إن المصادر الأولى للطرق الصوفية فى طرائقها فى تربية المريدين والسالكين ترجع أول ما ترجع إلى مصادر الإسلام الأولى فى الكتاب وسنة النبى صلى الله عليه وسلم سواء القولية أو الفعلية ، هذان المصدران اللذان قام بتطبيق ما فيهما من قيم وأخلاق ومثل عليا أحسن ما يكون التطبيق السادة الصحابة رضوان الله عليهما ومن تبعهم بإحسان من التابعين ، وتابع التابعين ، وهم الذين ورد فيهم شهادة النبى صلى الله عليه وسلم بأنهم أحسن القرون فى قوله «خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». وسنقتصر على نموذج واحد شهير من عصر التابعين، وهو أويس القرنى، ولمن أراد التوسع فليراجع كتاب مثل حلية الأولياء للحافظ أبى نعيم الأصفهانى، والذى ترجم فيه للعديد من التابعين وتابعيهم بتراجم ضافية، تصوّر لنا حياتهم الفاضلة أحسن تصوير.
أويس القرني (المتوفى سنة 37هـ) :
لم يكن لأويس بن عامر القرني شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد أدرك زمانه ، فهو من التابعين المخضرمين. وأقدم مصادرنا الواسعة في ترجمته ابن سعد في طبقاته (جـ6 /161-165) وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني (المتوفى سنة 430هـ) (جـ2 /ص79-87 ط القاهرة، سنة 1932م).
وكان أويس من اليمن، من بني مراد، وكان به برص، فبرىء منه إلاموضع صغير في سعة الدرهم، وكان شديد الفقر والتقشف، أشعث، أغبر. وقد «ظنه أهله أنه مجنون فبنوا له بيتًا على باب دارهم. فكانت تأتي عليه السنة لا يرون له وجهًا. وكان طعامه مما يلتقط من النوى. فإذا أمسى باعه لإفطاره، فإن أصاب حشفة حبسها لإفطاره، وظل على هذا الفقر والتقشف حتى بعد أن أقام بالكوفة. وكان الناس لذلك يسخرون منه ويؤذونه، فحمله ذلك على التزام بيته.
وهو الذي آثر ذلك الفقر، وكان في وسعه أن يعيش عيشة مقبولة، ولما لقى عمر بن الخطاب، وحاول أن يساعده، هرب من المدينة وذهب إلى الكوفة.
وأمضى أوقاته في الخشية من الله، ذكر الشعبي قال: «مر رجل من مراد على أويس القرني فقال: كيف أصبحت ؟ قال: أصبحت أحمد الله –عز وجل. قال: كيف الزمان عليك ؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظن أنه لا يمسي، وإن أمسى ظن إنه لا يصبح: فمبشر بالجنة، أو مبشر بالنار. يا أخا مراد !إن الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحًا، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له فضة ولا ذهبًا. وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقًا».
فهو إذن كان يدعو إلى التصدق بالأموال وعدم اكتنازها، تمامًا كما كان يدعو أبو ذر الغفاري، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلم يترك له ذلك صديقًا، بل كان الناس يشتمونه، ويعينهم على ذلك الفاسقون من الولاة، والأغنياء، ورموه من أجل ذلك بعظائم الأمور.
وكانيتصدق بكل ما يصل إليه–وهو قليل جدًا، «كان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب. ثم يقول: اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به. ومن مات عريانًا فلا تؤخذني به»، وكان يضرع إلىالله شاكيًا من كونه لا يستطيع إسعافالجائعين. كان يقول: «اللهم إني أعتذر إليكاليوم من كل كبد جائعة، فإنه ليس في بيتي من الطعام إلاما في بطني. وليس في بيتي شىء من الرياش إلاما على ظهري»، وكان على ظهره خرقة قد تردى بها.
وكان في الكوفة يعظ الناس، فيقع وعظه وحديثه موقعًالا يقع حديث غيره موقعه.
ومما حكى عنه من الحكمة قوله : «السلامة في الوحدة»، وقال : «عليك بقلبك»، وقال :«طلبت الرفعة فوجدتها في التواضع، وطلبت الرئاسة فوجدتها في نصيحة الخلق، وطلبت المروءة فوجدتها في الصدق، وطلبت الفخر فوجدته في الفقر، وطلبت النسبة فوجدتها في التقوى، وطلبت الشرف فوجدته في القناعة، وطلبت الراحة فوجدتها في الزهد».
وهذه الأقوال كلها تتفق مع ما ذكرناه من سلوكه.
المرجع : أ/د عبد الرحمن بدوى ، تاريخ التصوف الإسلامي- من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت : وكالة المطبوعات ، (ص 145- 151) .