تنبنى على هذه النزعة الإيجابية للمدرسة الشاذلية ثلاثة مبادئ صوفية تتجلى فيها بوضوح تلك النزعة : مبدأ محاسبة النفس - مبدأ الزهد - مبدأ الحرية .
«وأول هذه المبادئ مبدأ محاسبة النفس، وهو عند ابن عطاء الله وعند غيره من الصوفية مبدأ إيجابي هام في التغيير الاجتماعي. وهو عندهم بداية الطريق، بحيث إذا لم يصح لم يصح التصوف كله. ولو لم يكن في التصوف الإسلامي إلا هذا المبدأ لكان من ألزم ما يكون لمجتمعنا في هذه المرحلة التي يمر بها من تطوره، لأن محاسبة النفس ومخالفة أهوائها مما يدفع الإنسان دفعًا إلى العمل الإيجابي والإخلاص فيه، مع تقدير كامل للمسئولية، ولو حاسب كل واحد منا نفسه عما قدمه لمجتمعه لكان هذا كفيلًا بتصحيح كثير من الأوضاع الخاطئة، وما أجمل ما يقوله ابن عطاء الله السكندري في معنى محاسبة النفس: "أَصْلُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَغَفْلَةٍ وَشَهْوَةٍ الرِّضَا عَنِ النَّفْسِ، وَأَصْلُ كُلِّ طَاعَةٍ وَيَقَظَةٍ وَعِفَّةٍ عَدَمُ الرِّضَا مِنْكَعَنْهَا" . وثاني هذه المبادئ مبدأ الزهد، ومعناه أن يكون الإنسان معرضًا عما يملك، لا أن يكون معرضًا عما لا يملك، فإن من لا يملك شيئًا ففيم يكون زاهدًا ... وهذا الزهد الذي هو أحد أركان التصوف مستمد من أدب القرآن وسنة الرسول وطريقة صحابته، فقد حملت كنوز كسرى إلى عمر بن الخطاب، فنظر إليها وقال: اللهم إني أعلم أنك تقول في كتابك الكريم: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 182]، وأمر بوضعها في بيت المال حتى لا يفتتن بها. ويؤدي الزهد أيضًا إلى الثبات النفسي، وما أجمل ما يقول ابن عطاء الله: "وللزاهد في الدنيا علامتان: علامة في فقدها وعلامة في وجدها: فالعلامة التي في وجدها الإيثار منها، والعلامة التي في فقدها وجود الراحة (النفسية) منها، فالإيثار شكر لنعمة الوجدان، ووجود الراحة منها شكر لنعمة الفقدان" . وبهذا كله يصبح الزهد شعارًا للمجتمعات الجادة التي تريد بناء نفسها وتحقيق تقدمها، لا المجتمعات التي يركن أفرادها إلى حياة الترف والكسل والتهالك على الكماليات.
وثالث تلك المبادئ الإيجابية : مبدأ الحرية، فقد كان لصوفية الإسلام مفهوم للحرية يحق لنا أن نفخر به، وهم يستمدونه أساسًا من الكتاب والسنة. ذلك أن الإنسان في رأيهم لا يكون حرًا بالمعنى الحقيقي للحرية إلا إذا ارتفع فوق شهواته وأهوائه بإرادته، أي بفعل حر. وهم يعيبون على الإنسان تمزقه الروحي بين اللذة والألم، فنحن -في العادة- نفرح حين تقبل علينا الدنيا بأسبابها، وقد يحدث أن تزول عنا هذه الأسباب على الرغم منا فنألم لذلك أشد الألم، وتصبح حياتنا بين تعاقب الفرح والألم عذابًا نفسيًا لا يطاق. ولو سكن الإنسان منا وثبت، فلم يشتد فرحه بما يقبل عليه من أسباب الدنيا، وخضع لحكم وقته كما يقول الصوفية، لم يحزن قط لوجود زوالها عنه، وهذا هو المعنى المشار إليه عندهم في قوله تعالى: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ﴾[الحديد: 23].
وبهذا يصبح الإنسان حرًّا بالمعنى الحقيقي للحرية... وقد أجاد ابن عطاء الله السكندري في التعبير عن هذا المعنى من معاني الحرية، فقال ناصحًا مريده: "ينبغي لك أن لا تيأس على فقد شيء، وأن لا تركن إلى وجود شيء، فإن من وجد شيئًا فركن إليه، أو فقد شيئًا فحزن عليه، فقد أثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه فقده" ...
وهذا المعنى من معاني الحرية إيجابي لا سلبي، ويضفي على حياة الإنسان معنى ساميًا لأنه يجعل الإنسان ثابتًا في معترك الحياة، وغير خاضع للتمني أو أحلام اليقظة، بل عليه أن يعمل إذا أراد أن يحقق أمانيه ويخرجها إلى حيز الوجود الفعلي، وإلى هذا المعنى يشير ابن عطاء الله السكندري بقوله: «الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية».
وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الحرية فقد نعم بالاستقرار النفسي، وتخلص بذلك من كل قلق. ولعلك بعد هذا تدرك عمق المعنى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم»، فأنت حر في أن تملك الدينار والدرهم، ولكن لا تكن لهما عبدًا، أي لا تكن عبدًا لشهوة امتلاكهما. يتبين لك أن الحرية الجديرة بالإنسان ليست حرية بعض المذاهب العبثية المعاصرة التي تصلح منطلقًا لانحراف الإنسان طالما كان هذا الإنسان هو الذي يخترع نفسه ومعاييره وقيمه، وطالما لا يكون ثمة ما يعين سلوكه، أو ما يحد من حريته، وإنما الحرية الحقيقية هي حرية الإسلام التي عبر عنها ابن عطاء الله وغيره من صوفية الإسلام بأنها ارتفاع الإنسان بنفسه فوق شهواته ونزواته التي يكون عبدًا لها.»([1]).
فالتصوف الكامل عند المدرسة الشاذلية هو ذلك النوع من التصوف الذي يجمع بين حياة التعبد وحياة المجتمع، ويرتبط كل الارتباط بشريعة الإسلام، ويوجه القلوب والعقول معًا إلى حياة أفضل واستقرار أكمل([2]).