يرى الجنيد أن الصوفي الحق هو من يتحلى بثمان خصال، هي التي يبنى عليها التصوف وهي: «السخاء، والرضا، والصبر، والإشارة، والغربة، ولبس الصوف، والسياحة، والفقر».
وهذه الخصال يُقتدى فيها بثمانية أنبياء، عليهم الصلاة والسلام:
- في السخاء:بإبراهيم؛ لأنه بلغ به أن ضحى بولده.
- في الرضا:بإسماعيل؛ لأنه رضى بأمر الله فقال بترك روحه العزيزة.
- في الصبر:بأيوب؛ لأنه صبر في بلائه.
- في الإشارة:بزكريا؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم:3].
- في الغربة: بيحيى ؛ لأنه كان غريبًا في وطنه وغريبًا عن أهله بين أهله.
- في السياحة:بعيسى؛ لأنه كان في سياحته من التجرد بحيث لم يملك إلا وعاء ومُشطًا، وحين رأى شخصًا يشرب بحَفنتيه ألقى الوعاء، وعندما رآه يخلل شعره بأصابعه رمى المُشط.
- في لبس الصوف:بموسى؛ لأنه ملابسه كلها كانت صوفًا.
- وفي الفقر:بمحمد ×؛ لأن الله عز وجل بعث إليه بمفاتيح كنوز الأرض، وقال له ما معناه: «لا تشق على نفسك، وهيئ لنفسك من هذه الكنوز متاعًا وأسبابًا»، فقال: «لا أريد يا إلهي، أشبعني يومًا وأجعني يومين»([1]).
وهذا معنى ما روي عن النبي ×أنه قال: «عرض عليَّ الدنيا فأبيتها». [رواه أحمد والطبراني، عن أبي مويهبة].
وقوله أيضًا: «خُيِّرْتُ بين أن أكون نبيًّا ملكًا، أو أكون نبيًّا عبدًا؛ فأشار إلى جبريل عليه السلام أن: تواضع، فقلت: بل أكون نبيًا عبدًا، أشبع يومًا وأجوع يومًا». [رواه الطبراني عن ابن عباس، وابن حبان عن أبي هريرة].
وهذه أصول طيبة من المعاملة، التفت إليها الصوفية كثيرًا.
أما عن الصفات التي تفرَّد بها الصوفي من جملة العلماء:فقد اتفقت طبقات الصوفية مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم، وقبلوا علومهم دون أن يخالفوهم في معانيهم ورسومهم، وذلك بشرط أن يكون الأمر مجانبًا للبدع واتباع الهوى، ومنوطًا بالأسوة والاقتداء.
وإذا لم يبلغ الصوفي مرتبة الفقهاء وأصحاب الحديث في الدراية والفهم، ولم يحط علمًا بما أحاطوا به؛ فقد وجب عليه أن يرجع إليهم في الوقت الذي يُشكل عليه حكم شرعي أو حَدٌّ من حدود الدين.
فإذا اتفقوا كان بها؛ وإلا فإن الصوفية يستحبون هنا الأخذ بالأحسن والأولى والأتم؛ احتياطًا للدين، وتعظيمًا لما أمر الله به عباده، واجتنابًا لما نهاهم الله عنه.
فليس من مذهب الصوفي الحق النزول على الرخص، وطلب التأويلات، والميل إلى الترفه، وركوب الشبهات؛ لأن ذلك تهاون بالدين، وتخلف عن الاحتياط([2]).
هذا فيما يتعلق بالعلوم الظاهرة المبذولة المتداولة بين طبقات الفقهاء وأصحاب الحديث، أما بعد ذلك فإن الصوفي يحاول الارتقاء إلى درجات عالية، ويتعلق بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة.
فبعد أن يؤدي الصوفيُّ الفرائضَ، ويجتنب المحارم، يحاول ترك ما لا يعنيه، وقطع كل علاقة تحول بينه وبين مطلوبه ومقصوده؛ إذ ليس له مطلوب ولا مقصود غير الله تبارك وتعالى، ويترتب على ذلك أن يكون للصوفي آداب وأحوال شتى، من أهمها ما يلي:
القناعة: أي «بقليل الدنيا عن كثيرها، والإكتفاء بالقوت الذي لابد منه، والاختصار على ما لابد منه من مهنة الدنيا، من الملبوسات والمفروش والمأكول وغير ذلك، واختيار الفقر على الغنى اختيارًا، ومعانقة القلة، ومجانبة الكثرة، وإيثار الجوع على الشبع، والقليل على الكثير»([3]).
ومن هذه الآداب: التواضع، ومعناه: «ترك العلو والترفع، وبذل الجاه، والشفقة على الخلق، والتواضع للصغير والكبير، والإيثار في وقت الحاجة إليه، وألا يبالي من أكل الدنيا»([4]).
ومن تلك الآداب أيضًا:«حسن الظن بالله، والإخلاص في المسابقة إلى الطاعات، والمسارعة إلى جميع الخيرات، والتوجه إلى الله تعالى، والانقطاع إليه، والعكوف على بلائه، والرضا عن قضائه، والصبر على دوام المجاهدة، ومخالفة الهوى، ومجانبة حظوظ النفس، والمخالفة لها؛ إذ وصفها الله تعالى بأنها أمَّارة بالسوء، والنظر إليها بأنها أعدى عدوِّك التي بين جنبيك، كما روي عن رسول الله»([5]).
ومن الآداب والشمائل التي يتفرد بها الصوفي كذلك طهارة القلب، وهي كما شرحها الطوسي أيضًا: «مراعاة الأسرار، ومراقبة الملك الجبار، ومداومة المحافظة على القلوب بنفي الخواطر المذمومة، ومساكن الأفكار الشاغلة التي لا يعلمها غير الله عز وجل؛ حتى يعبدوا الله تعالى بقلوب حاضرة، وهموم جامعة، ونيات صادقة، وقصود خالصة؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من عباده من أعمالهم إلا ما كان لوجهه خالصًا، قال الله عز وجل: ﴿أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ﴾([6]) [الزُّمر:3].
ومن الآداب أيضًا: «الاعتراض لسلوك سبل أوليائه، والنزول في منازل أصفيائه، ومباشرة حقيقة الحقائق، ببذل الروح وتلف النفس، واختيار الموت على الحياة، وإيثار الذُّل على العز، واستحباب الشدة على الرخاء؛ طمعًا في الوصول إلى المراد، وألا يريد إلا ما يريد»([7]).
لقد حرصنا على نقل نماذج من كلام الصوفية أنفسهم؛ حتى يكون الدليل من كلامهم، ونلاحظ أن هذه الآداب طيبة ومقبولة في عمومها.
إن الصوفية يرون لهم تخصيصًا تفردوا به من طبقات أهل العلم ، وذلك باستعمال آيات متلوة من كتاب الله تعالى، وأخبار مروية عن رسول الله×، مع التأكد من عدم النسخ، أو رفع الحكم بخبر أو أثر.
وهم يرون كذلك أن من أعظم النعم التي اختصوا بها: «دوام المراقبة»، وهي التحقق بمقام «الإحسان».
كما أنهم يتفردون بمعرفة دقائق الحرص والأمل، ومعرفة النفس وأماراتها وخواطرها، ودقائق الرياء والشهوة الخفية، وكيفية الخلاص من ذلك.
أضف إلى هذا معرفتهم كيفية الإنابة إلى الله عز وجل، وصدق الالتجاء، ودوام الافتقار والتسليم والتفويض، وكذلك التبري من الحول والقوة.
كذلك فإن للصوفية مستنبطاتٍ في علوم مشكلة على فهوم الفقهاء والعلماء، وذلك في لطائف مودعة في إشارات لهم تخفى في العبارة من دقتها ولطافتها، وذلك في معنى حنايا السر، ومقامات الإخلاص، وحقائق العبودية، وترك الاعتراض، وما إلى ذلك، وكما يقول الطوسي: «فالصوفية مخصوصون من أولي العلم القائمين بالقسط بحل هذه العقد، والوقوف على المشكل من ذلك، والممارسة لها بالمنازلة والمباشرة، والهجوم عليها ببذل المهج؛ حتى يخبروا عن طعمها ودوامها ونقصانها وزيادتها، ويطالبوا من يدعي حالًا منها بدلائلها، ويتكلموا في صحيحها وسقيمها، وهذا أكثر من أن يتهيأ لأحد أن يذكر قليله؛ إذ لا سبيل إلى كثيره»([8]).
ويذهب الطوسي إلى أن جميع ذلك موجود علمه في كتاب الله عز وجل، وكذا في أخبار الرسول ×، وأنه مفهوم عند أهله، ولا ينكره العلماء الراسخون؛ فليس بغريب ما ذهب إليه باحث غير مسلم، حيث يرى أن مبادئ الإسلام فيها ميزة إقناع عقل المسلم؛ ومن ثَمَّ فإنها تؤدي دورها العظيم في تثبيت عقيدته([9]).
والذين أنكروا هذا على التصوف، إنما هم جماعة من المترسمين بعلم الظاهر؛ لأنهم أصحاب معرفة محدودة بالنسبة للكتاب والسنة؛ أي إنهم لا يعرفون منهما إلا الأحكام الظاهرة وما يصلح للاحتجاج على المخالفين، وكثير من الناس يميلون إلى هذا؛ لأنه يوصل إلى الدنيا بما فيها من جاه ورئاسة.
أما القلة فإنهم هم الذين يشتغلون بذلك؛ لأن هذا علم الخصوص؛ أي إنه: «ممزوج بالمرارة والغصص، وسماعُه يحزن القلب ويدمع العين، ويصغر العظيم ويعظم الصغير؛ فكيف استعماله ومباشرته، وذوقه ومنازلته، وليس للنفس في منازلته حظ؛ لأنه منوط بأمانة النفوس، وفقد المحسوس، ومجانبة المراد؟!».
وقد ترتب على ذلك نتيجة تخص العلماء، وهي: أنه من أجل ذلك ترك كثير من العلماء هذا العلم، واشتغلوا باستعمال علم يخف عليهم المؤنة، ويحثهم على التوسيع والرخص والتأويلات، وقد يكون أقرب حظوظ البشرية، وأخف تحملًا على النفوس التي جُبِلَتْ على متابعة الحظوظ والمنافرة عن الحقوق([10]).
هذه أهم صفات التي تفرد بها أهل الطريق السالكون إلى ربهم عز وجل، ولو أردنا إيجاز ما تقدم من هذه الصفات؛ ما وجدنا خيرًا من كلام الطوسي الذي يمتدح فيه أهل الحق من الصوفية، والذي يقول فيه: «هذه العصابة -أعني الصوفية- هم أمناء الله جل وعز في أرضه، وخزنة أسراره وعلمه، وصفوته من خلقه؛ فهم عباده المخلصون، وأولياؤه المتقون، وأحباؤه الصادقون الصالحون، منهم الأخيار والسابقون، والأبرار والمقربون، والبدلاء والصديقون؛ هم الذين أحيا الله بمعرفته قلوبهم، وزيَّن بخدمته جوارحهم، وألهج بذكره ألسنتهم، وطهَّر بمراقبته أسرارهم، سبق لهم منه الحسنى بحسن الرعاية ودوام العناية؛ فتوَّجهم بتاج الولاية، وألبسهم حلل الهداية، وأقبل بقلوبهم عليه تعطفًا، وجمعهم بين يديه تلطفًا؛ فاستغنوا به عما سواه، وآثروه على ما دونه، وانقطعوا إليه، وتوكلوا عليه، وعكفوا ببابه، ورضوا بقضائه، وصبروا على بلائه، وفارقوا فيه الأوطان، وهجروا له الإخوان، وتركوا من أجله الأنساب، وقطعوا فيه العلائق، وهربوا من الخلائق، مستأنسين به، مستوحشين مما سواه؛﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾[الجمعة:4]»([11]).
وهكذا ندرك أن السالكين إلى الله تعالى بحق قد أدركوا حقيقة الإيمان الذي يقتضي المتابعة والتسليم، أما المخالفة فلا تكون إلا من ضعيف الإيمان؛ ولهذا تواصوا بما يلي: «احذر أن يراك الله حيث نهاك، وتباعد عن المعاصي فإنها بريد الكفر»([12]).
ولذا عاهد الصحابة رسول الله ×، على ترك المعاصي؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه، عن عبادة بن الصامت ت، أن النبي ×قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كَفَّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله عز وجل فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وأن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك.
المرجع: أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 77-84).