لعل من أبرز تعاليم المدرسة الشاذلية كذلك مبدأ القول بإسقاط التدبير([1])والاختيار، وهو نقطة البداية في السلوك إلى الله عندهم ، وكانت مراحل طريق السالك إلى الله على اختلافها وتعددها قائمة على هذا الأساس الأصل (إسقاط السالك لإرادته وتدبيره) الذي ينبني عليه الطريق كله، ويتفق موقف المدرسة الشاذلية بصدد مشكلة الأفعال الإنسانية اتفاقًا تامًا مع مذهب أهل السنة الذين قرروا أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله . وهذا المبدأ (إسقاط التدبير) سنجده أصوله واضحة عند الشيخ أبى الحسن الشاذلى الذى كان طريقه ترك الاختيار مع الله وإن كان ولا بد من اختيار فاختياره ألا يختار([2])، وهذا الأدب الذى أدبه به ربه تعلمه من أحد الأولياء لقيه فى مغارة أثناء سياحته ، وكان الشيخ أبو الحسن قد وقع فى نفسه تردد هل يلازم البرارى أم يرجع إلى الديار لصحبة العلماء والأخيار، فوصف له ذلك الولى ، وقد أجاب سؤال أبى الحسن عن حاله حين دخل عليه أول مرة فقال هذا الولى : " أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار "، فقال أبو الحسن : "يا سيدى أما شكواى من حر التدبير والاختيار فقد ذقته وأنا الآن فيه ، وأما شكواك من برد الرضا والتسليم فلماذا ؟". فقال : "أخاف أن تشغلنى حلاوتهما عن الله"([3])، فهذا أدب تلقاه الشاذلى من أحد الأولياء ، وسنجد الشيخ أبا الحسن بعد ذلك يقول: "لا تختر من الأمر شيئًا واختر ألا تختار، وفر من ذلك المختار فرارك من كل شيء إلى الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ} [القصص:68]"([4])، ثم أخذه ابن عطاء الله وعمقه وجعله مذهبًا كاملًا في التصوف، فالمقامات والأحوال التي تعرض للسالك في مجاهدته، نجدها قائمًا عندهم على أساس من إسقاط التدبير ، فالتوبة والزهد، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا، والمحبة، وهي مقامات الطريق إلى الله، لا تصح جميعًا إلا إذا كان المتحقق بها متحققًا بإسقاط الإرادة والتدبير. وما يقال في المقامات يقال في الأحوال لا إرادة للسالك فيها باعتبارها واردة عليه من الله، كما أن أدبها الأكمل أن يكون السالك فيها غير منتقل بإرادته من أحدها إلى الآخر، وبعبارة أخرى يكون فيها بلا تدبير واختيار، ثم يصل السالك في نهاية طريقه بعد تدرجه في مجاهداته ومقاماته وأحواله إلى المعرفة بالله، وهذه المعرفة ليست في جوهرها إلا المعرفة بإسقاط التدبير مع الله، ثم المعرفة بالله على التحقيق تؤدي عند المدرسة الشاذلية إلى شهود الأحدية في الوجود شهودًا ذوقيًا، بحيث لا يرى العارف إلا وجودًا واحدًا هو وجود الله، وما عدا الله من الموجودات لا يتصف بالوجود الحقيقي وشهود الأحدية في الوجود يكون من لازمه أيضًا إسقاط التدبير مع الله، وابن عطاء الله فى هذا متأثر بما سبق أن قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي: «ولن يصل الولي إلى الله ومعه تدبير من تدبيراته أو اختيار من اختياراته»([5]).
وليس فى القول بإسقاط التدبير ما يؤدي إلى أن يقف الإنسان موقف العاجز عن الاختيار لنفسه والعمل في الحياة. إنهم يهدفون من وراء القول بإسقاط التدبير إلى غاية نفسية يضعونها نصب أعين السالك في طريقه إلى الله، بالحث على إسقاط تدبيره في حياته وفي سلوكه بمعنى ألا يكون متطلعًا في قلق إلى استكناه المجهول من أمر المستقبل، لأن هذا التطلع يترتب عليه إشغال وقته وتعذيب فكره، فضلا عما يتضمنه من منازعة الربوبية ومشاركتها فيما هو من أمرها، وهذا كله يقطعه عن الوصول إلى الله([6]).
(1) للتوسع بخصوص إسقاط التدبير عند السادة الشاذلية راجع: ابن عطاء الله السكندرى، التنوير فى إسقاط التدبير . - أ/د أبو الوفا التفتازانى، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، 119 - 145.
(2) راجع بخصوص ذلك : ابن عياد الشافعى ، المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص 97- 99 (ط الحلبى) . د/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 62-63 ، 67) .
(3) ابن عطاء الله السكندرى ، لطائف المنن (ص 87) .
(4) الشعرانى ، الطبقات الكبرى ، 2/9 . د/ عبد الحليم محمود ، قضية التصوف - المدرسة الشاذلية، (ص 94) .
(5) انظر: د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (59 ، 122 - 124 ، 131) . وللتوسع بخصوص إسقاط التدبير راجع: ابن عطاء الله السكندرى، التنوير فى إسقاط التدبير ، والذى خصه للكلام فى هذه المسألة ، وراجع أيضا : د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (118- 145).
(6) د/ أبو الوفا التفتازانى ، ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه، ص (134-135) .