لقد ثبت أن ظاهرة التصوف، ظاهرة مشتركة بين أهل المعرفة وأهل الديانات المختلفة، سواء في صورة تصوف فلسفي أم ديني.
فقد وجدنا قومًا يقوم تصوفهم على طلب المعرفة، وهو ما يسمى (بالتصوف الفلسفي) الذي عرف في تراث مدارس الفلسفة اليونانية، ولاسيما مدرسة الإسكندرية، كما عرف في أورُبا في عصريها الوسيط والحديث، وفي العصر الحاضر وجدنا فلاسفة أورُبيين ذوي نزعة روحية صوفية، مثل (برجسون) الفرنسي، و(برادلي) الإنجليزي، وهؤلاء صوفية بمفهوم الغرب، لا بمفهوم الإسلام.
أما التصوف الديني فهو ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعًا؛ لما فيه من أسس تقوم على تصفية النفس وتهذيبها بالعبادة، والانقطاع عن الدنيا، والفناء في الله.
وكان أهل الهند يؤمنون بالنرفانا -أو الخلاص- ويعتبرونها غاية الغايات في الاتصال بالله عز وجل، لكن هذه الأمور وما يشبهها مرفوضة عندنا في الإسلام، إذ إن التصوف الحق هو ما طابق الكتاب والسنة وسلوك السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ونجد فيلسوفًا مثل (رسل) في عصرنا هذا، يرى أن العاطفة الصوفية هي الملهم لأعظم معرفة إنسانية، وأن أعظم المفكرين شعروا بالحاجة إلى الجمع والتوفيق بين العلم والتصوف؛ كي يبلغوا مرحلة السمو الفكري([1]).
ومن جهة أخرى فإذا كان التصوف نزعة إنسانية عامة ، فإن التصوف الإسلامى فى بعض اتجاهاته يمتاز بانفتاحه واتساع أفقه بحيث يمكن القول بأنه ذو نزعة عالمية .
فبعض الصوفية المسلمين يمتازون بنزعة إنسانية عالمية منفتحة على سائر الأديان والأجناس. وإذا كان الإسلام في جوهره دينًا منفتحًا على كل الأجناس لا فرق عنده بين مسلم ومسلم يختلفان جنسًا أو لغة أو مكانًا أو زمانًا، فإن الصوفية المسلمين قد وسعوا من الآفاق التي يستشرفون إليها، فامتدوا بها إلى الأديان الأخرى:
فأبو يزيد البسطامي يدعو الله لجميع الناس، ويلتمس منه أن يبسط رحمته على النوع البشري كله، ويود لو يتشفع للناس كافة، لا للمذنبين من الأمة الإسلامية وحدهم، بل لكل الخطاة بأي دين دانوا، ويود لو تحمل عن الخطاة جميعًا العقاب، فاتسع وجوده ليشمل النار كلها، فلا يبقى فيها موضع لغيره فيقول: إلهي ! إن كان في سابق علمك أن تعذب أحدًا من خلقك بالنار، فعظم خلقي فيه (أي في النار) حتى لا يسع معي غيري».
ومحي الدين ابن عربي عبر عن هذه النزعة الكلية في أبياته المشهورة:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة |
* |
فمرعى لغزلان، ودير لرهبانٍ |
أدين بدين الحب، أنى توجهت |
* |
ركائبه فالحب ديني وإيمانيٍ([2])
|
وكثيرًا ما ردد جلال الدين الرومي هذا المعنى في قصائده([3])، ومن ذلك ما ترجمته:
«أيها المسلمون ! ليت شعري ما التدبير؟ أنا لا أدري من أنا:
|
فلا أنا مسيحي ولا يهودي ولا زرداشي ولا مسلم
|
ولا شرقي ولا غربي، ولا علوي ولا سفلي
|
ولا أنا من عناصر الطبيعة، ولا أنا من الفلك الدوار
|
ولا أنا هندي ولا صيني ولا بلغاري ولا من سقسين
|
ولا عراقي ولا من أرض خراسان
|
علامتي بلا علامة، مكاني بلا مكان
|
ولا أنا جسم ولا روح، فنفسي روح الأرواح
|
لما لفظت الاثنينية رأيت العالم واحدًا |
إني أرى واحدًا، وأنشد واحدًا وأعلم واحدًا وأقرأ واحدًا([4]) |
وفي هذه المعاني أيضًا يقول ابن الفارض في تائيته المشهورة:
وما عقد الزنار حكمًا سوى يدي |
* |
فإن حل بالاقرار بي فهي حلت |
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد |
* |
فما بار بالانجيل هيكل بيعة |
وأسفار توراة الكليم لقومه |
* |
يناجي بها الأحبار في كل ليلة |
وإن خر للأحجار في البد عاكف |
* |
فلا وجه للإنكار بالعصبية([5])
|
فهو يجمع بين تجارب النصارى واليهود والبراهمة ويرى فيها فروعًا لينبوع واحد، هو التقوى الكاملة المبنية على أساس وحدة الوجود.
وهكذا يحقق بعض الصوفية المسلمين - وإلى أعلى درجة - ذلك المجتمع المفتوح Societe couverteالذي تحدث عنه برجسون في كتابه المشهور: «ينبوعا الأخلاق والدين»، لأنهم منفتحون على كل التجارب الدينية الإنسانية، متعاطفون مع سائر التيارات الروحية، مستشعرون للأخوة الإنسانية الجامعة بين الناس جميعًا على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
وإن كان لا شك أن مثل هذه الاتجاهات لا تلقى القبول المجمع عليه من سائر الصوفية الآخرين، ولا تلقى كلمة إجماع بين الرفض والقبول عند الباحثين فى التصوف، بل هناك من ركب مركب الشطط فى فهم مثل هذه الاتجاهات على أنها دعوى لوحدة الأديان ، وهو ما نجزم ببراءة هؤلاء الصوفية منها ، ولكن يبقى رغم هذا الاختلاف أنه وُجد من الصوفية المسلمين من اتسموا بتلك النزعة الإنسانية العالمية الراقية، التى يستطيعون من خلالها التسامح والتعامل وقبول الآخر مهما كان خلافنا - العقدى والدينى معه - تلك النزعة التى ما أشد حاجة الإنسانية المعاصرة إليها.
المراجع: - أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 39- 41) باختصار .
- أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 27-30) باختصار وتصرف وإضافة.
([3]) ‹‹شمس الحقائق›› مختارات من كليات ديوان شمس تبريز لرضاولي خان هدايت، ص ۲٥۷. طبعة تبريز، ۱۳۱٦شمسية. وتوجد في ‹‹كليات شمس تبريز›› ص ٤٦۰، طبع الهند، مطبعة منشي نول كشور في لكهنو، مع زيادات واختلاف في الرواية.
([4]) ترجم نيكلسون هذه القصيدة بتصرف كبير في ما ترجمه من ‹‹قصائد مختارة من ديوان شمس تبريز›› (ص ۳٤٤)، ومن هنا جائت ترجمة د: أبي العلا عفيفي عن ترجمة نيكلسون غير متمشية مع الأصل الفارسي (راجع ‹‹في التصوف الإسلامي وتاريخه›› دراسات قام بها نيكلسون، وترجمها عفيفي، ص ۹٥، القاهرة سنة ۱۹٥٦).
([5]) شرح الكاشاني على ‹‹تائية ابن الفارض›› ص ٤٦۳- ٤٦٤. طبع حجر سنة ۱۳۱۹هـ. الأبيات أرقام ۷۳۲- ۷۳٥. وعقد الزنار كناية عن اعتناق المسيحية واليهودية والمجوسية. واليد هو الصنم الهندوكي والبوذي، والمقصود: بيت أو معبد اليد. وقد ترجم ‹‹التائية›› إلى الألمانية نظمًا همر –بورجشتال Hammer-Purgstallفي فينا سنة ۱۸٤٥؛ وإلى الإيطالية Ignazio di Matteo(روما سنة ۱۹۱۷). وعلق على هذه الترجمة ك.أ. نلينو Nallino في RSOجـ۸(روما، ۱۹۱۹- ۱۹۲۰)؛ وترجمها إلى الانجليزية نيكلسون في كتابه ‹‹دراسات في التصوف الاسلامي›› ص ۱۹۹- ۲٦٦، كمبردج سنة ۱۹۲۱.