نسخة تجريبيـــــــة
المناجاة لابن عطاء الله

وهذه مناجاة سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري تقرأ في السحر، وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

إلهي، أنا الجاهل في علمي؛ فكيف لا أكون جهولًا في جهلي. إلهي، إن اختلاف تدبيرك، وسرعة حلول مقاديرك، مَنَعَا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عطاء، واليأس منك في بلاء. إلهي، مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك. إلهي، وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي؟ إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة علي، وإن ظهرت المساوئ مني فبعدلك ولك الحجة علي. إلهي، كيف تكلني إلى نفسي وقد توكلت لي؟ وكيف أضام وأنت الناصر لي؟ أم كيف أخيب وأنت الحفي بي؟ ها أنا أتوسل إليك بفقري، وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟ أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفى عليك؟ أم كيف أترجم لك بمقالي وهو منك برز إليك؟ أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت عليك؟ أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت وإليك؟ إلهي، ما ألطفك بي مع عظيم جهلي! وما أرحمك بي مع قبيح فعلي! إلهي، ما أقربك مني!

وما أبعدني عنك! إلهي، ما أرأفك بي، فما الذي يحجبني عنك! إلهي قد علمت -باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار- أنَّ مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء؛ حتى لا أجهلك في شيء. إلهي، كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني أوصافي أطمعتني منتك. إلهي، من كانت محاسنه مساوئ، فكيف لا تكون مساويه مساوئ؟ ومن كانت حقائقه دعاوى، فكيف لا تكون دعاويه دعاوي؟ إلهي حكمك النافذ ومشيئتك القاهرة لم يتركا لذي مقال مقالًا، ولا لذي حال حالًا. إلهي كم من طاعة بنيتها، وحالة شيدتها، هدم اعتمادي عليها عدلك؛ بل أقالني منها فضلك. إلهي، أنت تعلم وإن لم تدم الطاعة مني فعلًا جزمًا، فقد دامت محبة وعزمًا. إلهي كيف أعزم وأنت القاهر؟ وكيف لا أعزم وأنت الآمر؟ إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار؛ فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك. إلهي، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيبًا. إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار؛ فارجعني إليها بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار؛ حتى أرجع إليك منها، كما دخلت إليك منها، مصون السر عن النظر إليها، ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها؛ إنك على كل شيء قدير. إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك؛ فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك. إلهي، علمني من علمك المخزون، وصني بسر اسمك المصون. إلهي، حققني بحقائق أهل القرب، واسلك بي مسالك أهل الجذب. إلهي، أغنني بتدبيرك عن تدبيري، وباختيارك لي عن اختياري، وأوقفني على مراكز اضطراري. إلهي، أخرجني من ذل نفسي، وطهرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي، بك أستنصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلني، وإياك أسأل فلا تخيبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني. إلهي، تقدس رضاك عن أن تكون له علة منك؛ فكيف تكون له علة مني؟ أنت الغني بذاتك عن أن يصل إليك النفع منك؛ فكيف لا تكون غنيًّا عني؟ إلهي، إن القضاء والقدر غلبني، وإن الهوى بوثائق الشهوة أسرني؛ فكن أنت النصير لي؛ حتى تنصرني وتنصر بي، وأغنني بفضلك حتى أستغني بك عن طلبي، أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك؛ حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار من قلوب أحبابك؛ حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجؤوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حتى استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلًا، ولقد خسر من بغي عنك متحوِّلًا. إلهي، كيف يرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان؟ وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان؟ يا من أذاق أحبابه حلاوة مؤانسته؛ فقاموا بين يديه متملقين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته؛ فقاموا بعزته مستعزين. أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادئ بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين. إلهي، اطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أقبل عليك؛ فإن رجائي لا ينقطع عنك وإن عصيتك، كما أن خوفي لا يزايلني وإن أطعتك. إلهي، قد دفعتني العوالم إليك، وقد أوقفني علمي بكرمك عليك. إلهي، كيف أخيب وأنت أملي؟ أم كيف أهان وعليك متكلي؟ إلهي، كيف أستعز وأنت في الذلة أركزتني؟ أم كيف لا أستعز وإليك نسبتني؟ أم كيف لا أفتقر وأنت الذي في الفقر أقمتني؟ أم كيف أفتقر وأنت الذي بوجودك أغنيتني؟ أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء، وأنت الذي تعرفت إليَّ في كل شيء؛ فرأيتك ظاهرًا في كل شيء، فأنت الظاهر لكل شيء، يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، مَحَقْتَ الآثار بالآثار، ومَحَوْتَ الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار، يا من احتجب في سرادقات عزه عن أن تدركه الأبصار، يا من تجلى بكمال بهائه فتحققت عظمته الأسرار، كيف تخفى وأنت الظاهر؟ أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر؟ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

المصدر : مجموع أوراد العارف بالله النشابي المسمى (مدام الاستبشار في دوام الاستغفار)، للعارف بالله السيد محمد عبد الرحيم النشابي، مصر، مكتبة نهضة مصر بطنطا حسن محمد أبو العز، د ت، ص 68-76 بالهامش.


التقييم الحالي
بناء على 59 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث