد أنه قال هذه المقالة وظن أن التوحيد أبدى له صفحته بما أشار إليه، فقد غلط في ذلك، وذهب عليه أن الشيء مجانس للشيء الذي حل فيه، والله تعالى بائن من الأشياء، والأشياء بائنة منه بصفاتها. والذي ظهر في الأشياء فذلك آثار صنعته ودليل ربويته، لأن المصنوع يدل على صانعه، والمؤلف يدل على مؤلفه. وإنما ضلت الحلولية- إنصح عنهم ذلك- لأنهم لم يميزوا بين القدرة التي هي صفة القادر، وبين الشواهد التي تدل على قدرة وصنعة الصانع، فتاهت عند ذلك. فبلغني أن منهم من قال بالأنوار، ومنهم من قال بالنظر إلى الشواهد المستحسنات نظرًا بجهل، ومنهم من قال: حالّ في المستحسنات وغير المستحسنات. ومنهم من قال: حالّ في المستحسنات فقط. ومنهم من قال: على الدوام. ومنهم من قال: وقتًا دون وقت- فيما بلغنى. فمن صح عنه شيء من هذه المقالات فهو ضال بإجماع الأمة، كافر يلزمه الكفر بما أشار إليه. والأجسام التي اصطفاها الله تعالى اجسام أوليائه واصفبائه، اصطفاها بطاعته وخدمته، وزينها بهدايته، وبين فضله على خلقه. والله تعالى موصوف بما وصف به نفسه، وكما وصف به نفسه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. والذي غلط في الحلول غلط لأنه لم يحسن أن يميز بين أوصاف الحق وبين أوصاف الخلق، لأن الله تعالى لا يحل في القلوب ، وإنما يحل في القلوب الإيمان، والتصديق له والتوحيد والمعرفة» (ص ٤۲٦- ٤۲۷).
وواضح من هذا النص أن السراج ليس فقط ينكر الحلول، بل وينكر أيضًا أو يشك في أن يقول به أحد من الصوفية، ويورد الخبر كله في صيغة الشك، ويقرر أنه لم يصح عنده خبر أن هناك فرقة صوفية تقول بذلك. ولم يوضح السراج ما اسم هذه الجماعة القائلة بالحلول ولا إلى من تنتسب. وفي المواضع الأخرى التي أشار فيها إلى أقوال للحلاج لا يبدو أنه يعد الحلاج من هذه الجماعة القائلة بالحلول. وهو أمر غريب يسترعي النظر، لأن السراج كان واسع الاطلاع جدًا على مذاهب كبار مشايخ الصوفية.
وعلى كل حال فإن استنكار السراج لمذهب الحلولية استنكار قاطع صريح، ووصف الحلول بأنه كفر صريح وضلال بإجماع الأمة.
و- الغلط في فناء البشرية، بالزعم بأن من تضعف بشريته يجوز أن يكون موصوفًا بصفات الإلهية. وغلطهم ناشىء من كونهم لم يستطيعوا التفريق بين البشرية، وبين أخلاق البشرية. إذ البشرية لا تزول عن البشر، بينما أخلاق البشرية تتبدل وتتغير «بما يرد عليها من سلطان أنوار الحقائق. وصفات البشرية ليست هي عين البشرية. والذي أشار إلى الفناء أراد به فناء رؤيا الأعمال والطاعات ببقاء رؤيا العبد، لقيام الحق للعبد بذلك، وكذلك فناء الجهل بالعلم وفناء الغفلة بالذكر» (ص ٤۲۷).
ز- ادعاء الرؤية بالقلوب في دار الدنيا، مثل الرؤية بالعيان في دار الآخرة.
ويقول السراج إنه بلغه أن جماعة من أهل الشام ادعوا هذه الدعوى، لكنه لم ير أحدًا قال بذلك ولا بلغه «عن إنسان أنه رأى منهم رجلاً له محصول».
ويذكر أنه «قد تاه ووسوس» -على حد تعبيره- في هذا المعنى قوم من المجاهدة والسهر وترك الطعام والشراب والانفراد والخلوة وكثرة التوكل. وصحبهم الإعجاب مع دل بما هم فيه. فاصطادهم أبليس –لعنه الله- فخيل إليهم كأنه (رأى الله) على عرش أو سرير، وله أنوار تتشعشع» (ص ٤۲۸). ويورد السراج بعد ذلك أمثلة لما تخيله بعض الصوفية من أوهام، لما أخبروا شيوخهم بها بينوا ضلالهم وكشفوا لهم عن الأوهام التي وقعوا فيها.
ح- وقريب من هؤلاء من زعموا أنهم يرون أنوارًا، أو أن في قلوبهم أنوارًا، وكأن هذه الأنوار مستمدة من الأنوار التي وصف الله بها نفسه. ويزعمون أن ذلك من أنوار المعرفة والتوحيد والعظمة. مع أن أنوار القلوب هي معرفة الفرقان بين الحق والباطل.
ط- كذلك غلط قوم في عين الجمع. «فلم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله تعالى إليهم، ولم يصفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه، وظنوا ذلك منهم احترازًا حتى لا يكون مع الله شىء سوى الله عز وجل. فأداهم ذلك إلى الخروج من الملة وترك حدود الشريعة، لقولهم إنهم مجبرون على حركاتهم حتى أسقطوا اللائمة عن أنفسهم عند مجاوزة الحدود ومخالفة الاتباع. ومنهم من أخرجه ذلك إلى الجسارة على التعدي والبطالة وطمعته نفسه على أنه معذور فيما هو عليه مجبور.
وإنما غلط هؤلاء لقلة معرفتهم بالأصول والفروع، فلم يفرقوا بين الأصل والفرع، ولم يعرفوا الجمع و التفرقة، فأضافوا إلى الأصل ما هو مضاف إلى الفرع، وأضافوا إلى الجمع ما هو مضاف إلى التفرقة، فلم يحسنوا وضع الأشياء في مواضعها فهلكوا» (ص ٤۳۱).
ى- الغلط في فهم معنى الأنس والبسط. فقد توهم قوم «أن بينهم وبين الله – عز وجل- حالاً من القرب والدنو» فلم يراعوا الحشمة والآداب والحدود، فانبسطوا إلى ما كانوا يحتشمونه. وهذا غلط «لأن الآداب والأحوال والمقامات خلع من الله تعالى على عباده، وكرامة لهم. وهم مستوجبون الزيادة إذا صدقوا في قصودهم. فمتى ما تركهم وخلاهم عن توفيقه وعنايته بهم، حتى جاوزوا الحدود وخالفوا ما أمروا به –نكصوا على أعقابهم وسلبوا الخلع التي أكرموا بها من الطاعات» (ص ٤۳۲).
يا- «وثم جماعة من البغداديين غلطوا في قولهم إنهم عند فنائهم عن أوصافهم دخلوا في أوصاف الحق. وقد أضافوا أنفسهم –بجهلهم- إلى معنى يؤدي ذلك إلى الحلول أو إلى مقالة النصارى في المسيح» (ص ٤۳۳). والسبب في غلطهم أنهم ظنوا أن أوصاف الحق هي الحق. وهذا كفر؛ لأن الله تعالى لا يحل في القلوب، وإنما الذي يحل في القلوب هو الإيمان والتوحيد له والتعظيم لذكره.
يب- الغلط في ادعاء فقد الحس عند المواجيد «حتى لا يحسوا بشىء، ويخرجوا عن أوصاف المحسوسين»، وقد زعمت ذلك طائفة من أهل العراق «قد غلطوا في ذلك لأن فقد الحس لا يعلمه صاحبه إلا بالحس، لأن الحس صفة البشرية». لكن السراج يعترف مع ذلك بأن من الممكن أن «يغيب العبد عن حسه بحسه عند المواجيد الحادثة عن الأذكار القوية، كما حكى جعفر الخلدي –فيما قرأت عليه- عن الجنيد رحمه الله أنه قال: سألت سري السقطي –رحمه الله- عن المواجيد الحادثة عند الأذكار القوية مما يقوى على العبد. فقال: نعم ! يضرب وجهه بالسيف ولا يحس». وإنما يعني بقوله –والله أعلم -: «لا يحس»: يعني لا يجد ألمًا، وهو بالحس لا يجد ألمًا، كما أنه بالحس كان يجد ألمًا. وما دام في العبد روح وهو حي، لا يزول عنه الحس لأن الحس مقرون بالحياة والروح» (ص ٤۳٤).
يج- وآخر الأغلاط التي يوردها السراج أن «ثم جماعة غلطوا في الأرواح وهم طبقات شتى، كلهم تاهوا وغلطوا، لأنهم تفكروا في كيفية ما رفع الله عنه الكيفية ونزهه عن إحاطة العلم في أن يصفه أحد إلا بما وصفه الله به. فقوم قالوا: الروح نور([4])من نور الله، فتوهموا أنه نور ذاته فهلكوا. وقوم قالوا: حياة من حياة الله تعالى. وقوم قالوا: الأرواح المخلوقة، وروح القدس من ليست بمخلوقة. وقوم قالوا: الأرواح قديمة، إنها لا تموت ولا تعذب ولا تبلى. وقوم قالوا: الأرواح تتناسخ من جسد إلى جسد. وقوم قالوا: للكافر روح واحد، وللمؤمن ثلاثة أرواح، وللأنبياء والصديقين خمسة أرواح. وقوم قالوا: الروح خلق من النور. وقوم قالوا: الروح روحانية خلقت من الملكوت، فإذا صفت رجعت إلى الملكوت. وقال قوم: الروح روحان: روح لاهوتية، وروح ناسوتية.
وهؤلاء كلهم قد غلطوا فيما ذهبوا إليه وضلوا ضلالاً مبينًا وجهلوا ما يلزمهم في ذلك من الخطأ –وذلك من تعمقهم وتفكرهم بآرائهم فيما منع الله تعالى قلوب العباد من التفكر فيه بقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85]. والذي عليه أهل الحق والإصابة عندي –والله أعلم - أن الأرواح كلها مخلوقة، وهي أمر من أمر الله تعالى، ليس بينها وبين الله تعالى سبب ولا نسبة غير أنها من ملكه وطوعه وفي قبضته، غير متناسخة. ولا تخرج من جسم فتدخل في غيره، وتذوق الموت كما يذوق البدن وتتنعم بنعم البدن، وتعذب بعذاب البدن، وتحشر في البدن الذي تخرج منه. وخلق الله تعالى روح آدم –عليه السلام- من الملكوت وجسمه من التراب»([5]).
تلك هي الغلطات الثلاث عشرة التي ذكر السراج أن الصوفية وقعوا فيها وإذا قارناهابما يأخذه ابن الجوزي وابن تيمية على الصوفية لوجدنا اشتراكًا في بعضها، وخصوصًا فيما ذكره ابن تيمية حتى ليكاد ابن تيمية يتفق مع السراج، والسراج من أكبر المدافعين عن التصوف الحق والصوفية الصادقة:
۱) فابن تيمية يتفق مع السراج في نقد دعاة الحلول والاتحاد بين الصوفية ودمغهم بالكفر.
۲) ويتفق كلاهما في إنكار دعوى بعض الصوفية الفناء عن صفات البشرية في أحوال المواجيد العالية.
۳) ويتفقان في إنكار دعوى تفضيل الولي على النبي، وعلى هذا الإنكار يتفق كل أو جل الصوفية.
٤) ويتفقان في استنكار دعاوى الأنس ورؤية الأنوار.
ب) عند أبي عبدالرحمن السلمي (المتوفى سنة ٤۱۲هـ)
ويتلو السراج في النقد الذاتي أبو عبد الرحمن السلمي. فقد كرس رسالة لذلك عنوانه: «رسالة في غلطات الصوفية»، توجد منها نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية بالقاهرة ضمن المجموع رقم ۱۸۷ مجاميع، من الورقة ۳۳ب إلى الورقة ۸۸أ.([6])
والغلطات التي يسردها السلمي لا تخرج في مجموعها عما ذكره السراج.
جـ) عند أبي حامد الغزالي (المتوفى سنة ٥۰٥هـ/ ۱۱۱۱م)
وتعرض الغزالي لبيان بعض غلطات الصوفية في كتابه «المنقذ من الضلال» وذلك حين ينطقون بعبارات، وهم في وجدهم، يشم منها معاني الحلول والاتحاد والوصول. يقول وهو يتحدث عما يقوم به الصوفي من مشاهدات ويصل إليه من مكاشفات حتى يشاهد الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمع منهم أصواتًا ويقتبس منهم فوائد: «ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة: الحلول، وطائفة: الاتحاد، وطائفة: الوصول. وكل ذلك خطأ. وقد بينا وجه الخطأ في كتاب «المقصد الأسني»([7]).
والغزالي في «المقصد الأسنى» يبين «أن للمعرفة سببين: أحدهما السبيل الحقيقي، وذلك مسدود إلا في حق الله تعالى، فلا يهتز أحد من الخلق لنيله وإدراكه إلا ردته سبحات الجلال إلى الحيرة، ولا يشرئب أحد لملاحظته إلا غض للدهشة طرفه. وأما السبيل الثاني، وهو معرفة الأسماء والصفات، فذلك مفتوح للخلق، وفيه تتفاوت مراتبهم([8])». ويستشهد بقول الجنيد: لا يعرف الله إلا الله تعالى.
وحظوظ المقربين من معاني أسماء الله ثلاثة:
الأول : معرفة معاني الأسماء على سبيل المكاشفة والمشاهدة.
والثاني : التشوق إلى الاتصاف بما يمكن من تلك الصفات الإلهية «ليقربوا بها من الحق قربًا بالصفة، لا بالمكان، فيأخذوا من الاتصاف بها شبهًا من الملائكة المقربين عند الله»([9]).
والثالث : «السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها. وبه يصير العبد ربانيا، أي قريبًا من الرب تعالى، فإنه يصير رفيقًا للملأ الأعلى من الملائكة، فإنهم على بساط القرب. فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم، نال شيئًا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق تعالى»([10]).
فالغزالي لا يقر من القرب غير هذا، ولا يقر أبدا إمكان الوصول، ناهيك عن الحلول والاتحاد.
د) عند أبي حفص عمر بن محمد السهروردي (المتوفى سنة ٦۳۲هـ/ ۱۲۳٤م)
فإذا انتقلنا إلى أبي حفص عمر بن محمد السهررودي، صاحب كتاب «عوارف المعارف» الذي يعتبر من أشهر متون التصوف، وجدناه يعقد فصلا صغيرًا بعنوان «من انتمى إلى الصوفية وليس منهم». وفيه يحمل على القلندرية لأنهم أقوام خربوا العادات واطرحوا التقيد بالآداب الاجتماعية، ولا يبالون. ويميز بينهم وبين الملامتية على أساس أن هؤلاء يكتمون العبادات. لكنهم يتمسكون بكل أبواب البر والخير.
وأبو حفص السهروردي يرى أن الصوفي الحق هو الذي «يضع الأشياء مواضعها، ويدبر الأوقات والأحوال كلها بالعلم... ويستر ما ينبغي أن يستر، ويظهر ما ينبغي أن يظهر ويأتي بالأمور في موضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص»([11]).
كذلك يهاجم الصوفية الذين يدعون ترك الحركات حتى كأن الواحد منهم كالباب، وذلك بزعمهم من باب البر والتقوى إلى الله. ويورد قول الجنيد فيهم «إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال. وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه يرجعون فيها»([12]).
وثالثًا نراه –شأنه شأن السراج والسلمي والغزالي- يحمل على الذين «يقولون بالحلول، ويزعمون أن الله تعالى يحل فيهم ويحل فى أجسام يصطفيها». ويؤول قول الحلاج: «أنا الحق» وقول أبي يزيد:«سبحاني» ! بأنهما قالا ذلك «على معنى الحكاية عن الله تعالى»- لا على أنه تعبير من القائل عن حال نفسه.
المرجع : أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 83-95) .
([6]) راجع الفص الشيثي من ‹‹فصوص الحكم››، وحيدر آملي في ‹‹جامع الأسرار ومنبع الأنوار›› ص ۳۸٦- ۳۹٤، تهران سنة ۱۹٦۹وإن كان في كلامهما تفريقات دقيقة.
([8]) أبو حامد الغزالي: ‹‹المقصد الأسنى، شرح أسماء الله الحسنى›› ص ۲۲. القاهرة، طـ ۲، بدون تاريخ، مطبعة السعادة.