نسخة تجريبيـــــــة
الكرامات

أما عن موقف المدرسة الشاذلية من الكرامات وخوارق العادات ، فإننا سنجد موقفا متميزا ، يقوم فى الأساس على الالتزام بموقف الشريعة الإسلامية من الكرامات ، فإن هذه المدرسة الصوفية الإسلامية الأصلية ترى أن الكرامة الحقيقية هى فى الاستقامة على الشريعة ومتابعة النبى صلى الله عليه وسلم ، يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: "ما ثم كرامة أعظم من كرامة الإيمان، ومتابعة السنة فمن أعطيهما، وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب ، أو ذو خطأ في العلم بالصواب ، كمن أكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب"، وكان يقول : "كل كرامة لا يصحبها الرضا من الله، وعن الله، والمحبة لله، ومن الله فصاحبها مستدرج مغرور أو ناقص هالك مثبور"([1]).

فالكرامة المعنوية هى أجل وأفضل عند المدرسة الشاذلية من الكرامة حسية ، ويرون أن الكرامة الحسية إنما هى لعامة أهل الطريق، أما الكرامة المعنوية فهى كرامة أهل الله على الحقيقة ، ويقطع بذلك شيخ المدرسة ومؤسسها الشيخ أبو الحسن فيقول : "ما هما إلا كرامتان جامعتان محيطتان : كرامة الإيمان بما يزيد الإيقان وشهود العيان ، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مغتر كذاب ..."([2]).

ويظهر من هذا بوضوح أهمية الشريعة والاقتداء بها عند الشيخ أبى الحسن الشاذلى ، وأنها بحق هى الكرامة الحقيقية الجامعة المحيطة ، وأن من رزقها ثم اشتهى الكرامات الحسية فهو مغتر كذاب .

ويقسم الشيخ أبو الحسن الكرامات إلى أنواع يجعل أولها الكرامات المعنوية، وآخرها الكرامة الحسية ، ثم يذكر شروطها، فيقول رضى الله عنه : " كرامة الصديقين خمسة: أولها: دوام الذكر والطاعة بشرط الاستقامة. والثانية: الزهد في الدنيا بإيثار القلة. والثالثة: تجديد اليقين مع المعارضات. والرابعة: وجود الوحشة مع أهل المنفعة والأنس مع أهل المضرة. والخامسة: ما يظهر على الأبدان من طي الأرض والمشي على الماء ونبع الماء وغير ذلك مما لا يجري تحت حكم العادة، ولهذا الفصل أوقات وأشخاص وأماكن فمن طلبها في غير زمان طلبها حرمها، ومن طلبها في غير وقتها قلما يعثر عليها، وعلى الجملة لا يعطاها من طلبها، ولا من يحدث نفسه بها واستعمل نفسه في طلبها إنما يعطاها عبد لا يرى نفسه ولا عمله وهو مشغول بمحاب الله ناظر لفضل الله آيس من نفسه وعمله وقد ظهر على من استقام في ظاهره وإن كانت هناة النفس في باطنه ظهرت على من عبد الله في اللجة في جزيرة من جزائر البحر خمسمائة سنة، فقيل له: ادخل الجنة برحمتي، فقال: بل بعملي."([3]).

فالكرامة عندهم ليست فى خرق عوائد النفس وقطع مألوفها ، وليست فى خرق عوائد الطبيعة ، من ثم فقد جرى أعلام هذه المدرسة على عدم الاهتمام بالكرامات الحسية وخرق العادات الطبيعية ، ويعتقدون أن الكرامات حجاب يحجبهم عن الله، أو مدعاة لغرورهم، كما كان من رأيهم أن الخوارق قد تتهيأ لمن لم يكمل في مقام التصوف. وفي هذا يقول ابن عطاء الله السكندرى في «الحكم»: «ربما رزق الكرامة من لم تكمل له الاستقامة»([4]). ويقول أيضًا: «ليس كل من ثبت تخصيصه كمل تخليصه»([5]). ويقول مبينا أن الكرامة الحقيقية في خرق عوائد النفس لا في خرق عوائد الطبيعة: «كيف تُخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد»([6]) ويقول أيضًا: «تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب»([7]). وهكذا الكرامة من حيث هي أمر خارق للعادة لا عبرة بها عند المحققين الكاملين من الشاذلية خاصة ، والصوفية عامة وهم في هذا مقتدون بالصحابة رضي الله عنهم حين لم يكن لهم عناية أو اهتمام بالكرامات([8]).

ومن جهة أخرى يؤكد الشيخ أبو العباس المرسى على البعد التربوى للكرامة ، وأن الكرامة إنما هى فى تربية النفس وتخلصها من أوصافها الردية ، فيقول رحمه الله : "الطى على قسمين : طى أصغر وطى أكبر، فالطى الأصغر لعامة هذه الطائفة أن تطوى لهم الأرض من مشرقها إلى مغربها فى نفس واحد، والطى الأكبر طى أوصاف النفوس"، ويقول أبو العباس أيضا : "ليس الشأن من تطوى له الأرض فإذا هو بمكة أو غيرها من البلدان، إنما الشأن من تطوى عنه أوصاف نفسه فإذا هو عند ربه" ، ويعقب ابن عطاء الله على ذلك فيقول: "وصدق والله رضى الله عنه، فإن طى الأرض لو عجز عنه أو فقده ما نقص ذلك من رتبتك عند ، إذا قمت له بالوفاء فى العبودية ، وطى أوصاف النفوس لو لم تقدم عليه به لكنت من المغبونين وحشرت فى زمرة الغافلين"([9]).

فموقف المدرسة الشاذلية يقوم على أن الكرامة الحقيقية هى تغيير أوصاف النفس البشرية ، بحيث تتحلى بالأوصاف الإلهية ، وأن الطى الحقيقى ليس طى مسافات الأرض ، بل طى أوصاف النفوس ، وفى ذلك يقول ابن عطاء الله السكندرى، بعد أن يقرر جواز وقوع الكرامات على طريقة المتكلمين ، مستخدما القسمة العقلية ، فيقول: "اعلم أن الكلام فى الكرامات تنحصر فى طرفين ، الطرف الأول الجواز ، والثانى الوقوع، أما الجواز فلا خفاء أن ظهور الكرامة من الأولياء من الممكنات ، لأنه إن لم يكن من الممكنات فأما أن يكون من الواجبات وإما أن يكون من المستحيلات ..." ثم أخذ فى بيان بطلان أن تكون الكرامة من الواجبات أو المستحيلات ، فلم يبق إلا أن تكون من الممكنات ، ثم يقول : "ثم إن هذه الكرامة تكون طيا للأرض ومشيا على الماء ، وطيران فى الهواء ... وهذه كلها كرامات ظاهرة حسية، وكرامات هى عند أهل الله أفضل منها وأجل ، وهى الكرامات المعنوية، كالمعرفة بالله والخشية ودوام المراقبة، والمسارعة لامتثال أمره ونهيه، والرسوخ واليقين والقوة والتمكين ودوام المتابعة والاستماع من الله والفهم عنه ودوام الثقة به وصدق التوكل عليه إلى غير ذلك"([10]).

أما من حيث إظهار الكرامة أو إخفاؤها عند المدرسة الشاذلية فإن ذلك على حسب النظر لأصلها وفرعها، فمن عبر من بساط إحسانه أصمتته الإساءة مع ربه، ومن عبر من بساط إحسان الله لم يصمت إذا أساء، وقد صح إظهار الكرامة من قوم كالشيخ أبى العباس ، وثبت العمل فى إخفائها من قوم، فمن الناس من يغلب عليه الغنى بالله فتظهر عليه الكرامات ، وينطق لسانه بالدعوى من غير احتشام ولا توقف، فيدعى بحق من حق لحق فى حق كعامة متأخرى الشاذلية، ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله فيكل لسانه ويتوقف مع جانب الورع، ومنهم من تختلف أحواله فتارة وتارة ، وهو أكمل الكمال لأنه حال النبى صلى الله عليه وسلم إذ أطعم ألفا من صاع، وشد الحجر على بطنه([11]).

وفى ضوء ما سبق يتبين أن موقف المدرسة الشاذلية من الكرامة ينبنى على عدة أسس: أن الكرامة المعنوية أجل من الحسية - أن الكرامة الكبرى هى الاستقامة على الشريعة - والكرامة الحقيقية هى خرق عوائد النفس وأوصافها، لا خرق عوائد الكون.
 


(1) الشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/7 .

(2) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 59) .

(3) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 97. - والشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/7 .

(4) شرح الرندي على الحكم، جـ2، ص16.

(5) نفس المرجع، جـ1، ص103.

(6) نفس المرجع، جـ1، ص118.

(7) نفس المرجع، جـ1، ص34- 35.

(8) راجع : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (75-76)  بتصرف.

(9) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 59 ، 215) .

(10) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 58-59) باختصار.

(11)  راجع: الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 108، 110-111.


التقييم الحالي
بناء على 53 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث