نسخة تجريبيـــــــة
التوحيد والمعرفة وشهود الأحدية

تقسم المدرسة الشاذلية التوحيد إلى ثلاثة أصناف ، يقول ابن عطاء الله السكندرى: "والناس فى التوحيد وذكره على ثلاثة أصناف: صنف منهم عموما لأهل البداية ، وهو التوحيد باللسان نطقا ومقالا واعتقادا وإخلاصا بأنوار شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وهو الإسلام . وصنف خصوص وسط ، وهو توحيد القلب تصريفا وصرفا واعتقادا وإخلاصا ، وهو الإيمان . وصنف خصوص الخصوص ، وهو توحيد العقل عيانا ويقينا ومشاهدة وهو الإحسان"([1]).

وعندما ينتهى السالك عند الشاذلية من مقامات السلوك يكون قد وصل إلى الله وإلى المعرفة بالله ، فالسالك المتحقق بالمعرفة يسمى واصلا, ووصوله إلى الله هو وصوله إلى المعرفة به, وهو ليس وصولا بالمعنى المفهوم بين ذوات الأشياء, فإن الله يجل عن ذلك ، يقول ابن عطاء الله : "وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به, وإلا فجل ربنا أن يتصل به شيء أو يتصل هو بشيء"، ويقول أيضا : "أهل المعرفة بالله مشاهدون لأسرار الملكوت لا تدبير لهم مع الله إذ وجود المواجهة أبي لهم ذلك وفسخ عزائم تدبيرهم , وكيف يدبر مع الله عبد هو في حضرته ومشاهد لكبرياء عظمته"([2]).

والمعرفة عند الشيخ أبى الحسن الشاذلى هى : "ما قطعتك عن غير اللَّه وردتك إلى اللَّه"([3])، وهنا يشير الشيخ الشاذلى إلى أمر مهم حيث نبه على منتهى المعرفة ، وهى الرجوع إلى الله والانقطاع عن غيره، هذا هو مذهب الشيخ فى المعرفة، فليست المعرفة هى معرفة الله ، لأنه أجل من أن يعرف، ولهذا يقول الشاذلى: "كيف يعرف بالمعارف، من به عرفت المعارف؟ أم كيف يشبه بشىء من سبق وجوده وجود كل شىء"([4]).

ويقسم الشيخ أبو العباس المرسى المعرفة إلى ثلاثة : معرفة الله ، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، فيقول: "صلاح العبد فى ثلاثة أشياء : معرفة الله ، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، فمن عرف الله خاف منه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف النفس تواضع لعباد الله"([5]).

ويؤكد ابن عطاء الله السكندرى على أن هناك فرقا كبيرا بين أهل المعرفة بالله وبين أهل الغفلة والعياذ بالله تعالى، ويظهر ذلك فى تفكيرهم وأحوالهم، فأهل المعرفة إذا ناموا يقولون: غدا ماذا يفعل الله بنا، لأنهم يعتقدون أن الأمور بيد الله تعالى، وأما أهل الغفلة إذا ناموا يقولون: غدا سنعمل كذا وكذا، اعتقادا منهم أن الأمور بأيديهم يتصرفون فيها كما يريدون. أهل الغفلة إذا أصبحوا يتفكرون فى الدنيا، ويبحثون عنها، ويتفقدون أموالهم بزيادتها ونقصانها ، لا همّ لهم غيرها، وأهل الزهد والعبادة إذا أصبحوا يتفقدون أحوالهم مع الله سبحانه وتعالى، ويهتمون بزيادة طاعتهم وأعمالهم الصالحة، وأهل المعرفة إذا أصبحوا أو أمسوا يتفقدون قلوبهم مع الله عز وجل([6]).

وبعد أن يتحقق الصوفي - من وجهة نظر المدرسة الشاذلية - في نهاية طريقه بالمعرفة  بالله, ينتهي من هذه المعرفة إلى مذهب في تفسير الوجود , يقوم على دعائم من الذوق الصوفي, لا البرهان العقلي ، وهذا المذهب الذي ينتهي إليه الصوفي في تفسير الوجود هو على ما ذهبت إليه المدرسة الشاذلية ما يسمى بشهود الأحدية, ومؤداه أن الله هو الموجود الحقيقي باعتبار جميع مراتب الوجود وما سواه من الأكوان لا يثبت له رتبة الوجود الحقيقي, وإنما وجوده , الذي نظنه حقيقيا, أمر متوهم، وشهود الأحدية في الوجود يكون ذوقا وعينا, وهو لازم المعرفة بالله, وهذا الشهود عند المدرسة الشاذلية نجد جذوره تمتد إلى الشيخ ابن مشيش أستاذ الشاذلى ، يقول الشيخ أبى الحسن الشاذلى : "أوصاني أستاذي,  رحمه الله تعالى,  فقال: "حدد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء,  وعند كل شيء,  ومع كل شيء وفوق كل شيء, وقريبا من كل شيء,  ومحيطا بكل شيء. بقرب هو وصفه,  وبإحاطة هي نعته,  وعد عن الظرفية والحدود,  وعن الأماكن والجهات,  وعن الصحبة والقرب بالمسافات,  وعن الدور بالمخلوقات. وامحق الكل بوصفه: الأول,  والآخر , والظاهر, والباطن. كان الله ولا شيء معه"([7]).

ويقول ابن عطاء الله مبينا هذا : "لو عرف (الصوفي) الله تعالى أغناه وجوده عن كل موجود , واستغنى به عن كل مفقود, ومن فقد الله لم يجد شيئا , ومن وجده لم يفقد شيئا, وكيف يفقد شيئا من وجد الظاهر في كل شيء ؟ فما سوى الله  عند أهل المعرفة لا يتصف بوجد ولا بفقد إذ لا يوجد غيره معه لثبوت أحديته , ولا فقد لغيره لأنه لا يفقد إلا ما وجد, ولو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان, ولأشرق نور الإيقان فغطي وجود الأكوان"، وأخص ما يوصف به المشاهد لأحدية الله في الوجود عند الشاذلية هو إسقاط الإرادة والتدبير([8]).

والمعرفة عند المدرسة الشاذلية على قسمين : معرفة عامة ، ومعرفة خاصة، فمعرفته العامة المفروضة على سائر المكلفين ، وهى إثبات وجوده وتقديسه عما يليق به ... ، أما المعرفة الخاصة فهى حال تحدث عن شهود ، فالعارف من أشهده الله ذاته وصفاته، وأسماءه وأفعاله ، والعالِمُ من أطلعه الله عليه ذلك لا عن شهود، بل عن يقين، فالمعرفة الخاصة ما كان عن شهود([9]).

 


(1) ابن عطاء الله السكندرى ، القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد (ص 74) .

(2) ابن عطاء الله السكندرى، ؟؟؟. وراجع : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (267) ، وللتوسع بخصوص المعرفة عند الشاذلية ، راجع المصدر السابق نفسه : (266- 286).

(3)  ابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص 90 (ط الحلبى) .

(4)  ابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص 90 (ط الحلبى) .

(5) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 203) .

(6)  ابن عطاء الله السكندرى ، التحفة فى التصوف (بترتيب د/ العريض ) ، ص 50.

(7) الشعرانى، الطبقات الكبرى ، 1/10-11، ود/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، ص 22 .

(8)       التنوير , ص 61. وانظر : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص 289 ، 307 ، وللتوسع بخصوص شهود الأحدية عند المدرسة الشاذلية راجع: المصدر السابق نفسه، (ص 287 - 322).

(9) ابن عطاء الله السكندرى ، مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح (ص 57-58) .


التقييم الحالي
بناء على 52 آراء
أضف إلى
أضف تعليق
الاسم *
البريد الإلكتروني*
عنوان التعليق*
التعليق*
البحث