أصبحت الطريقة الشاذلية بفضل تبحر رجالها فى علوم الشريعة ، ووقوفهم على مقاصدها ، من أقرب الطرق للجادة وأيسرها للسوك . فلقد رسخ فى وعى المدرسة الشاذلية منذ نشأتها ، أن التيسير مراد الحقى تعالى من عباده ، واستقوا ذلك عبر فهمهم لكتاب الله عز وجل ، كما جاء فى قوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ([1]) وقوله تعالى : ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ) ([2]) وأيضا عبر ما استخلصوه من قيم نادت بها السنة المطهرة كقيمة الأخذ بالرفق فى سائر الأعمال استناداً لما رواه أبو الدرداء رضى الله تعالى عنه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : { من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير ومن منع حظه من الرفق فقد منع حظه من الخير } ([3]) ؛ واستناداً لما رواه القاسم بن محمد ، قال : حدثتنى عمتى عائشة – رضى اللهى تعالى عنهما – قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أعطى حظه من الرفق أعطى حظه من خير الدنيا والأخرة } ([4]) .
وللشاذلية نظر وفهم عميق فى قول اللهى تعالى : (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ) ([5]) فاستدلوا من إخبار الحقى تعالى عن موسى عليه السلام ، أنه تولى إلى الظل ، أى قصده وجاء إليه ؛ على أنه يجوز للمؤمن أن يؤثر الظلال على الضواحى ، وبارد الماء على سخنه ، وأسهل الطريقين على أشقهما وأوعرهما ، وأن ذلك لا يخرجه عن مقام الزهد ([6]) .
وانطلاقا من هذا الفهم ، يقول الشيخ الشاذلى رضى اللهى تعالى عنه : " ليس هذا الطريق بالرهبانية ، ولا بأكل الشعير والنخالة ، وإنما هو بالصبر على الأوامر ، واليقين فى الهداية . قالى تعالى : ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون ) ([7]) .
إنما كان طريق الشاذلية من أجل الطرق ؛ لأنه يدل على الله من اول قدم ، بخلاف غيره من الطرق ، فإن منها ما يدل على العمل ، ومنها ما يدل على العلم بالأحكام ([8]) . وعلى هذا الاساس يضفى الشاذلية على مفهوم التيسير معنى خاصاً ، فمن يدل على الله عندهم كان مسيراً ، ومن دل على غيره تعالى كان معسراً ، وتجلى ذلك من خلال سؤال الشيخ أبى الحسن الشاذلى لشيخه أبى محمد عبد السلام بن مشيش رضى اللهى تعالى عنهما عن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : { يسروا ولا تعسروا } فأجاب قائلا : " دلوهم على الله ، ولا تدلوهم على غيره ، فإن من دلك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلك على العمل فقد اتعبك ، ومن دلك على الله فقد نصحك " وانطلاقا من هذا المعنى ، أرسى الشيخ الشاذلى رضى اللهى تعالى عنه قاعدته السلوكية : " الشيخ من دلك على راحتك – أى على الله – لا على تعبك – أى على غيرهى تعالى –" ([9]) ، وكان يقول عن شيخه الشاذلي: «ليس الرجل من دَلّك على تعبك وإنما الرجل من دَلّك على راحتك»([10]).
فالتشديد فى العبادة منهى عنه ، كالتراخى عنها ، وقد أغرق قوم فى مخالفة النفوس ، حتى خالفوا الحق فى طى ذلك ، كاستئذانهم فى الواجب والضرورى الذى لا يمكن الانفكاك عنه ، وهذا إن كان مؤئرا فى النفس ، فهو صائراً بصاحبه لعكس القصد ، فلزم التيسير ؛ لأنه أرفق بالنفس وأبقى للعبادة ([11]).
فمن الخطأ تصور أن الأجر على قدر المشقة ؛ وذلك لورود فضل الإيمان والمعرفة ، والذكر ، والتلاوة ، على ما هو أشق منها بكثير من الحركات الجسمانية ، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم : { أجرك على قدر نصبك } فاخبارخاص فى خاص ، ولا يلزم عمومه ، سيما إذا وضعنا فى الاعتبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم : { إنَّ أعلمكم بالله واتقاكم لله أنا } وكذا جاء : { خير دينكم آيسره } ([12]) .وفى هذا المقام يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى اللهى تعالى عنه : " إن الله لا يعذب على راحة يصحبها التواضع ، ولكن يعذب على تعب يصحبه الكبر "([13]) .
وسمة واقعة نسوقها ، كدلالة قاطعة على تمكن الشاذلية من الفهم الدقيق لمقاصد الشريعة الإسلامية ، فقد جاء فى تنوير ابن عطاء الله السكندرى ، وقواعد الشيخ زروق ، رضى اللهى تعالى عنهما ، أن : الشيخ أبا الحسن رضى اللهى تعالى عنه ، قال : قال لى شيخى : يا بنى ، برد الماء ، فإن العبد إذا شرب الماء الساخن ، قال الحمد بكزازة ، وإذا شرب الماء البارد ، فقال الحمد لله ، استجاب كل عضو فيه بالحمد لله . ثمًَ بين الشيخ عبد السلام بن مشيش لتليمذه الشيخ أبى الحسن رضى الله تعالى عنهما ، أنه لا يستدل فى هذا السياق بحال المريد ، الذى وجد الشمس قد انبسطت على قلته ، فقيل له : ألا ترفعها ؟ فقال : حين وضعتها لم تكن شمس ، وأنا استحى أن أمشى لحظ نفسى ؛ لأنه صاحب حال لا يقتضى به ([14]).
ويرى الشيخ ابن عطاء الله السكندرى ، أن حال هذا المريد ، حال عبد يتطلب الصدق من نفسه ، ويمنعه مناها ؛ ليشغلها بذلك عن الغلفة عن مولاها عز وجل ، وهذه الحال رغم شرفها ، إلا إنها دون الكمال ، فلو اكتمل وقام هذا المريد لرفع الماء عن الشمس ، قاصدا بذلك قيامه بحق نفسه ، التى امر اللهى تعالى أن يقوم بها ، لاستجلابا لحظه ، ولكن ليقوم بحق ربه فى نفسه ، وقد قال سبحانه وتعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) لذلك فإن هذا المريد ، فى نظر شيخنا بن عطاء الله السكندرى رضى اللهى تعالى عنه ، يكر بالبطلان على مقاصد الشريعة فى التيسير ، إذ ليس للشرع فى متاعب العباد قصد خاص ([15]) .
(1) سورة البقرة : بعض من آية رقم 185 .
(2) سورة النساء : آية رقم 28 .
(3) ابن طاهر المقدسى ( أبو الفضل محمد بن طاهر بن على بن احمد المقدسى ) : صفوة التصوف ، تحقيق أبى على النظيف ، دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1427 هـ 2006 م ، ص 279 .
(4) المصدر نفسه ، ص 279 .
(5) سورة القصص : بعض من آية رقم 24 .
(6) ابن عطاء الله السكندرى : التنوير فى اسقاط التدبير ، ص 167 .
(7) ابن الصباغ : درة الأسرار ، ص 86.
(8) ابن عجيبة : الفتوحات الإلهية ، ص؟؟؟
(9) انظر فى ذلك : ابن الصباغ : درة الأسرار ، ص 90؛ وأيضا : الشيخ زروق : قواعد التصوف ص 37 .
(10) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص83- 84.
(11) الشيخ زروق : قواعد التصوف ،ص 46 ، 47 .
(12) المصدر نفسه ، ص 46 ، 47 .
(13) ابن الصباغ : درة الأسرار ، ص 93.
(14) انظر فى ذلك : ابن عطاء الله السكندرى : التنوير فى اسقاط التدبير ، ص 170 ، 171 ، وأيضا : الشيخ زروق : قواعد التصوف ،ص 19 .
(15) انظر فى ذلك : ابن عطاء الله السكندرى : التنوير فى اسقاط التدبير ، ص 167 ، 168 .