إن المصادر الأولى للطرق الصوفية فى طرائقها فى تربية المريدين والسالكين ترجع أول ما ترجع إلى مصادر الإسلام الأولى فى الكتاب وسنة النبى صلى الله عليه وسلم سواء القولية أو الفعلية ، هذان المصدران اللذان قام بتطبيق ما فيهما من قيم وأخلاق ومثل عليا أحسن ما يكون التطبيق السادة الصحابة رضوان الله عليهما ومن تبعهم بإحسان من التابعين ، وتابع التابعين ، وهم الذين ورد فيهم شهادة النبى صلى الله عليه وسلم بأنهم أحسن القرون فى قوله «خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
ونحن لا نجد بذور الحياة الروحية الإسلامية مغروسة في قلب النبي صلى الله عليه وسلموصحابته من الخلفاء الأربعة فحسب، وإنما نجدها –أيضًا- في قلوب صحابته من غير الخلفاء.
فأهل الصفة من الصحابة مثلًا كان لهم أثر قوي في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية، حتى إن البعض يذهب إلى أن اسم التصوف مشتق من اسمهم. وقد كان (أهل الصفة) جماعة من فقراء المهاجرين والأنصار، لم يكن لهم أهل ولا مال، فَبُنِيَتْ لهم صُفَّةٌ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم-(الصُّفَّةُ: مؤخرة المسجد)- انقطعوا فيها إلى الله، وعكفوا على العبادة ورياضة النفس، والتجرد عن أغراض الدنيا. وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28].
وبعيدا عما يحيط بأخبارهم من مبالغات بمعزل عن التحقيق العلمي التاريخي، تتعلق بعددهم ، وأسمائهم، والقبائل التي ينتسبون إليها، وأحوالهم الاجتماعية فقد وصف أبو نعيم (حلية الأولياء جـ۱ ص ۳۳۸) مجمل حالهم فقال: «هم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شىء من العروض، وعصمهم من الافتتانبها عن الفروض. وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء. لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا مال. لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبي».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلميحبهم، ويجالسهم، ويحث الناس على إكرامهم، ومعرفة فضلهم. وكان سيدنا أبو هريرة من أشهر من سكن الصُّفَّةَ طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلمولم يبرحها. وقد ذكرت لنا كتب الطبقات الشيء الكثير عنه، وعن زهده وتقشفه، وأحواله وأحوال غيره من الصحابة الذين لزموا الصُّفَّةَ.
وخلاصة أمرهم أنهم كانوا أناسًا فقراء، يقتاتون من الطعام الذي يقدم إليهم من الميسورين من المسلمين في المدينة، ولهذا أطلق عليهم لقب: «أضيافالإسلام». وكان عددهم يزيد وينقص على حسب اختلاف الأوقات والأحوال «فربما تفرق عنها (أي عن الصفة) وانتقص طارقوها من الغرباء والقادمين فيقل عددهم. وربما يجتمع فيها واردوها من الوراد والوفود فينضم إليهم فيكثرون. غير أن الظاهر منأحوالهم، والمشهور من أخبارهم غلبة الفقر عليهم، وإيثارهم القلة، واختيارهم لها: فلم يجتمع لهم ثوبان، ولا حضرهم من الأطعمة لونان... عن أبي هريرة قال: رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب: فمنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته ... عن وائلة بن الأسقع قال: كنت من أصحاب الصفة، وما منا أحد عليه ثوب تام ... وكان النبي إذا أمسى وزعهم بين بعض الميسورين من أصحابه ليتولوا إطعامهم طعام العشاء.
وكانوا يمضون أوقاتهم في تفهم القرآن وتعلمه وترديده مرتلاً مرنمًا فكان ثم من يقرأ عليهم القرآن،ويتلو الأدعية، ويذكر الله، والباقون يرددون ذلك. وفي هذا المعنى وإشارة إليهم- نزلت الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام:52].
النوازع الصوفية عند بعض الصحابة من غير أهل الصفة:
على أن بعض الصحابة، ممن لايدرجون بين أهل الصفة أو ممن لا يدخلون في عدادهم، قد امتازوا بسلوك حياة الزهد، وحياة التقوى الشديدة، وكانوا يكثرون التأمل والفكر والاعتبار، ويدعون إلى الزهد في الدنيا والانصرافعن ملاذها ونعمها؛ ويؤكدون جانب العبادة على جانب الفعل والمشاركة في الدولة والشئون السياسية.
وبهذا كانوا النواة الأولى لحركة الزهد في الإسلام. وسنقتصر على ذكر نماذج من هؤلاء الصحابة الذين نزعوا إلى الزهد والفكر، وكانوا إرهاصًا للصوفية في عهدهم الزاهر.
ومن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم : أبو الدرداء - أبو ذر الغفارى - عمران بن حصين . وسوف نتحدث بشىء من التفصيل عن هؤلاء الثلاثة رضى الله عنهم .
أبو الدرداء رضى الله عنه:
تميز سيدنا أبو الدرداء بالتفكر والاعتبار، حتى كان ذلك دأبه منذ أن فارق التجارة وانصرف إلى حياة العبادة.
لقد حاول أن يجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم له الأمر، فرفض التجارة وأقبل على العبادة. ومقت الناس في جنب الله.
وله كلمات في العبادة والتقوى تدل على بلوغه قدمًا راسخة في المعرفة الصوفية.
۱- ومن ذلك قوله: «اعبدوا الله كأنكم ترونه؛ وعدوا أنفسكم من الموتى؛ واعلموا أن قليلاً يغنيكم خير من كثير يلهيكم؛ واعلموا أن البر لا يبلى، وأن الإثم لا ينسى».
والعبارتان الأوليان ستكونان من القواعد الأساسية عند الصوفية.
۲- وليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله عز وجل؛ فإن أحسنت حمدت الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله عز وجل».
۳- «لولا ثلاث خلال لأحببت أن لا أبقى في الدنيا. فقلت: وما هن ؟ فقال: لولا وضعوجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار يكون تقدمة لحياتي، وظمأ الهواجر، ومقاعدة أقوام ينتقون الكلام كما تنتقى الفاكهة. وتمام التقوى أن يتقي الله عز وجل العبد حتى يتقيه في مثل مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرامًا، يكون حاجزًا بينه وبين الحرام. إن الله تعالى قد بين لعباده الذي هو يصيرهم إليه. قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[الزَّلزلة:7-8]. فلا تحقرن شيئًا من الشر أن تتقيه، ولا شيئًا من الخير أن تفعله».
٤- «تفكر ساعة خير من قيام ليلة».
٥- «إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهًا؛ وإنك لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في حنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتًا منك للناس».
٦- «أعوذ بالله من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع».
۷- وكتب إلى سلمان الفارسي ينصحه: «يا أخي ! اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك البلاء ما لا يستطيع العباد رده. واغتنم دعوة المبتلى. ويا أخي ! ليكن المسج بيتك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المساجد بيت كل تقي». وقد ضمن الله- عز وجل!- لمن كانت المساجد بيوتهم الروح والراحة والجواز على الصراط إلى رضوان الرب عز وجل. ويا أخي !ارحم اليتيم وأدنه وأطعمه من طعامك، فإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول- وأتاه رجل يشتكي قساوة قلبه- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتحبأن يلين قلبك»؟ فقال: نعم !قال: «أدنياليتيم منك، وامسحرأسه، وأطعمه من طعامك؛ فإن ذلكيلين قلبك ويقدرك على حاجتك».
ويا أخي !لا تجمع ما لا تستطيع شكره، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بصاحب الدنيا، يوم القيامة، الذي أطاع الله تعالى فيها وهو بين يدي ماله، وماله خلفه، كلما تكفأ به الصراط قال له ماله: امض فقد أديت الحق الذي عليك. قال: ويجاء بالذي لم يطع الله فيه، وماله بين كتفيه فيعثره ماله، ويقول له: ويلك !هلا عملت بطاعة االله –عز وجل- في ؟ فلا يزال كذلك حتى يدعو بالويل».
وياأخي !إني حدثت أنك اشتريت خادمًا. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا يزال العبد من الله، وهو منه، ما لم يخدم. فإذا خدم، وجب عليه الحساب». وإن أم الدرداء سألتني خادمًا –وأنا يومئذ موسر- فكرهت ذلك لما سمعت من الحساب. ويا أخي ! من لي ولك بأننوافى يوم القيامة ولا نخافحسابًا ؟ ! ويا أخي لا تغترن بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا قد عشنا بعده دهرًا طويلا، والله أعلم بالذي أصبنا بعده» .
8- «لو تعلمون ما أنتم راءون بعد الموت لما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه، ولخرجتم إلى الصعدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم، ولوددت أنى شجرة تعضد ثم تؤكل»([1]).
وهذه المعاني كلها صوفية، وتمثل نموذجًا متقدمًا لوعظ الصوفية. مما سنراه ابتداءً من الحسن البصري. والجملة الأخيرة حافلة بمعنى الإيثار، وسنرى نظائر لها عند بعض كبار الصوفية.
ويورد أبو نعيم طائفة غير قليلة من مثل هذه المواعظ عن أبى الدرداء التي تدعو إلى التفكير في أمر الدنيا والاعتبار بما جرى لأهلها. وفيها ينعي على جماعي المال خصوصًا. وكثيرًا ما يدعو إلى الاتعاظ بالموت. وإلى تحمل الآلام زيادة في التقوى.
أبو ذر الغفاري (المتوفى سنة 31هـ):
«كان أبو ذريتأله في الجاهلية ويقول: لا إله إلا الله، ولا يعبد الأصنام»([2])وكان شجاعًا تام الشجاعة سواء في عهد النبي وبعده.
وقد جعل ناموسه في السلوك ما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول أبو ذر: «أوصاني خليلي (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من «لا حول ولا قوة إلا بالله» فإنهن من كنز تحت العرش».
وكان صادقًا في لهجته، حتى روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر».
عمران بن حصين الخزاعي (المتوفى سنة 52هـ):
وكان من أشد أصحاب النبي اجتهادًا في العبادة([3])، ومن أشد الناس صبرًا على الآلام، فقد أصيب بداء الاستسقاءفيبطنه وعاش يتألم من ذلك ثلاثين سنة. وعرض عليه أن يكوى ليبرأ منه، فأبى حتى كان قبل وفاته بسنتين فاكتوى، فلم يفلح فيه الكي وقال: «اكتوينا، فما أفلحن ولا أنجحن»يعني المكاوى. وذكر أنه منذ أن اكتوى، تنحت عنه الملائكة، إذ كانت الملائكة قبل ذلك تسلم عليه وهو في محنته تلك. فلما اكتوى تنحت،قال فيما رواه مطرف: «أشعرت أنه كان يسلم علي. فلما اكتويت، انقطع التسليم. فقلت (أي مطرف): أمن قبل رأسك كان يأتيك التسليم، أو من قبل رجليك ؟ قال: لا، بل من قبل رأسي. فقلت: لا أرى أن تموت حتى يعود ذلك. فلما كان بعد قال لي: أشعرت أن التسليم عاد لي. قال: ثم لم يلبث إلا يسيرًا حتى مات».
وبلغ من شدة تحرجه وورعه أن عبيد الله بن زياد عينه قاضيًا، «فاختصمإليه رجلان، قامت على أحدهما البينة فقضى عليه. فقال الرجل: قضيت علي ولم تأل، فوالله إنها لباطل» ، فاستغفر الله وأسرع «فدخل على عبيد الله بن زياد، وقال: اعزلني عن القضاء. قال: مهلاً يا أبا النجيد. قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، لا أقضي بين رجلين ما عبدت الله».
ومن كلماته الحافلة بالمعاني قوله: «وددت أني رماد تذروني الرياح»، وكان مجاب الدعوة.
وهناك طائفة أخرى من الصحابة أخبارها في الزهد والنسك معروفة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: معاذ بن جبل، وسلمان الفارسي، وأبو عبيدة الجراح، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وحذيفة بن اليمان، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي. ومن أراد أن يقف على أحوال هؤلاء وأقوالهم فعليه بالرجوع إلى كتب مثل: (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصفهاني، و(اللمع) للطوسي. ونكتفي بهذا القدر من الكلام عن أحوال وأقوال الصحابة التي تمثل مصدرًا أساسيا استقى منه صوفية الإسلام الذين جاءوا فيما بعد.
المرجع : - أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 127 - 145) .
- أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 63- 64).