نسخة تجريبيـــــــة
ترك الدعوى وتصحيح المقام

جرت المدرسة الشاذلية على ترك لبس المرقعات ولبس زى الفقراء ، واختيار إخفاء الحال، يقول ابن عطاء الله: "طريقة الشيخ أبي العباس وشيخه أبي الحسن رضي الله عنهما، وطريقة أصحابهما، الإعراض عن لبس زي ينادي على سر اللابس بالإفشاء، ويفصح عن طريقه بالإبداء، ومن لبس الزي فقد ادعى. ويقول أبو العباس معبرًا عن رأي شيخه، وعن اتباعه له: دخلت على الشيخ أبي الحسن وفي نفسي أن آكل الخشن وألبس الخشن، فقال لي الشيخ: يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت. ويروي أبو العباس أيضًا في ذلك أنه دخل على الشيخ أبي الحسن فقير وعليه لباس من شعر، فلما فرغ الشيخ من كلامه دنا من الشيخ وأمسك بملبسه، وقال: يا سيدي ما عُبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك. فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك. لباسي يقول: أنا أغنى منكم، فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني". ويعقب على ذلك ابن عطاء الله فيقول: "ولا تفهم رحمك الله أنا نعيب بهذا القول على من لبس زي الفقراء، بل قصدنا أنه لا يلزم كل من كان له نصيب مما للقوم أن يلبس ملابس الفقراء. فلا حرج على اللابس ولا على غير اللابس، إذا كان من المحسنين: ﴿مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾[التوبة:91]. وأما لبس اللباس اللين، وأكل الطعام الشهي، وشرب الماء البارد فليس القصد إليه بالذي يوجب العتب من الله، إذا كان معه الشكر لله. وقد قال الشيخ أبو الحسن: يا بني برد الماء، فإنك إذا شربت الماء السخن فقلت الحمد لله تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد فقلت الحمد لله، استجاب كل عضو منك بالحمد لله. والأصل في هذا قول سبحانه حكاية عن موسى عليه السلام: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾[القصص:24].ألا ترى كيف تولى إلى الظل قصدًا لشكر الله تعالى، على ما ناله من النعمة"([1]).

ويتصل بمسألة رغبة المدرسة الشاذلية عن إظهار الزى ، رغبتهم كذلك عن إظهار الوجد، وكل ذلك كراهة منهم للدعوى ، ورغبة فى التحقق التام بالإخلاص لله تعالى ، ومثال ذلك ما يظهره بعض المريدين من الوجد عند السماع الصوفى، وهو ظاهرة توجد عادة في المبتدئين، وعلى الخصوص في أرباب الأحوال. وكان الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه يقول في ذلك: "الكامل من يملك حاله"، ويتحدث أبو العباس عن اختلاف المتصوفة بالنسبة للحال ويقسمهم إلى نوعين فيقول: "عبد هو في الحال بالحال. وعبد هو في المحال بالمحول، فالذي هو في الحال بالحال، هو عبد الحال. والذي هو في الحال بالمحول، هو عبد المحول. وأمارة من هو في الحال بالحال: أن يأسى عليها إذا فقدها، ويفرح بها إذا وجدها، والذي هو في الحال بالمحول، لا يفرح إذا وجدت ولا يحزن عليها إذا فقدت". ويشرح ذلك المعنى ابن عطاء الله فيقول: "ومعنى كلام الشيخ هذا: أن من تحقق بالله ملك الأشياء، ولم تملكه فيصير الحال تحت قهر تصريفه، وإنما يكون ذلك الرجل لرسوخه في العلم بالله، والعلم حاكم على الحال، وبه يوزن، والحال إنما هو فرع من فروع العلم، والعلم قار ثابت، والحال لا بقاء لها ... والأكابر ملكهم الله أحوالهم، وجعلهم حاكمين عليها، ومن هنا لما قيل للجنيد: ما لنا نرى المشايخ يتحركون في السماع، وأنت لا تتحرك؟ فقال : {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.  وقيل لبعضهم: مالك لا تتحرك في السماع. فقال: إنه إذا كان في الجمع كبير احتشمت منه، فأمسكت عن وجدي، فإذا خلوت وحدي، أرسلت على وجدي فتواجدت. فانظر كيف كان زمام حاله معه، يمسكها إذا شاء، ويطلقها إذا شاء ، وإذا اتسع القلب بمعرفة الله غرقت فيه الواردات، وإنما يبدو أثر الحال على من ضاق عن وسعها، والعارف له وسيع المعرفة، فإذا ورد الوارد عليه غرق في وسيع معرفته، وهل رأيت بحرًا فاض بمطر سحاب؟ ولهذا جُهِلَت أحوال الأكابر أرباب المقامات، واشتُهر أهل الأحوال لظهور آثار المواهب عليهم لضعفهم عن كتمها لضيقهم عن وسعها. فربما كان صاحب الحال أحظى بإقبال الخلق من صاحب المقام، وبينه وبينه مثل ما بين السماء والأرض. وكلما تمكن الرجل في العلوم الإلهية، والمعارف الربانية استُغْرِب في هذا العالم، فيقل من يعرفه، ويفقد من يحيط بصفته([2]).

وسنجد هذا المعنى فيما حكاه الشيخ أبو الحسن عن بعض أساتذته ، والظاهر أنه ابن مشيش، يقول الشاذلى رحمه الله : "كنت ليلة في سياحتي فأتيت إلى غار لأبيت فيه فسمعت فيه حس رجل يسبح الله فقلت: والله لا أشوش عليه في هذه الليلة، فبت على فم الغار، فلما كان عند السحر سمعته يقول: اللهم إن قومًا سألوك إقبال الخلق عليهم وتسخيرهم لهم، اللهم إني أسألك إعراضهم عني واعوجاجهم علي حتى لا يكون لي ملجأ إلا إليك، فلما أصبح خرج فإذا به أستاذي. قال: فقلت له: يا سيدي، سمعت البارحة تقول كذا وكذا. فقال لي: يا علي أيما خير لك أن تقول كن لي أو سخر لي قلوب عبادك فإنه إذا كان لك، كان لك كل شيء"([3]).

وينبنى على ترك الدعوى، المطالبة بتصحيح المقامات ، وذلك بالقيام بواجبها وحقوقها والتحقق من علاماتها، وفى ذلك يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: "ومن أراد أن لا يكون للشيطان عليه سبيل فليصحح الإيمان والتوكل والعبودية لله على بساط الفقر واللجا والاستعاذة بالله؛ قال الله سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: 42]. وقال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ [الأعراف: 200].

أ- وتصحيح الإيمان : بالشكر على النعماء والصبر على البلاء والرضا بالقضاء.

ب- وصحة التوكل بهجران النفس ونسيان الخلق والتعلق بالملك الحق وملازمة الذكر وإذا عارضك عارض يصدك عن الله فاثبت. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].

ج- وتصحيح العبودية بملازمة الفقر والعجز والضعف والذل لله وأضدادها أوصاف الربوبية فما لك ولها .

فلازم أوصافك وتعلق بأوصاف الله فقل من بساط الفقر الحقيقي: يا غني من للفقير غيرك. ومن بساط الضعف: يا قوي من للضعيف غيرك. ومن بساط الذل: يا عزيز من للذليل غيرك. تجد الإجابة كأنها طوع يدك. واستعينوا بالله واصبروا إن الله مع الصابرين..."([4]).

فالطريق عند المدرسة الشاذلية ليس بالدعوى ، بل بإقامة الميزان ، وقد استفاد السادة الشاذلية هذا من حديث حارثة رضى الله عنه لما قال له صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا. فقال صلى الله عليه وسلم : لكل قول حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ قال : عزفت نفسى عن الدنيا ، فاستوى عندى ذهبها ومدرها ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة فى الجنة يتنعمون، وإلى أهل النار فى النار يعذبون ، وكأنى أرى عرش ربى بارزا ، من أجل ذلك أسهرت ليلى وأظمأت نهارى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حارثة عرفت فالزم"، فاستفاد مشايخ المدرسة الشاذلية من هذا الحديث أنه "ليس كل من ادعى دعوى سلمت له ، وقد قال الله تعالى {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} ، فموازين الحقائق شاهدة للعباد أو عليهم ، وقد قال سبحانه {وأقيموا الوزن بالقسط} ، فمن ادعى حالا مع الله أقيم عليه ميزانها ، فإن شهد له سلمنا له، وإلا فلا، وإذا كانت الدنيا على حقارة قدرها عند الله لا تسلم لك إلا ببينة تقيمها، فمن الأحرى أن لا تسلم لك مراتب الموقنين حتى يثبتها لك برهان أو تسلمها لك حقيقة"([5]).


 


(1) ابن عطاء الله السكندرى، ؟؟؟ ، ود/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 189 - 190) .

(2) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 207 - 208) ، ود/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 190) .

(3) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 7 .

(4) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 73- 74.

(5) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 171 ، 175) .


التقييم الحالي
بناء على 42 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث