نسخة تجريبيـــــــة
الشيخ أبو الحسن الشاذلى والسمات الأساسية لمنهجه الصوفى

للشيخ داود بن باخلا عبارة لطيفة جامعة توضح فى بلاغة شيئا من منهج الشيخ أبى الحسن علي الشاذلي ، يقول فيها : "جاء في طريق اللَّه بالأسلوب العجيب، والمنهج الغريب والمسلك العزيز القريب، وجمع في ذلك بين العلم والحال، والهمة والمقال، اشتملت طريقته على الجذب والمجاهدة والعناية، واحتوت على الأدب والقرب والتسليم والرعاية، وشيدت بالعلمين الظاهر والباطن من سائر أطرافها، وقرنت بصفات الكمال شريعة وحقيقة من جميع أكنافها، تيامنت عن سكر يؤدي إلى تعدي الأدب، وتياسرت عن صحو يفضي إلى الحجاب عن أولي الألباب، ودلت على حقائق التوحيد وأسرار المجاهدات، وتسامت عن انقباض يوقع في الانكماش وسوء الظن، ويحجب عن روح الرجاء ولذاذة الشوق والطلب، وتناءت عن انبساط ينزل بصاحبه عن مقام الاحتشام والحياء، ويئول به إلى سوء الأدب؛ فاستوت بتوفيق اللَّه تعالى في نقطة الاعتدال، وظفرت بهداية اللَّه دون كثير من الطرق بوصف التوسط والكمال"([1]).

ويقوم المذهب الصوفى الشاذلى كما يقدمه لنا ابن عطاء الله السكندرى على عدة مقومات هى : إسقاط التدبير- النفس الإنسانية- مجاهدة النفس- النفس وآداب السلوك- النفس بين المقامات والأحوال- المعرفة- شهود الأحدية([2]).

ويمكن أن تتلخص تعاليم الطريقة الشاذلية في أصول خمسة هي: تقوى الله في السر والعلانية، واتباع السنة في الأقوال والأفعال، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، والرضا عن الله في القليل والكثير، والرجوع إلى الله تعالى في السراء والضراء([3]).

وهناك العديد من السمات التى يمتاز بها المنهج الصوفى للشيخ أبى الحسن الشاذلى يأتى على رأسها :

1- موافقة الشريعة والجمع بينها وبين الحقيقة

2-  التعرض لنعم الله، وترك خشونة الثياب والطعام.

3- عدم ترك الأسباب، والأخذ بها والحث عليها.

4- الرحمة بالخلق والسعى لقضاء حوائجهم.

1- موافقة الشريعة والجمع بينها وبين الحقيقة  :

كان تصوف الإمام أبى الحسن الشاذلى يرى ضرورة الانسجام بين الشريعة والحقيقة([4])، ولا يجوز القول بأمر فى الباطن يتعارض مع ظاهر الشريعة، وكانت عبارات الإمام تدل على أنه لا عصمة إلا فى كتاب الله وسنة النبى صلى الله عليه وسلم([5])ومن ذلك  :

قول الإمام أبو الحسن الشاذلى : «إذا عارض كشفك الكتاب والسنة، فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقل لنفسك إن الله تعالى قد ضمن لى العصمة فى الكتاب والسنة، ولم يضمنها فى جانب الكشف، ولا الإلهام، ولا المشاهدة، مع أنهم أجمعوا على أنه لا ينبغى العمل بالكشف ولا الإلهام، إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة»([6]).

وقال رضى الله عنه : «إذا لم يواظب الفقير على الصلوات الخمس فى الجماعة فلا تعبأن»([7]). وقال أيضا : «كل علم تسبق إليك فيه الخواطر، وتميل إليه النفس، وتلذ به الطبيعة، فارم به وإن كان حقا، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله، واقتد به، وبالخلفاء، والصحابة، والتابعين من بعده وبالأئمة الهداة المبرئين عن الهوى، ومتابعته تسلم من الشكوك، والظنون، والأوهام، والدعاوي الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه»([8]).

والالتزام بالشريعة هو الأدب الأكبر الذى تلقاه الشيخ أبو الحسن الشاذلى من أساتذته، وصار يربى مريديه عليه ، مؤكدا على التصوف هو العمل بالشريعة لا غير، وفى ذلك يقول رضى الله عنه : " يحكى عن رجل سأل أستاذه رحمه الله فقال: وظِّف علي وظائف وأوراد قال: فغضب منه الأستاذ فقال: أرسول أنا أوجب الواجبات؟! الفرائض معلومة والمعاصي مشهورة ، فكن للفرائض حافظًا ، وللمعاصي رافضًا ، واحفظ قلبك من إرادة الدنيا وحب النساء وحب الجاه وإيثار الشهوات ، واقنع من ذلك كله بما قسم الله لك إذا خرج لك مخرج الرضى فكن لله فيه شاكرًا ، وإذا خرج لك مخرج السخط فكن عنه صابرًا ، وحب الله قطب تدور عليه الخيرات ، وأصل جامع لأنوار الكرامات ، وحضور ذلك كله أربعة: صدق الورع، وحسن النية، وإخلاص العمل، ومحبة العلم، ولا تتم لك هذه الجملة إلا بصحبة أخ صالح، أو شيخ ناصح"([9]).

وقال أبو العباس المرسى رضى الله عنه : «قال رجل للشيخ –يعنى الإمام أبا الحسن الشاذلي- ما تقول فى الخضر أحى هو أم ميت، فقال : اذهب إلى الفقيه ابن الأنباري، فإنه يقول إنه حى وإنه نبي»([10]).

ويقول الشيخ أبو العباس المرسى : «أخذنى ضيق شديد حتى ضعفت عن حمله، فأتيت الشيخ أبى الحسن رضى الله عنه، فلما أحس بى قال : أحمد. قلت : نعم سيدي. قال : آدم خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته نصف يوم خمسمائة عام، ثم نزل به إلى الأرض، والله ما أنزل الله آدم إلى الأرض، لينقصه ولكن نزل به الأرض ليكمله، ولقد أنزله إلى الأرض من قبل أن يخلقه بقوله :﴿إنى جاعل فى الأرض خليفة﴾ [البقرة : 30]، ما قال فى السماء، ولا فى الجنة، فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة، فإنه كان يعبد الله فى الجنة بالتعريف، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف، فلما توفرت له العبوديتان استحق أن يكون خليفة.

وأنت أيضا لك قسط من آدم كانت بدايتك فى سماء الروح فى جنة المعارف، فأنزلت إلى أرض النفس لتعبده بالتكليف، فإذا توفرت فيك العبوديتان استحققت أن تكون خليفة»([11]).

وهناك واقعة لها دلالتها الحاسمة فى كون مبنى الطريقة الشاذلية إنما هو على اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة والشريعة الغراء ، يحكى سيدى أبو الحسن الشاذلى هذه الواقعة فيقول رضى الله عنه : «استأذنني بعض الفقراء في الحضور والسماع، فهممت بذلك، فرأيت أستاذي ، وفي يده اليمنى كتاب فيه القرآن العظيم، وحديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وفي يده اليسرى أوراق فيها مرجز وهو يقول لي كالمنتهر: تعدلون عن العلوم الزكية إلى علوم ذوي الأهواء الردية، فمن أكثر من هذا فهو عبد مرقوق هواه، وأسير لشهواته ومناه، يستفزون بها قلوب ذوي الغفلة والنسيان، وأهل الضلالة والعميان، ولا إرادة لهم في عمل الخير واكتساب الغفران، يتمايلون عند سماعها تمايل الصبيان، لئن لم ينته الظالم ليلقبن الله أرضه سماه وسماءه أرضًا.

قال: فأخذني منه حال منه حال بوجد وأنا أقول له: نعم يا أستاذي، إلا أن النفس أرضية والروح سماوية. فقال لي: نعم يا علي، إذا كانت الروح بأمطار العلوم دارة، والنفس بالأعمال الصالحة ثابتة فقد حصل الخير كله، وإذا كانت النفس غالبة والروح مغلوبة، فقد حصل القحط والجدب، وانقلب الأمر جاء الشر كله. فعليك بكتاب الله الهادي، وبكلام رسوله الشافي، فلن تزال بخير ما آثرتهما وقد أصاب الشر من عدل عنهما، وأهل الحق إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وإذا سمعوا الحق أقبلوا عليه: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشُّورى:23]»([12]).

ومن ثم يقول ابن عطاء الله السكندرى: "العلم النافع هو الذى يستعان به على الطاعة ويلزم الخشية من الله تعالى ، والوقوف على حدود الله تعالى، وهو علم المعرفة بالله تعالى ، ولكن من استرسل بإطلاق التوحيد، ولم يتقيد بظواهر الشريعة فقد قذف به فى بحر الزندقة، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدا، وبالشريعة مقيدا"([13]).

وقد ذكرنا ذلك؛ لأن التصوف يتهم بالبعد عن الشريعة، أو بوجود تعارض بينه وبين ظاهر الشرع الشريف، وهذه التهم ليست فى عصرنا الحديث وحده، بل كانت منذ نشأة التصوف، تسببت مثل هذه الشائعات فى زمن ابن عطاء الله السكندرى أنه كان ينكر على الشيخ أبى العباس المرسى قبل سلوكه طريق القوم عليه، وكان يظن أن الشيخ المرسى يدعو إلى أمور تخالف الشريعة.

وكان ابن عطاء الله من علماء الشريعة وفقهائها ويعظمها ويغير عليها، ويظن أن فى طريق القوم ما يتعارض معها أو ينقضها، فتخوف من ولوج هذا الطريق، ويحكى ذلك عن نفسه فيقول : «وكنت أنا لأمره من المنكرين، وعليه من المعترضين لا لشيء سمعته منه، ولا لشيء صح نقله، حتى جرت بينى مقاولة وبين أصحابه، وذلك قبل صحبتى إياه، وقلت لذلك الرجل : ليس إلا أهل العلم الظاهر؛ وهؤلاء القوم يدعون أمورا عظيمة وظاهر الشرع يأباها...

ثم يقول ولعمرى لقد صحبت الشيخ اثنى عشر عاما، فما سمعت منه شيئا ينكره ظاهر العلم من الذى كان ينقله عنه من يقصد الأذى، وكان سبب اجتماعى به أن قلت فى نفسى بعد أن جرت المخاصمة بينى وبين ذلك الرجل : دعنى أذهب أنظر إلى هذا الرجل، فصاحب الحق له أمارات لا يخفى شأنه، فأتيت إلى مجلسه فوجدته يتكلم فى الأنفاس التى أمر الشارع بها –يعنى حديث جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان-  فقال : الأول إسلام، والثانى إيمان، والثالث إحسان. وإن شئت قلت : الأول عبادة. والثانى : عبودية. والثالث عبودة. وإن شئت قلت : الأول شريعة. والثانى : حقثقة. والثالث : تحقق. أو نحو هذا فما زال يقول : وإن شئت قلت، وإن شئت قلت إلى أن أبهر عقلي، وعلمت أن الرجل إنما يغترف من فيض بحر إلهي، ومدد رباني، فأذهب الله ما كان عندي.

ثم قال : «ثم أتيت تلك الليلة إلى المنزل فلم أجد فى شيئا يقبل الاجتماع بالأهل على عادتي، ووجدت معنى غريبا لا أدرى ما هو، فانفردت فى مكان أنظر إلى السماء، وإلى كواكبها، وما خلق فيها من عجائب قدرته، حملنى ذلك على العود إليه مرة أخرى، فأتيت إليه فاستؤذن علي، فلما دخلت عليه قام قائما وتلقانى ببشاشة وإقبال حتى دهشت خجلا، واستصغرت نفسى أن أكون أهلا لذلك».

ثم قال : «فكان أول ما قلت له : يا سيدى أنا والله أحبك. فقال : أحبك الله، كما أحببتني. ثم شكوت إليه ما أجد من هموم وأحزان. فقال : أحوال العبد أربع لا خامس لها؛ النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية. فإن كنت بالنعمة فمقتضى الحق منك الشكر، وإن كنت بالبلية، فمقتضى الحق منك الصبر، وإن كنت بالطاعة، فمقتضى الحق منك شهود منته عليك فيها، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار، فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوبا نزعته، ثم سألنى بعد ذلك بمدة : كيف حالك؟ فقلت أفتش على الهم، فما أجده. فقال :

ليلى بوجهك مشرق                              وظلامه فى الناس ساري

والناس فى سدف الظلام                          ونحن فى ضوء النهار

ألزم، فوالله لئن لزمت لتكون مفتيا فى المذهبين، يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن»([14]).

هذه شهادة من ابن عطاء الله السكندرى أن طريق شيخه الوارث عن الإمام أبى الحسن الشاذلى ينسجم ويتفق مع الشريعة.

ويؤكد الشيخ زروق على أن تصوف الشاذلى مبنى على علم الأصول، والأصول تطلق عند العلماء ويقصدون بها علم أصول الدين ، وعلم أصول الفقه، والحقيقة أن المتأمل فى تصوف الشاذلى يرى أنه متفرع من الأصليين تماما ، لا يخرج عنهما فى شىء، وقد ذكر الشيخ زروق هذا الأمر بخصوص تصوف الشاذلى فى معرض المقارنة بين مستويات التصوف المتعددة، وبيان من تصدى لها من مشايخ الطريق فيقول : "تعدد وجوه الْحُسن , يقضى بتعدد الاستحسان وحصول الحسن لكل مستحسن ، فمن ثَم كان لكل فريق طريق فللعامى تصوف حوته كتب المحاسبى ومن نحا نحوه ، وللفقيه تصوف ذكره ابن الحاج فى مدخله ، وللمحدث تصوف حام حوله ابن العربى فى سراجه ، وللعابد تصوف دار عليه الغزالى فى منهاجه ، وللمتريض تصوف نبه عليه القشيرى فى رسالته ، وللناسك تصوف حواه ((القوت )) و (( الإحياء ))، وللحكيم تصوف أدخله الحاتمى فى كتبه ، وللمنطقى تصوف نحا إليه ابن سبعين فى تآليفه ، وللطبائعى تصوف جاء به البونى فى أسراره ، وللأصولى تصوف قام الشاذلى بتحقيقه فليعتبر كل بأصله من محله "([15]).

وهنا يعرض لنا الشيخ زروق المستويات المتعددة للتصوف، وبيان أهم من خاطبها بفكره وكتبه ومؤلفاته من المتكلمين فى التصوف، ونلاحظ أنه جعل "للأصولى تصوف قام الشاذلى بتحقيقه"، والأصولى هنا تصلح للحمل على علماء أصول الدين، وعلماء أصول الفقه، بما يعنى أن تصوف الشاذلى يخطابهما ويتوافق مع علومهما ولا يخرج عنهما، وهذه هى الفائدة الأساسية من كلام الشيخ زروق فى هذا المحل أن تصوف الشاذلى منضبط انضباطا دقيقا على قواعد الأصلين، ولا يخرج عنهما قيد أنملة، من ثم يقول الشيخ زروق فى موضع آخر : "مدار الأصولى على تحلية الإيمان بالإيقان ، وتحقيق اليقين حتى يكون فى معدِّ العيان ، بأن ينشأ عن تحققه تمكن الحقيقة من نفسه ، حتى يقدم ويحجم لما قام به من الحقيقة من غير توقف ولا تكلف ، ويكون سلوكه فيما يحقق لما تحقق ، وبذلك ينشرح صدره أولا وآخرا فيصل فى أقرب مدة "([16]).

2- الطريق راحة لا تعب ، وتفضيل الغنى الشاكر:

وكان الإمام أبو الحسن الشاذلى -رضى الله عنه- لا يرى تلازما بين خشونة الملبس، والتقلل من الطعام وأكل اليابس منه وبين الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يرشد مريديه إلى هذا، ويصرح أن طريقه ليس فى هذه الأشياء، وليس بها، وإنما هو باليقين والصبر، فقد قال رضى الله عنه : "ليس هذا الطريق بالرهبانية وأكل الشعير والنخالة، ولا ببقية الصناعة، وإنما هو بالصبر على الأوامر ، واليقين فى الهداية  ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾..."([17])،﴿إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾.

وهذا الثغر ثغر كريم فيه خمس خصال : الصبر والتقوى والورع واليقين والمعرفة. الصبر إذا أوذي، والتقوى ألا يؤذى، والورع فيما يخرج ويدخل من ههنا -أشار إلى فمه- وفى القلب ألا يلج فيه غير ما يحب الله ورسوله، واليقين فى الرزق، والمعرفة بالحق الذى لا يذل معها أحد لأحد من الخلق، ﴿واصبر إن العاقبة للمتقين ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾"([18]).

ومن لطيف أقوال الشاذلى التى تعبر عن موقفه من نعم الدنيا قوله : "لا تسرف بترك الدنيا فيغشاك ظلمتها، وتنحل أعضاؤك لها فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة أو بالفكرة أو بالإرادة أو بالحركة"([19])، فانظر كيف يعالج المغالاة فى ترك الدنيا ، حتى تشتهيها النفس ، وتتمنى الرجوع إليها وتحلم بذلك ، وتنشغل بالتفكير فيها، فيصير كأنها لم تتركها.

يقول الشيخ المرسى أبو العباس : «دخلت على الشيخ -يعنى أبا الحسن- وفى نفسى أن آكل الخشن وألبس الخشن. فقال لى : يا أبا العباس : اعرف الله وكن كيف شئت»([20]).

وقال المرسى أبو العباس أيضا عن شيخه أبى الحسن : «ليس الرجل من دلك على تعبك، إنما الرجل من دلك على راحتك»([21]).

ومن الممكن القول بأننا سنجد هنا فى موقف الشاذلى من أن الطريق راحة وأن الشيخ من دلك على راحتك، وموقفه من التنعم بالدنيا وتفضيل الغنى الشاكر، ما يعبر عن طريقة الشاذلى المتميزة، وتطويره للفكر الصوفى الذى نشأ هو نفسه عليه، فقد كانت له فى بداية سلوكه مجاهدات قاسية وسياحات مضنية ورياضات خارقة قام بها تبعا لما شرطه علم التصوف ، لكنه عاد من ذلك ليقرر لأتباعه غير هذه القاعدة، فيرى عدم التجرد من الدنيا بالكلية ، ويرى أن الزهد الظاهرى يجب أن يكون بمقدار، ويرى أن إجهاد النفس والتعب آفة من آفات الطريق وعقبات السلوك، وبالجملة يزاوج الشيخ أبو الحسن بين العمل للدين والعمل للدنيا، ويرى أن التصوف فكرة وأن تصفية النفس وصقل مرآة القلب([22]).

وعنه : «ودخل على الشيخ أبى الحسن فقير عليه ملابس شعر، فلما فرغ الشيخ من كلامه دنا من الشيخ وأمسك ملبسه، وقال : يا سيدي، ما عُبِدَ الله بهذا اللباس الذى عليك. فأمسك الشيخ ملبسه، فوجد خشونته، فقال : ولا عُبِدَ الله بهذا اللباس الذى عليك، لباسى يقول : أنا غنى عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول : أنا فقير إليكم فأعطوني»([23]).

ويعقب ابن عطاء الله السكندرى على هذا الكلام فيقول : «وهكذا طريق الشيخ أبى العباس رضى الله عنه وشيخه أبى الحسن وطريقة أصحابهما: الإعراض عن لبس زى ينادى على سر اللابس بالإفشاء، ويفصح عن طريقه بالإبداء، ومن لبس الزى فقد ادعى.

ولا تفهم -رحمك الله- أنا نعيت بهذا القول على من لبس زى الفقراء، بل قصدنا أنه لا يلزم كل من كان له نصيب مما للقول أن يلبس ملابس الفقراء، فلا حرج على اللابس ولا على غير اللابس إذا كان من المحسنين، ما على المحسنين من سبيل، وأما لبس اللباس اللين، وأكل الطعام الشهي، وشرب الماء البارد، فليس القصد إليه بالذى يوجب العتب من الله إذا كان معه الشكر لله.

وقد قال الشيخ أبو الحسن : يا بنى برد الماء، فإنك إذا شربت الماء السخن، فقلت : الحمد لله، تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت : الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله. والأصل فى هذا قوله سبحانه وتعالى حكاية عن موسى عليه السلام ﴿فسقا لهما ثم تولى إلى الظل﴾ ألا ترى كيف تولى إلى الظل قصد الشكر لله على ما يناله من النعمة»([24]).

ويمكن فى ضوء ما سبق القول بأن النظرية الشاذلية في الغني والفقر تفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر , وتعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط , أما الشكر : فإنه فضيلة في الدنيا والآخرة، ولهذا يقول أبو العباس المرسى : "الشكر صفة أهل الجنة، والصبر ليس كذلك ... الشكر انفتاح القلب لشهود منة الرب ... ولو علم الشيطان طريقا توصل إلى الله أفضل من الشكر لوقف فيها ألا تراه كيف قال {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف 17] ، ولم يقل ولا تجد أكثرهم صابرين ولا خائفين ولا راجين ..."([25]).

وحقيقة الشكر عند المدرسة الشاذلية : أنه معرفة قائمة بالقلب وكلمة قائمة باللسان، وفى ذلك يقول الشيخ أبو الحسن: "ما فتح الله بشيء من الدنيا ففرحت لأستعين أو أعين بها فجعلت أحمد الله وأشكره، والشكر معرفة قائمة بالقلب وكلمة قائمة باللسان فكنت أجمع بينهما فواظبت على ذلك وقتًا من الليل ونمت فرأيت أستاذي رحمه الله تعالى يقول: استعذ بالله من شر الدنيا إذا أقبلت ومن شرها إذا أدبرت، ومن شرها إذا أنفقت ومن شرها إذا أمسكت، فجعلت أقول كذلك، فوصل الشيخ كلامي فقال: ومن المصائب والرزايا والأمراض البدنية والقلبية والنفسية جملة وتفصيلًا بالكلية وإن قدرت شيئًا فاكسني جلال الرضا والمحبة والتسليم وثواب المغفرة والتوبة والإنابة المرضية"([26]).

3- عدم ترك الأسباب والأخذ بها والحث عليها :

لم تقم طريقة الإمام أبى الحسن الشاذلى رضى الله عنه على ترك الأسباب، بل قامت على إقرارها، بل والدعوة إليها والحث عليها، وبلغ الأمر إلى عدم حب من يتركها كما نقل ذلك عن الإمام رضى الله عنه، وتلميذه أبى العباس المرسي.

قال ابن عطاء الله السكندرى عن شيخه أبى العباس: «ومبنى طريقته على الجمع على الله وعدم التفرقة، وملازمة الخلوة والذكر، ولكل مريد معه سبيل يحمل كل واحد على السبيل الذى يصلح له؛ وكان لا يحب المريد الذى لا سبب له، وكان يدل المريد على الانجماع فى حيه، ولا يلزم المريد أن لا يرى غيره، وكان يقول عن شيخه (يعنى أبا الحسن الشاذلى): اصحبوني، ولا أمنعكم أن تصحبوا غيري، فإن وجدتم منهلا أعذب من هذا المنهل فردوا»([27]).

قال ابن عطاء الله السكندرى وهو يحكى عن لقائه بشيخه المرسى أبى العباس : «ودخلت أنا عليه، وفى نفسى ترك الأسباب والتجرد، وترك الاشتغال بالعلم الظاهر، قائلا: إن الوصول إلى الله لا يكون على هذه الحالة، فقال لى من غير أن أبدى له شيئا : صحبنى بقوص إنسان يقال له ابن ناشي، وكان مدرسا بها ونائب الحكم، فذاق من هذا الطريق شيئا على يدينا، فقال : يا سيدى أترك ما أنا فيه، وأتفرغ لصحبتك. فقلت له : ليس الشأن ذا، ولكن أمكث فيما أقامك الله، وما قسم لك على أيدينا هو إليك واصل، ثم قال: هكذا شأن الصديقين لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق هو الذى يتولى إخراجهم، فخرجت من عنده، وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبي، وكأنها كانت ثوبا نزعته ورضيت عن الله فيما أقامنى فيه»([28]).

ولا نكون مبعدين عن الحق إذا قلنا إن هذا التوجيه في السلوك قد شكل مذهب ابن عطاء الله الصوفي في قواعد السلوك بأسره. وهكذا كانت حياته الصوفية العملية ذات أثر بعيد في تشكيل مذهبه النظري، فهذا التوجيه ينطوي على أن يرضى الصوفي عن الله فيما يقيمه فيه من أحوال السلوك فلا يتشوف إلى أن ينتقل من حالة إلى حالة أخرى بإرادته، بل عليه أن يكون في سلوكه خاضعًا لحكمة الله ومراده من إقامته فيما هو فيه. وما دام الله قد أقام ابن عطاء الله في مقام الاشتغال بالعلوم الظاهرة فليس من أدب السلوك أن يطمح إلى التجرد وترك الاشتغال بها، لأنه بذلك يكون متبعًا لشهوة خفية، وما يدريه فلعل الله تعالى أراد باشتغاله بها أمرًا لابد أن يتم في علمه.

وقد شكل هذا التوجيه في الطريق مذهب ابن عطاء الله في إسقاط التدبير في السلوك، وكثيرًا ما كان يردد بعد ذلك عبارته التى قررها فى حكمه الشهيرة: «إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية»([29]).

وقال ابن عطاء الله السكندرى : «وكنت أنا سمعت الطلبة يقولون : من صحب المشايخ لا يجيء منه فى العلم الظاهر شيء، فشق على أن يفوتنى العلم، وشق على أن يفوتنى صحبة الشيخ. فأتيت إلى الشيخ فوجدته يأكل لحمًا بخل، فقلت فى نفسى ليت الشيخ يطعمنى لقمة من يده، فما استتمت الخاطر إلا وقد دفع فى فمى لقمة من يده، ثم قال : نحن إذا صحبنا تاجرا ما نقوله له اترك تجارتك وتعال، أو صاحب صنعة ما نقول له اترك صنعتك وتعال. أو طالب علم لا نقول له اترك طلبك وتعال، ولكن نقر كل واحد فيما أقامه الله تعالى فيه، وما قسم له على أيدينا هو واصل إليه، وقد صحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قال : لتاجر اترك تجارتك، ولا لذى صنعة اترك صنعتك، بل أقرهم على أسبابهم، وأمرهم بتقوى الله فيها»([30]).

وكان الشيخ أبو العباس المرسى يقول : «عليكم بالسبب، وليجعل أحدكم مكوكه سبحته، أو تحريك أصابعه فى الخياطة، أو الضفر سبحته»([31]).

«وكان الشيخ أبو الحسن يكره المريد المتعطل، ويكره أن يسأل تابعه الناس، وقد كان جوادا بما يملك، وكريما يكره البخل، ويحث على طرق باب الأسباب»([32]).

وهكذا يتبين أن تصوف الشاذلية لم يكن متعارضًا مع الاشتغال بأمور الدنيا، وبتعبير آخر لم يكن يقطع صاحبه عن حياة المجتمع الذي يعيش فيه([33]).

4- الصلاة هى ميزان الحقيقة:

يحكى ابن عطاء الله عن الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه أنه كان يجعل الصلاة هى الميزان ، فكِلْ نفسك وزنها بالصلاة ، إن انتهت عن الحظوظ فاعلم أنك سعدت ، وإلا فابك على نفسك ، وإذا جررت رجلك إلى الصلاة جرا فهل رأيت حبيبا لا يريد لقاء حبيبه ، قال الله تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، فمن أراد أن يعرف حقيقته عند الله وينظر حاله مع الله فلينظر إلى صلاته، إما بالسكون والخشوع وإما بالغفلة والعجلة، إن لم تكن بالوصفين السابقين فاحث التراب على رأسك، فإن من جالس صاحب المسك عبق عليه من ريحه، فإن الصلاة مجالسة الله تعالى ، فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شىء دل ذلك على مرض فيك وهو إما كبر أو عجب أو عدم أدب ؛ قال تعالى {سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق}، فلا ينبغى لمن صلى أن يسرع الخروج بل يذكر الله ويستغفره من التقصير فيها ، فرب صلاة لا تصلح للقبول فإن استغفرت الله بعدها قبلت، كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا صلى استغفر الله ثلاثا([34]).

وقد كان الشيخ أبو الحسن الشاذلى يحضر عنده فقهاء الإسكندرية والقاضى ، فجاءوا مختبرين الشيخ ، فتفرس فيهم ، وقال : يا فقهاء هل صليتم قط ؟ فقالوا: يا شيخ وهل يترك أحدنا الصلاة؟ فقال لهم : قال الله تعالى {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين} ، فهل أنتم كذلك، إذا مسكم الشر لا تجزعوا ، وإذا مسكم الخير لا تمنعوا ، قال : فسكتوا جميعا ، فقال لهم الشيخ: فما صليتم هذه الصلاة قط([35]).

5- الرحمة بالخلق والسعى فى قضاء حوائجهم :

كان خلق الرحمة بارزا فى شخصية الإمام الشاذلى -رضى الله عنه-، وكان رحيما بالخلق، لا يتردد فى السعى لقضاء حوائجهم رحمة منه بهم، وكان -رضى الله عنه-  لا يهدأ حتى تقضى لهم، يقول ابن عطاء الله السكندرى : «وأخبرنى بعض أصحابنا قال : استشفع طالب بالشيخ أبى الحسن إلى القاضى تاج الدين ابن بنت الأعز أن يزاد على مرتبه، فذهب الشيخ إليه فأكبر القاضى تاج الدين مجيء الشيخ، وقال له : سيدى فيم جئت ؟ فقال : من أجل فلان الطالب لنزيده فى مرتبه عشرة دراهم. قال له القاضى تاج الدين : يا سيدى هذا له فى المكان الفلانى كذا، وفى المكان الآخر كذا، وفى موضع كذا، كذا. قال : فقال له الشيخ أبو الحسن : يا تاج الدين لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها، فإن الله تعالى لم يقنع بالجنة للمؤمن جزاء حتى زاده النظر إلى وجهه الكريم فيها»([36]). فانظر إلى الإمام –رضى الله عنه- وهو يكثر فى الوعظ لهذا القاضى حتى يميل قلبه بالعطاء لطالب العلم.

وكان الإمام -رضى الله عنه- لا يفرق فى رحمته بالناس بين المسلم وغير المسلم، وكان يسعى لقضاء حوائجهم بغير تفريق، يقول ابن عطاء الله : «وقد بلغنى عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى -رضى الله عنه- أنه استدعى يهوديا كحالا ليداوى بعض من عنده، فقال له اليهودى : لا أستطيع أن أعالج، فإنه جاء مرسوم من القاهرة أن لا يداوى أحد من الأطباء إلا بإذن من مشارف الطب بالقاهرة. فلما خرج ذلك اليهودي، قال الشيخ لخدامه : هيئوا إلى السفر، وسافر لوقته إلى القاهرة، وأخذ لهذا الطبيب إذنا، وعاد إلى ذلك الطبيب ولم يبت بها ليلة واحدة، ثم جاء إلى الإسكندرية، فأرسل إلى ذلك الطبيب، فاعتذر له بما اعتذر له به أولا، فأخرج له الشيخ مكتوبا بالإذن، فأكثر اليهودى التعجب من هذا الخلق الكريم»([37]).

ويقول سيدى ابن عطاء الله السكندرى فى توضيح كثرة تردد الإمام أبى الحسن الشاذلى على أبواب الأمراء والقضاة وكون ذلك من أنواع الحُجب التى يحجب الله بها الولى عن الناس فلا يعرفونه :  «ومنهم من يكون حجابه كثرة التردد إلى الملوك والأمراء فى حوائج عباد الله، فيقول قصير([38])الإدراك: لو كان هذا وليا ما تردد إلى أبناء الدنيا. وهذا جور من قائله. بل انظر تردده إليهم، إن كان لأجل عباد الله، وكشف الضرر عنهم، وتوصيل ما لا يستطيعون توصيله إليهم مع الزهد واليأس مما فى أيديهم والتعزز بعز الإيمان وقت مجالستهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فلا حرج على من هذا شأنه لأنه من المحسنين، وقال قال سبحانه : ﴿مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ [التوبة :91]وهذا كان سبيل شيخ شيخنا القطب الكبير أبى الحسن الشاذلى رضى الله عنه.

حتى لقد سمعت الشيخ الإمام مفتى الأنام تقى الدين محمد بن القشيرى (يعنى الإمام شيخ الإسلام ابن دقيق العيد) -رحمه الله- يقول : جهل ولاة الأمور بقدر الشيخ أبى الحسن الشاذلى -رضى الله عنه- عنه كثرة ترداده إليهم فى الشفاعات، ويجب أن تعلم أن هذا الأمر لا يقوى عليه إلا عبد متخلق بخلق الله، قد بذل نفسه فى مرضاة الله، وعلم وسيع رحمة الله، فعامل بالرحمة عباد الله ممتثلا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء([39])»([40]).

ويروى الشيخ أبو العزائم خادم الإمام أبى الحسن الشاذلي،بعد أن صدر أمر باعتقال الإمام أبى الحسن الشاذلى فى القاهرة، فقال : «فأقمنا أياما وكان السلطان رمى رميه على أهل البلد وهم أشياخ البلد، يقال لهم القبائل ، فلما سمعوا بالشيخ أتوا يطلبونه فى الدعاء، فقال لهم : غدا إن شاء الله نسافر إلى القاهرة ونتحدث مع السلطان فيكم، فسافرنا وخرجنا من باب السدرة، والباب فيه الجناشرة والوالى وما يدخل أحد ولا يخرج حتى يفتش، وما كلمنا أحد ولا علم بنا.

فلما وصلنا القاهرة أتينا القلعة، فاستؤذن عليه السلطان، فقال : كيف ونحن أمرنا أن يعتقل بالإسكندرية، فأدخل على السلطان والقضاة والأمراء، فجلس معهم، ونحن ننظر إليه، فقال له : ما تقول أيها الشيخ ؟  فقال له : جئت أشفع إليك فى القبائل، فقال له : اشفع فى نفسك، هذا عقد بالشهادة فيك وجهه ابن البراء من تونس، ثم ناوله إياه. فقال له : أنا وأنت والقبائل فى قبضة الله»([41]).

فانظر إلى الإمام لم يلتفت إلى شأنه هو، وأخبر السلطان أنه جاء يشفع لأشياخ القبائل، والسلطان يتعجب منه ويطلب منه أن يشفع فى نفسه.

ولم تقتصر رحمة الإمام أبى الحسن الشاذلى على أصحاب الحاجات من المسلمين وغيرهم فحسب، بل تعدتها إلى الظالمين الذين يسطون على غيرهم، يقول ابن عطاء الله السكندرى عن خلق الرحمة حتى فى مقام مقابل الظالم : «وهم الطبقة العليا، وهم الذين إذا ظلموا رحموا من ظلمهم، وقال الشيخ أبو الحسن : وإذا آذاك ظالم فعليك بالصبر، والاحتمال، واحذر أن تظلم نفسك، فيجتمع عليك ظلمان، ظلم غيرك لك، وظلمك لنفسك» فإن فعلت ما ألزمت من الصبر والاحتمال أثابك سعة الصدر حتى تعفو وتصفح، وربما أثابك من نور الرضا ما ترحم به من ظلم فتدعو له فتجاب فيه دعوتك، وما أحسن حالك إذا رحم بك من ظلمك، فتلك درجة الصديقين الرحماء. فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.

ومن هذا القبيل الذى ذكره الشيخ أبو الحسن ما اتفق لإبراهيم بن أدهم -رضى الله عنه- أنه قال له جندى: أين العمران ؟ فأشار إلى المقابر، فظن أنه يهزأ به فشجه، فطأطأ رأسه، وقال : أضرب رأسا طالما عصت الله. فقيل للجندى : هذا إبراهيم بن أدهم زاهد خراسان، فأحنى على رجليه يقبلهما، ويعتذر إليه فقال له إبراهيم بن أدهم : والله ما رفعت يدك عن ضربى إلا وأنا أسأل الله لك المغفرة؛ لأنى علمت أن الله تعالى يثيبنى على ذلك، ويؤاخذك بما فعلت، فاستحيت أن يكون حظى منك الخير، وحظك منى الشر»([42]).

 


(1) المرجع : أحمد بن محمد بن عياد الشافعي، المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، القاهرة، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1381هـ/1961م، ص 7 .

(2) راجع للتوسع بخصوصها : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (117-332) .

(3) د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (59) .

(4) بخصوص الدليل على وجود "علم الحقيقة" من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، راجع: السيوطى، تأييد الحقيقة العلية، ص 4-11.

(5) راجع بخصوص هذه القضية عند أبى الحسن الشاذلى: د/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 73 - 75) .

(6) الشعرانى ، الطبقات الكبرى،  (2/5).

(7) محمد بن محمد ظافر المدنى ، الأنوار القدسية،  ص 118.

(8) ابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص 57 (ط الحلبى) . -والشعرانى ، الطبقات الكبرى،  2/5.

(9) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 97-98.

(10) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 80، 81.

(11) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 84، 85.

(12) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 104. - ود/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 117-118) .

(13) ابن عطاء الله السكندرى ، تاج العروس الحاوى لتهذيب النفوس (ص 46) .

(14) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 119 : 121.

(15)  الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 51.

(16)  الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 58.

(17) الشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/6 .

(18) ابن الصباغ ، درة الأسرار،  ص  86.

(19) الشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/9-10 .

(20) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 200.

(21) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 145.

(22)  راجع : على سالم عمار، "أبو الحسن الشاذلى ، عصره ..."، 1/122 . وراجع بخصوص مجاهدات الشاذلى: المرجع السابق نفسه، 1/115-118.

(23) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 201.

(24) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 200، 201. وانظر : د/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 43) .

(25) ابن عطاء الله ، لطائف المنن (ص 221 - 222) باختصار وتصرف، ود/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 62) .

(26) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 140.

(27) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص 145.

(28) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص  111.

(29) راجع : الحكم العطائية ؟؟؟ . وشرح الرندي على الحكم، جـ1، ص5.  د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (50 - 51) .

(30) ابن عطاء الله ، لطائف المنن، ص  115.

(31) ابن عياد ، المفاخر العلية ص 43.

(32) ابن عياد ، المفاخر العلية ص 43.

(33) د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (20) . وللتوسع بخصوص هذه القضية راجع : المصدر السابق نفسه ، ص (1360-147).

(34) ابن عطاء الله السكندرى ، تاج العروس الحاوى لتهذيب النفوس (ص 15) .

(35) ابن عطاء الله السكندرى ، تاج العروس الحاوى لتهذيب النفوس (ص 30) .

(36) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن،  ص 88، 89.

(37) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن، ص 228.

(38) فى المطبوع القصير، والصواب حذف (ال).

(39) رواه أحمد فى مسنده 2/160، وأبو داود فى سننه 2/703، والترمذى فى سننه 4/323، وأخرجه الحاكم فى المستدرك 4/175، وعقبه بقوله : «وهذه الأحاديث كلها صحيحة و إنما استقصيت فى أسانيدها بذكر الصحابة رضى الله عنهم لئلا يتوهم متوهم أن الشيخين رضى الله عنهما لم يهملا الأحاديث الصحيحة»وعلق عليه الذهبى فى التلخيص بقوله : صحيح.

(40) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن،  ص 227، 228.

(41) ابن الصباغ ، درة الأسرار،  ص 11- 13، وراجع : ابن عياد، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص : 27، 28.

(42) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن، ص 137، 138.


التقييم الحالي
بناء على 30 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث