مر الطريق الصوفى في الإسلام بمراحل متعددة، وتواردت عليه ظروف مختلفة، واتخذ تبعًا لكل مرحلة، ووفقًا لما مر به من ظروف؛ مفاهيم متعددة. ولذلك كثرت تعريفات التصوف (راجع: الطريق الصوفى - تعريفه)، وكل تعريف منها قد يشير إلى بعض جوانبه دون البعض الآخر، ولكن يظل هناك أساس واحد للتصوف لا خلاف عليه، وهو أنه أخلاقيات مستمدة من الإسلام. ولعل هذا هو ما أشار إليه ابن القيم في (مدارج السالكين) قائلًا: ((واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخُلُقُ)). وعَبَّرَ عنه الكتاني بقوله: ((التصوف خُلُقٌ. فمن زاد عليك في الخُلُقِ زاد عليك في الصفاء)).
ويقول القصاب فى تعريفه:«أخلاق كريمة، ظهرت في زمان كريم، من رجل كريم، مع قوم كرام»، وفيه تأكيد على مكارم الأخلاق وأحاسنها.
ويقول الجريري: «الدخول في كل خلق سَنِيٍّ، والخروج من كل خلق دَنِيٍّ»(1).
إذن التصوف خُلُقٌ، ومن زاد على أخيه في الخُلق زاد عليه في التصوف، وبذلك اجتمعت كلمة الذين عرَّفوا التصوف، على الربط بينه وبين الأخلاق الكريمة.
الطريق الصوفى إذًا في أساسه خلق، وهو بهذا الاعتبار روح الإسلام؛ لأن أحكام الإسلام كلها مردودة إلى أساس أخلاقي.
ذلك أننا إذا نظرنا إلى القرآن الكريم فسنجده قد جاءنا بأنواع مختلفة من الأحكام الشرعية، وهي تندرج بوجه عام تحت ثلاثة أقسام رئيسية: العقائد، والفروع من العبادات والمعاملات، والأخلاق. فلنوضح ما ينطوي عليه كل قسم منها:
أما العقائد فتشمل: الإيمان بوجود الله الصانع القادر المختار، ووحدانيته، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وأما الأحكام الشرعية الفرعية التي تضمنها القرآن فتشمل: أحكام العبادات، والكفارات، والنذور، والمعاملات المالية، وأحكام الأسرة، وأحكام الجرائم، والعقوبات المقررة عليها، وأحكام الدولة، وما إلى ذلك مما هو متضمن في كتب الفقه بالتفصيل.
بقيت بعد ذلك ناحية الأخلاق في القرآن، فقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على مكارم الأخلاق، كالزهد، والصبر، والتوكل، والرضا، والمحبة، واليقين، والورع وما إليها مما يندب إليه كل مسلم ليكمل إيمانه. وقد بين لنا القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلمهو الأسوة الحسنة لمن يريد التكمل بهذه الفضائل في أرقى صورها.
والحقيقة أن أخلاق الإسلام هي أساس الشريعة، بحيث إذا افتقرت أحكام الشريعة -سواء في ذلك الأحكام الاعتقادية أو الأحكام الفقهية- إلى الأساس الخلقي كانت صورة لا روح فيها، أو هيكلًا فارغًا من المضمون.
إن التدين ليس مجرد التمسك بشكليات الدين دون جوهره، أو ادعاء الدين لتحقيق مآرب ذاتية، وإنما التدين هو الفهم الواعي للدين، والعمل به بما يربط حياة التعبد بحياة المجتمع، فلا ينعزل الدين ويتقوقع أصحابه بعيدًا عن حقائق الحياة.
إن من أهم ما ينبغي أن يُفْهَم عليه الدين أنه في جوهره أخلاق بين العبد وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين أسرته، ثم بينه وبين أفراد مجتمعه.
ولكي يتبين لك في وضوح وجلاء أن أحكام الشريعة كلها مردودة إلى أساس أخلاقي، ننظر في أحكام الإيمان أولًا:
إن الإيمان بالله تعالى ووحدانيته تنافيه أخلاق الحرص، والجزع، والخوف، وعبادة الملل، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وينافيه –أيضًا- الاستناد إلى الخَلْقِ دون الخالق، وقهر اليتيم أو الضعيف، وقساوة القلب وغلظته، وانعدام الأمانة. وما لم يطرح الإنسان من نفسه هذه الأخلاق المذمومة لا يكون إيمانه كاملًا صحيحًا.
ولعلك تدرك هنا عمق المعنى في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، « أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَإِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، « خَصْلَتَانِ لاَ تَجْتَمِعَانِ فِى مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ» ، «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
ومن الملاحظ بعد هذا –أيضًا- أن جميع عبادات الإسلام ومعاملاته ما لم تقم على أساس أخلاقي لا يكون لها قيمة أو فائدة، ولا تكون مقبولة عند الله، وخذ لذلك بعض الأمثلة:
1- الصلاة، تجدها في الإسلام طهارة النفس، وترقيقًا للقلب، وتحلية للإنسان بفضائل الهيبة، والخشوع، والمشاهدة، والمراقبة، والمناجاة مع الله تعالى، والأنس به، وبدون هذه المعاني تكون الصلاة هيكلًا فارغًا من المضمون.
2- وانظر إلى الزكاة تجدها –أيضًا- تطهيرًا للنفس، وتزكية للقلب، وركنًا من أركان العدالة الاجتماعية التي دعا إليها الإسلام، ألم يقل الله تعالى لنبيه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وقد نهى الشَّارِعُ عن المَنِّ بالزكاة على الغير، وأمر بالابتعاد بها عن معنى الرياء؟
3- وتأمل الصوم تجد له غايتين: الأولى: صفاء النفس، وضبط الإرادة مما يُمَكِّنُ الإنسان من التدرج في مدارج الكمال الأخلاقي، فيحقق معنى إنسانيته في هذه الحياة. والثانية: الترقي بالمجتمعات البشرية بعد الترقي بأفرادها أخلاقيًا.
ولما كان في الصوم زهد، وتقشف، وصبر على الحرمان من مألوف الحياة ولذاتها التي يركن إليها أفراد البشر في أحوال الدعة والترف؛ كان الصوم شعارًا للمجتمعات الجادة التي تَبْنِي نفسها لا المجتمعات المترفة، المجتمعات التي تتحمل آلام الحرمان من اللذات والكماليات في سبيل بناء حياة أفضل، وتحقيق تقدم اجتماعي أكمل.
4- والحج في الإسلام عبادة تهدف إلى تهذيب الأخلاق –أيضًا-. فالحج في جوهره تقرب إلى الله وعبودية تامة، وفيه عودة إلى الفطرة الأولى، وإشعار بالمساواة بين أفراد البشر، حيث يقف الحجاج أمام الخالق في زي واحد، فلا تفرق معهبين فرد وآخر، وفيه غير ذلك من المعاني الأخلاقية.
5- ومعاملات الإسلام –أيضًا- لا بد لها من قواعد أخلاقية معينة يراعيها المسلم مع من يتعامل معه من أفراد مجتمعه، فلا استغلال، ولا احتكار، ولا غش. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من غش أمتي فليس مني)) ، وألم يقل –أيضًا-: ((التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء)).
وقد سئل إبراهيم بن أدهم -أحد كبار الزهاد في الإسلام- عن التاجر الصدوق: أهو أحب إليه أم المتفرغ للعبادة، فقال: ((التاجر الصدوق أحب إلي؛ لأنه في جهاد. يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده)).
يتبين لك إذًا أن جوهر الدين هو الأخلاق. ولعلك تدرك بعد هذا عمق المعنى في قوله تعالى مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم :«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ».
وقد رسم لنا الإسلام طريقة التحقق بالكمال الأخلاقي الذي دعا إليه، فأمرنا بجهاد النفس بتخليتها عن مذموم الأخلاق، وتحليتها بأضدادهامن الأخلاق المحمودة. وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلمأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، وهو الجهاد الذي لابد منه لجهاد الأعداء بالسلاح، وهو الجهاد الأصغر.
ويجب أن نتنبه إلى أن الإسلام حين يدعو إلى جهاد النفس حريص كل الحرص على تكوين المواطن الصالح من أجل المجتمع الصالح؛ لأنه إذا صَلَحَ الفرد، صَلَحَ المجتمع. وإذا فَسَدَ الفرد، فَسَدَ المجتمع.
ولا تتحققالأخلاق الفاضلة للأفراد بمجرد سن القوانين وتوقيع العقوبات، وإنما تتحقق إذا توفرت الرغبة لدى الأفراد في التغيير، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11]، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النَّجم:39].
وثمرة هذا الجهاد النفسي عائدة علينا بالمنفعة، قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ}[العنكبوت:6]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}[الأنعام:104].
وقد أدرك أعلام التصوف سمو الغاية الأخلاقية للدين؛ فركزوا قصدهم نحوها، واهتموا باقتران المعرفة بمراقبة الله تعالى وخشيته؛ فأنشأوا علمًا للتصوف، واعتُبَر من العلوم الشرعية التي تستمد مقوماتها من الكتاب والسنة، وهذا ما أشار إليه الشعراني قائلًا: «هو علم انقدح في قلوب الأولياء، حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، والتصوف إنما هو زُبدة عمل العبد بأحكام الشريعة»(2).
ويشير هذا النص إلى أمرين مُهِمَّين:
الأول:أن التصوف الحق لا يبدأ من فراغ؛ بل لابد أن يستند إلى علم مكين، وليس هناك أمكن من الكتاب والسنة.
والآخر:أن التصوف ثمرة وحلاوة الإيمان، الذي خرج إلى حيز العمل والتطبيق، وهذا هو المنهج المأمون لمن ابتغى رضوان الله عز وجل.
قد أكد مؤلفو التصوف الذين مارسوا التصوف علمًا وعملًا، على أنه إذا واظب المريد على الذكر، وأكثر منه ليلًا ونهارًا؛ يرِقُّ حجابُه ضرورة، وإذا رق حجابه؛ رأى الفعل لله تعالى لا للعبد ويسمع نداء الحق تعالى من قلبه:
«كل من رق حجابه من المريدين، يشهد أنه لا مدخل له في وجود أفعاله إلا بقدر التكليف فقط؛ أدبًا مع الشريعة المطهرة، ويرى كشفًا ويقينًا أنه كالآلة التي يحركها المحرك على الفارغ»(3).
ونجد تحذيرًا شديدًا لدى الهُجويري (المتوفى492هـ) إلى الذين ينكرون التصوف، ويرى أنه لا ضير من إنكار الاسم المجرد للتصوف، «وإن كانوا ينكرون عين هذه المعاني، يكونوا قد أنكروا كل شريعة النبي عليه السلام وخصاله المحمودة»(4).
لقد أدرك صوفية الإسلام أهمية الأساس الأخلاقي للدين فجعلوا اهتمامهم مُوَجَّهًا إليه، وذهبوا إلى أن أي علم من العلوم لا يقترن بالخشية من الله والمعرفة به فلا جدوى منه ولا طائل تحته.
فما أكثر ما تجد من العلم في الكتب بحيث يسهل عليك تحصيله، أما الأخلاق فتحصيلها عسير؛ لأنها تكون ثمرة ممارسة شاقة، وصراع بين الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء ليلزمها جادة الصواب. ولما بحثوا في الأخلاق على هذا النحو الذي أشرنا إليه على اعتبار أنها جوهر الدين، أنشأوا بذلك علما مستقلًا مكملًا لعلمي الكلام والفقه، فاعتبر عند المسلمين من العلوم الشرعية، أي العلوم التي تستمد من القرآن والسنة. ولهذا عَرَّفَهُ ابن خلدون بقوله: «علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله عند سلف الأمة، وكبارها من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم. طريقه: الحق والهداية. وأصلها: العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف. فلما فَشَا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا؛ اختص المقبلون على العبادة باسم: الصوفية والمتصوفة».
ومن هذا يتبين لك أن التصوف في الإسلام -كعلم ديني- يختص بجانب الأخلاق والسلوك، وهو روح الإسلام. ومن خلال الأساس الأخلاقى للطريق الصوفى يمكن تصور علاقته بعلمى الفقه وعلم الكلام، وهو ما سنتطرق له فى موضوع خاص (الطريق الصوفى - علاقته بالفقه وعلم الكلام).
كما سيأتى المزيد من الكلام عن علاقة الطريق الصوفى بعلم الأخلاق الدينية ، وذلك فى موضوع (الطريق الصوفى – علاقته بعلم الأخلاق الدينية)
المراجع : - أ/د أبوالوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص14- 20).
- أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 23-25).