يقول الله تعالى محببًا في الذكر، وداعيًا إليه بطريقة من أسمى الطرق وأجملها: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة:152].
ولقد دَعَا الله سبحانه إلى الذكر بشتى الطرق، لقد دعا إليه بصيغة الأمر، ودعا إليه طالبًا الإكثار منه، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الأحزاب:41-42]، ودعا إليه سبحانه في جميع الحالات التي يكون الإنسان عليها من قيام، أو جلوس، أو على جنبه: ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾[النساء:103]، وجعل سبحانه الذكر إحدى الصفات التي يتحلى بها أولو الألباب: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾[آل عمران: 190-191].
وأخبر الله سبحانه أن الذكر علاج للقلق والضيق والهم فقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد:28]، على أن الرضا، وهدوء النفس، وطمأنينة القلب والسكينة... إن كل ذلك يكون نتيجة للذكر، يقول تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه:130].
أما في الآخرة فإنه سبحانه يقول: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:35]، ولقد حَبَّبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الذِّكْرِ بمختلف الأساليب وبشتى الأنحاء، وكان هو نفسه قدوة في ذلك، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
وكلمة «على كل أحيانه» كلمة شاملة، إنها تعني الأوقات، وتعني -بالتبع لذلك- الأحوال، فهو صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله صباحًا ومساءً، وكان يذكره فيما بين ذلك، وكان يذكره قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه.
ويقول صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل في حديث قدسي رواه الشيخان: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إليَّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
ويرشد صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد، إلى أنه: «ما عمل آدمي عملًا قط أنجي له من عذاب الله، من ذكر الله».
ويبين صلى الله عليه وسلم أن: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت»،وكما ينال الذاكر رضاء الله وثوابه، وكما ينفع الذكر في الدار الآخرة؛ فإنه ينفع في هذه الحياة الدنيا، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»([1]).
وتعتمد المدرسة الشاذلية فى طريقها إلى الله - شأنها شأن الصوفية كافة - على الذكر ، والمقصود به التخلص من الغفلة والنسيان بدوام حضور القلب مع الحق، أو هو ترديد اسم الله بالقلب أو اللسان، أو ترديد صفة من صفاته، أو حكم من أحكامه، أو فعل من أفعاله، أو غير ذلك مما يُتقرب به إلى الله، ولا يصح أن يقبل السالك على الذكر إلا بعد تهذيب الأخلاق بالرياضة، والعزلة عن الخلائق وقطع كل عائق، وهي مراحل مجاهدة النفس.
يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: " حقيقة الذكر الانقطاع عن الذكر إلى المذكور وعن كل شيء سواه"([2]).
ويقسم الشيخ أبو الحسن الذكر إلى أربعة درجات يترقى فيها الذاكر حتى يصل إلى أعلى درجة ، فيقول رحمه الله : "الأذكار أربعة: ذكر تذكُرُه، وذكر تذْكُرُ به، وذكر يُذَكِّرُك، وذكر تُذْكَرُ به. فالأول : حظ العوام، وهو الذى تطرد به الغفلة أو ما تخافه من الغفلة.
والثانى تذكر به: أى مذكور، إما العذاب، وإما النعيم، وإما القرب، وإما البعد وغير ذلك، وإما اللَّه جل وعلا.
والثالث : ذكر يذكرك مذكورات أربع: الحسنات من اللَّه، والسيئات من قبل النفس ومن قبل العدو ، وإن كان اللَّه هو الخالق لها.
والرابع : ذكر تُذْكَرُ به وهو ذكر اللَّه لعبده، وليس للعبد فيه متعلق وإن كان يجرى على لسانه، وهو موضع الغنى بالذكر أو بالمذكور العلىّ الأعلى، فإذا دخلت فيه صار الذكر مذكوراً والمذكور ذاكراً، وهو حقيقة ما ينتهى إليه فى السلوك {واللَّه خير وأبقى}"([3]).
أما كيف يفتح السالك باب الذكر ليلج منه فيعطينا الشاذلى مفتاح ذلك بقوله: " اقرع باب الذكر باللجأ والافتقار إلى اللَّه بملازمة الصمت عن الأمثال والأجناس، ومراعاة السر عن محادثة النفس فى جميع الأنفاس إن أردت الغنى".
ويقول ابن عطاء الله السكندرى: "الذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان ، بمداومة حضور القلب وإخلاص ذكر اللسان مع رؤيته منه ... وقيل : الذكر هو الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة ، على استيلاء الخوف وشدة المحبة وهيجان الشوق وقلة الغلبة، وحقيقة الذكر إفراد المذكور بغيبة الذاكر عن ذكره ، وفنائه فى المشاهدة والحضور ..."([4]).
والذكر عند المدرسة الشاذلية إما أن يكون ذكرًا انفراديًا يصطنعه السالك في خلوته أو في غير خلوته، أو ذكرًا جماعيًّا([5])يؤديه في مجالس خاصة تعقد لهذا الغرض، وهذا الذكر إما أن يكون جهرًا أو خفضًا، ويستحسن أن يكون خفضًا إذا كان السالك وحده، أما إذا كان في جماعة، فلابد من أن يجهر بالذكر، مع مراعاة ضرورة توافق صوته مع أصوات الذاكرين بطريقة واحدة موزونة([6]).
ويحتل الذكر الجماعى الجهرى القوى منزلته الكبيرة فى المدرسة الشاذلية، إذ هو أقوى فى رفع حجب القلب من الذكر الفردى، حيث يرون أن ذكر جماعة على قلب واحد أكثر تأثيرا وأشد قوة فى رفع الحجب عن القلب من ذكر واحد وحده، وأيضا يحصل لكل واحد ثواب ذكر نفسه، وثواب سماع الذكر من غيره، وشبه الله القلوب القاسية بالحجارة فى قوله تعالى {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة} ، والحجارة لا تنكسر إلا بقوة، فكذلك قساوة القلب لا تزول إلا بالذكر القوى([7]).
وللذكر عند المدرسة الشاذلية ثلاث مقامات من حيث محل الذكر :
1- ذكر باللسان وهو ذكر عامة الخلق ، وهو ذكر الحروف بلا حضور، وهو الذكر الظاهر، وله فضل عظيم، شهدت به الآيات والأخبار والآثار.
2- وذكر بالقلب ، وهو ذكر خواص المؤمنين.
3- وذكر بالروح وهو لخاصة الخاص، وهو ذكر العارفين بفنائهم عن ذكرهم وشهودهم إلى ذاكرهم([8]).
وينقسم الذكر عندهم أيضا من حيث الخفاء والجلاء إلى ثلاثة أقسام : "ذكر جلى ، وذكر خفى ، وذكر حقيقى ، فالذكر الجلى لأهل البداية ، وهو ذكر اللسان بصرف الشكر والثناء والحمد ... ، والذكر الباطن الخفى لأهل الولاية ، وهو ذكر سر القلب بالخلاص من الفترة ، والبقاء مع المشاهدة بلزوم الحضرة ... والذكر الكامل الحقيقى لأهل النهاية، وهو ذكر الروح بشهود الحق إلى العبد ، والتخلص من شهود ذكره ببقائه بالرسم والحكم ... والروح لها ذكر الذات، والقلب له ذكر الصفات، واللسان له ذكر العادة ..."([9]).
أما عن أنواع الذكر ، فترى المدرسة الشاذلية أن هناك أنواع كثيرة للذكر ، سواء فى ذلك ذكر الله أو صفة من صفاته، أو حكم من أحكامه، أو فعل من أفعاله، أو استدلال على شىء من ذلك ، أو دعاء ، أو ذكر رسله ... أو تقرب إليه بوجه من الوجوه ... بنحو قراءة أو ذكر أو شعر ... فالمتكلم ذاكر، والمتفقه ذاكر ، والمدرس ذاكر، ... والمتفكر فى عظمة الله تعالى ... ذاكر، والممتثل ما أمر الله به والمنتهى عما نهى عنه ذاكر ...([10]).
ويؤكد مشايخ المدرسة على أن ما من ذكر إلا وله نتيجة تخصه ، فأى ذكر اشتغلت به أعطاك ما فوقه ، فالذكر مع الاستعداد هو الداعى إلى الفتح([11]).
ومن النتائج المباشرة للذكر الحقيقى والعميق : الفناء، فإنه إذا استمكن المذكور من القلب، وانمحى الذكر، وخفى فلا يلتفت الذاكر إلى الذكر، ولا إلى القلب، فإن ظهر له فى أثناء ذلك التفات إلى الذكر أو إلى القلب ، فذلك حجاب شاغل ، وذلك هو الفناء، وهو أن يفنى الإنسان عن نفسه فلا يحس بشىء من ظواهر جوارحه، ولا الأشياء الخارجة عنه ، ولا العوارض الباطنة فيه ، بل يغيب عن جميع ذلك، ويغيب عنه جميع ذلك ذاهبا إلى ربه أولا، والكمال عند السادة الشاذلية أن يفنى عن نفسه وعن الفناء ، والفناء عن الفناء غاية الفناء، والفناء أول الطريق، وهو الذهاب إلى الله تعالى ، وتأتى الهداية بعده {إنى ذاهب إلى ربى سيهدين}([12]).
وبالإضافة إلى ذلك فللذكر عند المدرسة الشاذلية وظيفة خلقية عملية من حيث إنه وسيلة إلى تطهير القلب عن صفاته الأخلاقية الذميمة وإحلال صفات أخرى حميدة محلها. وله أيضًا وظيفة عرفانية من حيث أنه وسيلة الذاكر إلى المعرفة بالله وبالأمور الإلهية بطريق الذوق، وله بالإضافة إلى هذا وذاك وظيفة ميتافيزيقية من حيث أنه وسيلة الصوفي إلى التحقق بسقوط الأكوان شهودًا، وإثبات وجود واحد حقيقي هو وجود الله. وبعبارة آخرى وسيلة الصوفي إلى إرساء قواعد نظرية ميتافيزيقية في تفسير الوجود قائمة على دعائم الذوق لا البرهان العقلي([13]).
ويحتل الذكر بالاسم المفرد (الله) مكانة سامية عند المدرسة الشاذلية ، "ولذاكر هذا الاسم المفرد أعنى الله حالات: حالة الوله والفناء، وحالة الحياة والبقاء، والحالة النعم والرضا ، فأما الحالة الأولى من الوله والفناء ، وهو الذى يقتصر على ذكره، وله خاصة فى بدايته دون غيره من الأسماء، ويجعله نجيا ... فمن داوم على ذلك محى ظاهره ، وأمحق باطنه ... وأما الحالة الثانية من الحياة والبقاء فإنه إذا تحقق ذاكر هذا الاسم فيه وثبت عليه وألفه انمحت منه رسومه وأوصافه، ونفخ فيه روح الرضا بعد موت اختياراته وإراداته ... وأما الحالة الثالثة من حالة النعيم والرضا فإن ذاكر هذا الاسم إذا عظم أمر الله وأشفق على خلق الله ولم يتغال بالادعاء فى دين الله ... انتقل من حالة الحياة والبقا إلى حالة النعيم والرضا، وعاش عيشة منعمة دائمة كريمة ..."([14]).
وللذكر باللسان آداب عند المدرسة الشاذلية، وهذه الآداب سابقة ، ومقارنة، ولاحقة، ومنها آداب ظاهرة وباطنة، فالآداب السابقة كالتوبة ، وتهذيب النفس ، وتلطيف الأسرار وتهيئتها للذكر ، والملبس والمطعم الحلال ... ، والآداب المقارنة كالإخلاص وتطييب المجلس ، والجلوس متربعا مستقبل القبلة إن كان منفردا ، وحيث انتهى به المجلس إن كان فى جماعة، ووضع راحتيه على فخذيه، والرابطة على الشيخ والاستمداد منه معتقدا أن استمداده هو استمداد من النبى صلى الله عليه وسلم، ... ، والآداب اللاحقة كالحضور مع القلب بعده متلقيا وارد الذكر، أما الذاكر بالقلب فلا يحتاج إلى هذه الآداب عندهم([15]).
ولا بد عند المدرسة الشاذلية من تدريج السالك بالذكر، فيبدأ بالاستغفار، ثم بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، ثم يشتغل بحسب ما يأمره شيخه، وذلك بحسب ما فيه من علل وأدواء([16]).
(2) المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص121-122.
(2) ابن الصباغ ، درة الأسرار، ص 122. ولمزيد من التوسع بخصوص الذكر عند المدرسة الشاذلية راجع: الشيخ زروق، قواعد التصوف (ط خيالى) ، ص 74-87.
(2) ابن عطاء الله السكندرى ، القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد (ص 78) ، وانظر أيضا : ابن عطاء الله، مفتاح الفلاح (ص 4).
(2) بخصوص الذكر الجماعى ، والذكر الجهرى، وهو ما اعتاده السادة الصوفية فى مجالسهم ، ودليله ذلك من الكتاب والسنة راجع : ابن عطاء الله السكندرى ، مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح (ص 11- 21)، وقد أفرد المسألة جماعة من العلماء بالتأليف منهم: الحافظ السيوطى ، نتيجة الفكر فى الجهر بالذكر ، والإمام اللكنوى ، سباحة فى الفكر فى الجهر بالذكر.
([6]) ابن عطاء الله السكندرى ، مفتاح الفلاح، ص(13 ، 17). وراجع : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (190 - 193) بتصرف واختصار.
(2) ابن عطاء الله السكندرى ، القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد (ص 75) ، ابن عطاء الله السكندرى ، مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح (ص 5) .