إن مصدر التصوف الإسلامي القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم «فكل آية تذكر الفكر أو الذكر أو الاستقامة أو الذاكرين أو المستغفرين أو العابدين أو الموقنين أو المتبتلين أو عباد الله المخلصين أو أولي الألباب، وكل آية تصف الخوف أو الرجاء أو البشرى أو الاستقامة أو الإيمان أو المعرفة أو الصبر أو الرضا أو التوكل أو الحب أو التوحيد الحق. آية صوفية ... وأقواله صلى الله عليه وسلم تشريع وتعليم ، وثمرة أعماله إيمان ويقين، وذلك طريقه العملي وهو أصل طريق القوم. أما أحواله صلى الله عليه وسلم فمعرفة وتحقيق على قاعدة أن الأقوال وهي العلم تنتج الأعمال وهي الطاعات والعبادات، والعبودية لله في العبادات والمعاملات تثمر الأحوال الشريفة فيما بينه وبين الله من أسرار كاتصافه بأخلاق الحق وشهوده وذلك ما يفسره حديث جبريل عليه السلام والإيمان والإحسان أو قل الشريعة والطريقة والحقيقة»([1]).
ومرة أخرى نسأل مخلصين هؤلاء الأساتذة الأفاضل الذين حاولوا أن يردوا التصوف الإسلامي إلى مصادر أجنبية مختلفة هندية وفارسية ويونانية ... لماذا لم يحاولوا من ناحية أخرى أن ينظروا إلى الجانب المقابل فيردوا –مثلا- التصوف الهندي أو الفارسي إلى تأثر بعض زهاد الهند وفارس ببعض المتصوفة المسلمين؟!
إن حركة التأثير والتأثر شاعت في القرن التاسع عشر الميلادي مع مد حركة استعمار العالم الغربي للعالم العربي والإسلامي فحاول بعض المفكرين أن يردوا كل ما هو إسلامي أو عربي إلى أصول غريبة عنه.
ومن الغريب أن بعض المفكرين المسلمين سار على منحىأساتذته من مستشرقين وغيرهم من أصحاب مدرسة التأثير والتأثر.
والحق أن جذور التصوف الإسلامي كما قلنا موجودة في الإسلام نفسه ومن هنا فنحن نرى أن حركة تغريب التصوف الإسلامي برده إلى مصادر غريبة عنه حركة تبعد الفكرالإسلامي عن مصادره الأصيلة.
لقد دار جدل طويل بين الدارسين والباحثين حول مصدر التصوف الإسلامى، ومدى تأثير العوامل الأجنبية عليه ، ومن ثم مدى أصالته ، وسوف نعرض لذلك بشىء من التفصيل فيما يلى .
1- هل التصوف الإسلامي من مصدر أجنبي؟
منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى اليوم وآراء المستشرقين الذين عُنُوا بدراسة التصوف الإسلامي مختلفة في مسألة المصدر الذي يمكن أن يرد إليه هذا التصوف.
وقد كان أوائل المستشرقين أميل إلى رد التصوف إلى مصدر واحد، أما المتأخرين منهم فهم أميل إلى رفض فكرة المصدر الواحد.
وقد عبر المستشرق الإنجليزي رينولد نيكولسون في كتابه: (The mystics of Islam) عن ذلك قائلًا: ((برهن البحث الحديث على أن أصل الصوفية لا يمكن أن يرد إلى سبب واحد محدود. ومن هنا لم يرتض باحث منصف هذه التعميمات الجارفة من أمثال أنها رد فعل العقل الآري تجاه الدين السامي الفاتح، أو أنها ليست إلا نتاجًا خالصًا للفكر الفارسي أو الهندي.
وأمثال هذه الأحكام -وإن يكن لها نصيب من الصحة- تغفل البديهية التي تحتم لإقامة رابطة تاريخية بين (أ) و(ب) أنه لا يكفي أن نستند بشبه أحدهما للآخر من غير أن نبين في الوقت عينه:
1- أن صلة (ب) الفعلية مع (أ) هي بحيث تجعل النسبة المفترضة جائزة.
2- أن الفرض المحتمل متفق مع جميع الحقائق المؤكدة المدعمة.
وهذه الآراء التي ذُكِرَتْ لا تقوم لهذه الشروط، فإن لم تكن الصوفية شيئًا غير أنها ثورة الروح الآرية فكيف نفسر الحقيقة التي لا سبيل إلى الطعن فيها من أن بعض كبار رواد التصوف الإسلامي من أهل سوريا ومصر؟ وأنهم عرب الجنس.
وكذلك يفعل المتحمسون للأصل البوذي أو الفيدي من أن التيار الرئيسي للتأثير الهندي على الحضارة الإسلامية يرجع إلى عهد متأخر، مع أن علم الكلام، والفلسفة، والعلم في الإسلام قد آتت بواكيرها الغضة فوق تربة تشربت الحضارة الهلينية.
والحق أن الصوفية شيء معقد، ومن هنا لم يكن في الطَّوْقِ أن يقدم جواب بسيط في السؤال عن أصلها))([2]).
هذه القاعدة المنهجية التي ذكرها نيكولسون ذات دلالة عميقة. وسنرى أن المستشرقين -باستثناء قلة قليلة- كانوا يلقون بالأحكام جزافًا في مسألة نشأة التصوف، غير منتبهين إلى ما يمكن أن يوجه إليهم من نقد منهجي على أساس القاعدة التي يذكرها نيكولسون.
- فهناك من المستشرقين من ذهب إلى القول بأن التصوف من مصدر فارسي. ومن هؤلاء ثولك (Thoulk)، من قدماء المستشرقين في القرن التاسع عشر والذي ذهب إلى أن التصوف الإسلامي مأخوذ من أصل مجوسي، وحجته في ذلك أن عددًا كبيرًا من المجوس ظلوا على مجوسيتهم في شمال إيران بعد الفتح الإسلامي، وأن كثيرين من مشائخ الصوفية الكبار ظهروا في الشمال من إقليم خراسان، وأن بعض مؤسسي فرق الصوفية الأوائل كانوامن أصل مجوسي.
ومنهم –أيضًا- المستشرق دوزي (Dozy) في كتابه:
(Essai sur 1, histoire de 1, Islamisme).
فهو يرى أن التصوف جاء إلى المسلمين من فارس حيث كان موجودًا قبل الإسلام، وأنه جاء إلى فارس من الهند. فقد ظهرت في رأيه في فارس منذ أحقاب بعيدة فكرة صدور كل شيء عن الله، والقول بأن العالم لا وجود له في ذاته، وأن الموجود الحقيقي هو الله. وكل هذه المعاني يفيض بها التصوف الإسلامي.
ويمكننا الرد على وجهة النظر القائلة بأن التصوف من مصدر فارسي لأن بعض كبار شيوخ التصوف من أصل فارسي -كمعروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي-؛ بأن ازدهار التصوف لم يكن ثمرة لجهود أولئك فحسب، وإنما أعان على ازدهار التصوف كذلك عدد ليس بقليل من الصوفية العرب الذين عاشوا في سوريا أو مصر أو المغرب، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الداراني،وذا النون المصري، ومحي الدين ابن عربي، وعمر بن الفارض، وابن عطاء الله السكندري، بل إن بعض هؤلاء كان له أكبر الأثر فيما بعد في التصوف الفارسي كابن عربي.
ومن الملاحظ كذلك أن ظهور الكرخي والبسطامي كان بعد تَحَنُّثِ النبيصلى الله عليه وسلم وزهد الزهاد الأوائل، ولا يمكن إغفال أثر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والزهاد الأوائل في تشكيل قواعد السلوك إلى الله عند من جاء بعد ذلك من الصوفية، فرسًا كانوا أو عربًا.
أما رأي (دوزي) القائل بوجود أفكار مثل صدور كل شيء عن الله، والقول بأن العالم لا وجود له في ذاته، وأن الموجود الحقيقي هو الله عند الفرس، ويحتمل أن تكون هي مصدر التصوف في الإسلام؛ فيرد عليه بأن مثل هذه الأفكار لا توجد إلا عند أصحاب (وحدة الوجود) الذين ظهروا في وقت متأخر منذ القرنين السادس والسابع الهجريين، وليس كل صوفية الإسلام قائلين بهذا المذهب. وإنما القائلون به قلة قليلة.
(ب) وهناك طائفة أخرى من المستشرقين رأوا أن التصوف من مصدر مسيحي. ويستند القائلون بهذا الرأي إلى حجتين، الأولى: ما وُجِدَ من صلات بين العرب والنصارى في الجاهلية والإسلام. والثانية: ما يلاحظ من أوجه الشبه بين حياة الزهاد والصوفة، وتعاليمهم، وفنونهم في الرياضة والخلوة وبين ما يقابل هذا في حياة السيد المسيح وأقواله، والرهبان وطرقهم في العبادة والملبس([3]).
ومن الذين يذهبون إلى هذا الرأي في نشأة التصوف فون كريمر (Von Kremer)، وجولدزيهر (Coldziher)، ونيكولسون (Nicholson)، وآسين بلاثيوس (Asin Palacios)، وأوليري (O'leary)، وغيرهم.
فيذهب فون كريمر مثلًا في كتابه (تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام) إلى أن الزهد الإسلامي نشأ بتأثير من الزهد المسيحي، أما التصوف ففيه عنصران: أحدهما مسيحي، والآخر هندي بوذي([4]).
ويقول أوليري في كتابه (الفكر العربي ومكانه في التاريخ) ناقلًا عن فون كريمر: ((إن هذا الفريق من الزهاد أو النساك كان ذا نمو محلي بين العرب تطورت به مؤثرات مسيحية مما قبل الإسلام، ونحن نعلم أن الرهبانية المسيحية كانت معروفة لدى العرب على تخوم الصحراء السورية وفي صحراء سيناء، ...ويحتمل حقًّا أن الذي أوحى بالتنسك إلى النساك الأولين في الإسلام هو الأديرة المسيحية، إما مباشرة، أو من طريق ما ذكرنا من تَحَنّثِ محمد))([5]).
ويفهم من كلام أوليري أن تحنث النبى صلى الله عليه وسلم كان هو نفسه بتأثير من الزهد المسيحي! ويقول نيكولسون –أيضًا- عن المؤثرات المسيحية: ((من الجلي أن ميول الزهد والتأمل التي أشرت إليها كانت على وفاق مع الفكرة المسيحية، ومنها استمدت أسباب قوتها. فكثير من نصوص الإنجيل، ومن الأقوال المنسوبة للمسيح مقتبس في أقدم تراجم الصوفية. والرهابنة المسيحيون كثيرًا ما يظهرون في مقام المعلمين، يُولُون النصح والتسديد لزهاد المسلمين المنتقلين. وقد رأينا أن ثوب الصوف –الذي جاء منه الصوفي- مسيحي الأصل، ونذور الصوم عن الكلام، والذكر، ورياضات الزهد الأخرى، لعلها أن ترد إلى هذا الأصل نفسه. وأيضًا فيما يتصل بمذهب الحب الإلهي))([6]).
ويقرر جولدزيهر وجود تيارين متميزين في التصوف الإسلامي: الأول الزهد، وهذا في نظره قريب من روح الإسلام ومذهب أهل السنة، وإن كان متأثرًا إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية، والثاني التصوف بمعناه الدقيق، وما يتصل به من كلام في المعرفة، والأحوال، والمواجيد، والأذواق. وهذا الأخير متأثر بالأفلاطونية المحدثة، والبوذية الهندية. وقد أخذ بهذه التفرقة بين (الزهد) و(التصوف) كثير من الباحثين بعد جولدزيهر.
ونحن وإن كنا لا ننكر وجه الشبه بين (الزهد) و(التصوف) الإسلاميين وبين ما يقابلها عند المسيحين من زهد وتصوف، إلا أن وجه الشبه وحده لا ينهض دليلًا على أن الزهد أو التصوف الإسلامي من مصدر مسيحي.
إن نيكولسون نفسه في كتابه (تاريخ العرب الأدبي) يعتقد أن لا ضرورة للتحري عن أصل مبادئ الصوفية خارج دائرة الإسلام، ويعتبر أن المسيحية على حين أنها أثرت في التصوف، إلا أنها ليست مصدرًا له؛ لأن الزهد الذي قام عليه التصوف هو نفسه إسلامي.
ولا شك في أن الموضوعات التى تتناول مصدر الطريق الصوفى من الكتاب والسنة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه، تثبت أن رياضات التصوف، والحب الإلهي وغير ذلك مأخوذة من مصدر إسلامي، بحيث يكون التماسها في المسيحية تكلفًا لا معنى له.
وجدير بالذكر أن الصلات التي أشار إليها أوليري ونيكولسون بين زهاد المسلمين وزهاد المسيحيين ورهبانهم بعد الإسلام، يمكن أن ترد هي نفسها إلى مصدر إسلامي، فقد امتدح القرآن الكريم حال الرهبان والقساوسة في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[المائدة: 82-83].
ومع هذا فنحن لا ننكر تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية، على نحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية، كالكلمة، واللاهوت، والناسوت وما إليها، ولكن هذا لم يظهر إلا في وقت متأخر -أواخر القرن الثالث الهجري- بعد أن كان زهد الزهاد قد استقر في القرنين الأول والثاني الهجريين وأصبح دعامة لكل تصوف لاحق.
ولذلك فإن من الإنصاف العلمي القول بأن مذاهب الصوفية في العلم، ورياضاتهم العملية، ترد أساسًا إلى مصدر إسلامي. إلا أنه مع مرور الوقت، ومحكم التقاء الأمم، واحتكاك الحضارات، تسرب إليها شيء من المؤثرات المسيحيةأو غير المسيحية، فظن بعض المستشرقينخطأ أن الصوفية أخذوا أول ما أخذوا عن المسيحية.
(جـ) وهناك من المستشرقين من رأى أخذ التصوف من مصدر هندي. ويميل هؤلاء إلى رد بعض نظريات التصوف الإسلامي وضروب معينة من الرياضات العملية إلى ما يشبهها في تصوف الهنود. ومن هؤلاء نذكر هورتن (Horten)، وهارتمان(Hartmann).
فهورتن -ويؤيده في نزعته هارتمان- يرى أن التصوف الإسلامي إنما يستمد أصوله من الفكر الهندي. وقد بذل هورتن في هذا الصدد من الجهد ما لم يبذله مستشرق آخر.
وقد أبان لنا الدكتور عفيفي([7])عن أن هورتن ارتأى بعد تحليله لتصوف الحلاج، والبسطامي، والجنيد أن التصوف الإسلامي في القرن الثالث الهجري كان مشبعًا بالأفكار الهندية، وأن الأثر الهندي هو أظهر ما يكون في تصوف الحلاج.
وفي بحث من بحوثه يحاول أن يؤيد النظرية نفسها -أعني أن التصوف من مصدر هندي- عن طريق بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثًا فيلولوجيًّا، وهو ينتهي إلى أن التصوف الإسلامي هو بعينه مذهب (الفيدانتا) الهندية([8]).
أما هارتمان فقد ساق حججًا كثيرة لإثبات أن مصدر التصوف الإسلامي هندي، نذكر منها:
1- أن معظم أوائل الصوفية من أصل غير عربي، كـإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، وأبي يزيد البسطامي، ويحيى بن معاذ الرازي.
2- أن التصوف ظهر أولًا وانتشر في خراسان.
3- أن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية والغربية، فلما دخل أهلها في الإسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة.
4- أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود ذلك الأثر الهندي([9]).
5- أن الزهد الإسلامي الأول هندي في نزعته وأساليبه، فـ: (الرضا) فكرة هندية الأصل، واستعمال المخلاة والسبح عادات هندية.
يضاف إلى ما تقدم التشابه بين عقائد الهنود في وحدة الوجود والفناء، وعقائد متفلسفة الصوفية فيهما.
ولكن هذا التشابه في رأي بعض المستشرقين، مثل الأستاذ براون في كتابه (تاريخ الفرس الأدبي) مبالغ فيه وسطحي أكثر من أن يكون جوهريًّا.
ويقلل أوليري –أيضًا- من شأن المؤثرات الهندية في التصوف الإسلامي قائلًا: «ومما يستحق الملاحظة أن الزاهد إبراهيم بن أدهم المتوفى عام 162هـ يوصف عادة بأنه أميرٌ بلخي تَرَكَ العَرْشَ ليصبح درويشًا، وعند الدراسة الفاحصة على أي حال لا يبدو أن المؤثرات البوذية يمكن أن تكون قوية جدًّا؛ لأن ثمة نقطة خلاف جوهرية بين الصوفية والبوذية، ويوجد شبه سطحي بين النرفانا (Nirvana) البوذية وبين الفناء الصوفي الذي يقصد به استغراق النفس في الروح الإلهي. إن المذهب البوذي ليمثل النفس كأنها فقدت فرديتها في الطمأنينة التي في الكنيسة المطلقة، على حين نجد المذهب الصوفي على الرغم من قوله بفقدان الفردية، يعتبر الحياة الباقية في جوهرها تأملًا وجديًّا للجمال الإلهي. وثمة شبيه هندي للفناء، ولكن ليس في البوذية، وإنما فيما تقول به (الفيدانتا) من وحدة الوجود([10])».
ويرد على أصحاب نظرية المذهب الهندي بما سبق، أن ما قاله نيكولسون وهو: أن التشابه بين مذهب (أ) ومذهب (ب) لا يعني بالضرورة أخذ أحدهما عن الآخر. فالوصول إلى نتيجتين متشابهتين قد يأتي نتيجة لتطبيق نفس المنهج أو الخضوع لظروف نفسية واحدة.
ومما هو جدير بالذكر أنني لم أعثر على نصوص صريحة تدل على معرفة صوفية المسلمين بعقائد الهنود ورياضاتهم، إلا عند الصوفي المتفلسف عبد الحق بن سبعين الأندلسي المتوفى سنة 669هـ، فهو ينقل في رسالة له في الذكر تسمى (الرسالة النورية) شيئًا من صيغ الأذكار عند البراهمة([11]).
وهذا يعني من ناحية أخرى أن الأثر الهندي لم يظهر عند صوفية الإسلام المتفلسفين كابن سبعين إلا في القرن السابع الهجري، وذلك بعد أن كان التصوف الإسلامي قد استقرت دعائمه تمامًا في القرون الستة السابقة.
(د) بقي بعد ذلك أن نناقش بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن التصوف الإسلامي يرد إلى مصدر يوناني.
والقائلون بهذا الرأي من المستشرقون كثيرون، إلا أنهم يَعْنُونَ بالتصوف الآخذ من مصدر يوناني نوعًا خاصًّا منه هو التصوف الإلهي الفلسفي (Theosophical mysticism) الذي بدأ في الظهور في القرن الثالث الهجري على يد ذي النون المصري المتوفى 245هـ.
وقد تساءل أوليري عن مصدر الكلام في الإلهيات الذي نشأ في التصوف الجديد، وانتهى إلى القول بأن هذا المصدر كان الأفلاطونية المحدثة. كما برهن على ذلك الأستاذ نيكولسون في قصائده المختارة من ديوان (شمس تبريز) المنشور في كمبردج سنة 1898م، وكذلك بروان في الفصل السادس عشر من كتابه (تاريخ الفرس الأدبي).
ولكن أوليري يرى أن الأثر الذي تسرب إلى الإسلام عند نقل الفلسفة اليونانية قد سبقه أثر غير مباشر عن طريق اللغتين السريانية والفارسية؛ لأن المؤثرات الأفلاطونية المحدثة كانت تعمل عملها بالفعل في السوريين والفرس في عصر ما قبل الإسلام. ولابد أن نذكر في مقدمة الآثار المباشرة المتأخرة ما يسمونه (أوثولوجيا أرسطوطاليس) الذي يُوصَفُ بأنه أهم كتاب في الأفلاطونية المحدثة، وأكثر كتبها التي ظهرت ذيوعًا. وهو ترجمة مختصرة للكتب الثلاثة الأخيرة من تاسوعاتأفلوطين. وكان تصوف أفلوطين فلسفيًّا. كما أضحت الأفلاطونية المحدثة مذهبًا لاهوتيًّا على يد يامبليخوس ووثَنِيِّ حماة وأمثالهم. ويذهب أوليري بعد ذلك إلى أنه من المحتمل أن أثرًا من الكتب المنسوبة لديونيسيوس كان موجودًا في الإسلام في ذلك الوقت([12]). ومهما يكن فقد أراد أوليري أن يثبت أن الصوفية منذ القرن الثالث وما بعده من هذا المصدر اليوناني.
ويقول نيكولسون – أيضًا - إن التصوف الفلسفي الإلهي أثر من آثارالنظر اليوناني. ولا مناص من الاعتراف بما في التصوف من امتزاج الفكر اليوناني والدين الشرقي لا سيما الأفلاطونية المحدثة، والمانوية، والغنوصية([13]).
ونحن لا ننكر الأثر اليوناني على التصوف الإسلامي، فقد وصلت الفلسفة اليونانية عامة، والأفلاطونية المحدثة خاصة، إلى صوفية الإسلام عن طريق الترجمة والنقل، أو الاختلاط مع الرهبان النصارى في الرها وحران. وقد خضع الفلاسفة المسلمون لسلطان أرسطو، وإن كانوا عَرَّفُوا فلسفة أرسطو على أنها فلسفة إشراقية؛ لأن عبد المسيح بن ناعمة الحمصي حينما ترجم الكتاب المعروف بـ: (أثولوجياأرسطوطاليس) قَدَّمَهُ إلى المسلمين على أنه لأرسطو، على حين أنه مقتطفات من تاسوعات أفلوطين.
وليس من شك في أن فلسفة أفلوطين السكندري التي تَعْتَبِرُ المعرفةَ مدركة بالمشاهدة في حال الغيبة عن النفس وعن العالم المحسوس؛ كان لها أثرها في التصوف الإسلامي فيما نجده من كلام متفلسفي الصوفية عن المعرفة. وكذلك كان لنظرية أفلوطين السكندري في (الفيض، وترتب الموجودات عن الواحد أو الأول) أثرها على الصوفية المتفلسفين من أصحاب الوحدة، كالسهروردي المقتول، ومحيي الدين ابن عربي، وابن الفارض، وعبد الحق بن سبعين، وعبد الكريم الجيلي، ومن نحا نحوهم.
ونلاحظ بعد ذلك أن أولئك المتفلسفة من الصوفية نتيجة اطلاعهم على الفلسفة اليونانية قد اصطنعوا كثيرًا من مصطلحات هذه الفلسفة مثل: الكلمة، الواحد، العقل الأول، العقل الكلي، العلة والمعلول، الكلي،...إلخ([14]).
على أننا وإن كان نعترف بما للفلسفة اليونانية عامة، والأفلاطونية المحدثة خاصة، من أثر على التصوف الإسلامي إلا أننا لا نرد التصوف الإسلامي كلهإلى مصدر يوناني، فالصوفية الأوائل لم يكونوا مقبلين على فلسفة اليونان إقبال علماء الكلام أو الفلاسفة المسلمين. ولم يُقْبِلْ بعض الصوفية على هذه الفلسفة إلا في وقت متأخر حينما عَمَدُوا إلى مزج أذواقهم القلبية بأنظارهم العقلية، وذلك منذ القرن السادس الهجري وما بعده.
2- تعقيب:
ونحن بعد استعراض الآراء المختلفة التي قيلت في نشأة التصوف الإسلامي نحب أن ننبه الأذهان إلى فرض يبدو معقولًا، وهو أن صوفية الإسلام فيما نرى لم يكونوا مجرد نقلة عن الفرس أو المسيحين أو اليونان، أو غيرهم؛ لأن التصوف متعلق أساسًا بالشعور والوجدان. والنفس الإنسانية واحدة على الرغم من اختلاف الشعوب والأجناس، وما تَصِلُ إليه نفس بشرية بطريقة المجاهدات والرياضات الورحية قد تصل إليه أخرى دون اتصال واحدة منهما بالأخرى، وهذا يعني وحدة التجربة الصوفية، وإن اختلف تفسيرها من صوفي إلى آخر بحسب الحضارة التي ينتمي إليها.
وعلى ذلك فالتشابه بين التصوف الإسلامي وغيره من أنواع التصوف الأجنبية لا يعني دائمًا وأبدًا أخذه عنها، وإنما الأرجح بحسب ما وضحنا أن يكون التصوف الإسلامي صادرًا عن بواطن صوفية المسلمين، إذا معرفتهم كما يقولون هم أنفسهم: ذوق وعيان، ولا تتأتى عن طريق النقل والبرهان.
ولعل بعض المستشرقين قد دارت بأذهانهم مثل هذه الفكرة، فقد عَدَلَ المستشرق الإنجليزي نيكولسون عن موقفه في مسألة نشأة التصوف، ومال إلى رده إلى مصدره الإسلامي.
وقد بين الدكتور عفيفي في مقدمته([15])التي كتبها لطائفة من الدراسات التي قام بها نيكولسون وترجمها هو بعنوان (في التصوف الإسلامي وتاريخه): إن ثمة تحولًا ظاهرًا في موقف نيكولسون من مسألة نشأة التصوف، نراه في المقال الذي نشره سنة 1921 في (دائرة معارف الدين والأخلاق) تحت عنوان: (التصوف) يعترف فيه صراحة بمنزلة العامل الإسلامي من بين العوامل التي ساعدت على نشأةالتصوف؛ ولذلك أنكر النظرية الشائعة التي استند إليها فون كريمر وأمثاله في ادعائهم أن التصوف مشتق من أصل هندي فارسي، وهو قولهم: إن أهم خصائص التصوف الإسلامي القول بـ(وحدة الوجود)، وإن كل متصوف إسلامي يدين بهذه العقيدة. وقد نفى نيكولسون القول بـ(وحدة الوجود) حتى عن الحلاج الذي أُثِرَ عنه قوله: «أنا الحق»، وعن عمر ابن الفارض الذي روى عنه قوله: «أنا هو»، بل عن أبي يزيد البسطامي الذي عرف عنه قوله: «سبحاني ما أعظم شأني». وذهب إلى أن مذهب (وحدة الوجود) لم يظهر في التصوف الإسلامي على حقيقته إلا منذ زمن ابن عربي المتوفى سنة 638هـ.
ويقول نيكولسون ما نصه: «كل الأفكار التي وصفت بأنها دخيلة على المسلمين ووليدة ثقافة أجنبية غير إسلامية؛ إنما هي وليدة الزهد والتصوف اللذين نشأ في الإسلام، وكانا إسلاميين في الصميم».
بل إن نيكولسون أنصف التصوف الإسلامي بعبارت قوية بليغة في كتابه (تراث الإسلام) حيث قال مبينًا تأثر الغرب المسيحي به:
«أما فيما يتصل بالمسائل الصوفية من ناحيتيها السيكلوجية والنظرية، فالغرب لا يزال يتعلم الكثير عن المسلمين، ولكن إلى أي مدى تعلم الغرب بالفعل من مفكري الإسلام ومتصوفيهم في القرون الوسطى، عندما كانت أشعة الفلسفة والعلوم المنبثقة من المراكز الثقافية في أسبانيا تضيء جميع أوربا المسيحية. فهذه مسألة لا تزال رهن البحث والدرس التفصيلي. ولكن دين الغرب للمسلمين كان ولا شك عظيمًا، بل قد يكون غريبًا حقًّا أن رجالًا مثل القديس توماس الأكويني، وإيكهارت، ودانتيلم يصل إليهم أثر من هذا المصدر، فإن التصوف كان الميدان الذي اتصلت به مسيحية القرون الوسطى بالإسلام اتصالًا وثيقًا».
ومن المستشرقين الذين نظروا إلى مسألة مصدر التصوف نظرة علمية منصفة الأستاذ ماسينيون (Massignon)، وهو مستشرق فرنسي كرس جهوده العلمية لدراسة التصوف الإسلامي، وقد اتخذ لإثبات نظريته في التصوف منهجًا علميًّا دقيقًا هو بحث مصطلحات الصوفية وإرجاعها إلى مصادرها الأولى، مظهرًا بذلك العوامل التي ساعدت على نشأة التصوف في الإسلام، وكان لها تأثير في تكوينه وتطوره. وقد كتب في ذلك كتابه «بحث في أصول المصطلح الفني للتصوف الإسلامي»:
(Essai sur les origins du lexique technique du la mystique musulmane)
وانتهى من بحثه هذا إلى أن مصادر المصطحات الصوفية أربعة:
الأول: القرآن، وهو أهمها.
الثاني: العلوم العربية الإسلامية، كالحديث، والفقه، والنحو وغيرها.
الثالث: مصطلحات المتكلمين الأوائل.
الرابع: اللغة العلمية التي تَكَوَّنَتْ في الشرق في القرون الستة المسيحية الأولى من لغات أخرى، كاليونانية، والفارسية وغيرها، وأصبحت لغة العلم والفلسفة.
وعلى هذا النحو مال طائفة من المستشرقين في آخر الأمر إلى إنصاف التصوف الإسلامي على نحو لم يكن عند المتقدمين منه شيء.
وأصبح بعض المستشرقين المعاصرين يميلون إلى الأخذ بالرأي القائل: إن التصوف من مصدر إسلامي خالص، وإن الأثر الأجنبي في مجاله محدود للغاية، وأن تطور التصوف الإسلامى يتبع خَطًّا إسلاميًّا واضحًا. ومن أمثلة هؤلاء المستشرق الإنجليزي المعاصر سبنسر ترمنجهام (Spencer Trimingham) في كتابه (الطرق الصوفية في الإسلام) حيث يقول:
«إن التصوف الإسلامي تطور طبيعي داخل حدود الإسلام، ولا يمت إلا بصلة طفيفة للمصادر غير الإسلامية، مع أنه تلقى إشعاعات من الحياة الصوفية الزهدية المسيحية الشرقية وفكرها. وبالتالي فإن نظامًا صوفيًّا واسعًا ومتطورًا قد تَكَوَّنَ (في الإسلام)، ومهما كان الذي يدين به للأفلاطونية المحدثة أو الغنوصية أو التصوف المسيحي، فإنه ينبغي علينا أن ننظر إليه بحق، كما نظر إليه الصوفية أنفسهم، على أنه: النظرية الباطنة([16])للإسلام، والسر الذي تضمنه القرآن»([17]).
على أن التصوف الذي يذكر ترمنجهام عنه أنه وصلته إشعاعات من التصوف المسيحي أو من الأفلاطونية المحدثة أو الغنصوية هو نوع واحد من التصوف، وهو الذي اصطلح على تسميته بـ:(التصوف الفلسفي)، أما (التصوف السني) الذي يمثله غالبية صوفية الإسلام، فهو إسلامي النشأة والتطور. وهذا يقودنا إلى الكلام عن المصدر الإسلامي للتصوف، وسيتبين منه أن نظريات بعض متقدمي المستشرقين في مصدره لم تكن صحيحة أو منصفة، وأن الأثر الأجنبي في ميدانه لم يظهر إلا في وقت متأخر من تاريخ الإسلام، وأنه محدود للغاية، وعند طائفة قليلة من رجاله.
وقد تناولنا المصادر الإسلامية للتصوف فى عدة موضوعات ، راجع مثلا:
(@#الطريق الصوفى – مصدره الإسلامي من القرآن الكريم@).
(@#الطريق الصوفى – مصدره الإسلامي من السنة الشريفة@).
(@#الطريق الصوفى - مصدره من زهد النبى صلى الله عليه وسلم@).
(@#الطريق الصوفى – مصدره الإسلامى من حياة التابعين@).
(@#الطريق الصوفى – مصدره الإسلامي من الصحابة خاصة الخلفاء الراشدين@).
(@#الطريق الصوفى – مصدره الإسلامى من حياة أهل الصفة وبعض الصحابة رضى الله عنهم@).
للتوسع راجع :
- أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص27- 44 ، 74 - 78).
- أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 31- 43) .
- أ/د عامر النجار ، الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، القاهرة:مكتبة الأنجلو المصرية ، د ت، (ص 6 -9) .
- د/ قاسم غني ، تاريخ التصوف في الإسلام، ترجمه عن الفارسية: صادق نشأت، راجعه: د. أحمد ناجي القيسي، د. محمد مصطفى حلمي، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ط د، 1970م ، (ص 9- 22).
([8]) في التصوف الإسلامي وتاريخه: المقدمة، ص ح. و(الفيدانتا سارا): مدرسة هندية قديمة اشتق اسمها من (الفيدا). و(الفيدا): كتاب آري مقدس مكتوب باللغة السنسكريتية. ومعنى (الفيدا) هو: معرفة المجهول عن طريق الدين. في حين أن معنى (الفيدانتا) هو: تكميل (الفيدا). ويشتمل كتاب (الفيدا) على أوراد تعبدية، وأناشيد دينية، ورقى سحرية. ويرجع تاريخ هذه المدرسة إلى القرن الخامس بعيد الميلاد. ويعد مذهبها أكثر المذاهب تصويرًا للديانة البرهمية. وما لبث أن استحال مذهب هذه المدرسة إلى فلسفة نظرية في وحدة والوجود، بحيث تقرر: أن براهما في كل شيء، وكل شيء في براهما.
(محمد مصطفى حلمي، الحياة الروحية، القاهرة 1945، ص 35).
([9]) لعله يشير هنا إلى ما عقده البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) من مقارنات بين عقائد الهنود وعقائد صوفية الإسلام.
([16]) ليس المقصود هنا مذاهب الباطنية من الشيعة، وهي مذاهب تعتمد على تأويل النصوص الدينية تأويلات فلسفية، وإنما هو أن التصوف علم للباطن، بمعنى: إصلاح باطن العبد، بتخليته عن الأخلاق المذمومة وتحليته بأضدادها من الأخلاق الحميدة. وبذلك يكون التصوف خلقًا وسلوكًا متعلقًا أساسًا بباطن العبد. ومن هنا عُرِفَ التصوف بـ: علم الباطن؛ لتعلقه بالجارحة الباطنة في الإنسان وهي (القلب)، في مقابل (الفقه) أو (علم الظاهر) الذي تجري أحكامه على الجوارح الظاهرة. والصوفي لابد له من إصلاح الظاهر والباطن معًا، أو بعبارة أخرى: لابد له من الجمع بين الشريعة والحقيقة.