ذكرنا تحت عنوان (الطريق الصوفي- الخصائص العامة) أن الخصائص الخمس للتصوف تصدق بالنسبة له في مرحلة نضوجه، وهذا من شأنه أن يجعل الغاية من التصوف تختلف باختلاف مراحل تطوره:
1- فهناك من الصوفية من يقف بالطريق الصوفي عند حد الغاية الأخلاقية، وهي: تهذيب النفس، وضبط الإرادة، وإلزام الإنسان بالأخلاق الفاضلة. وهذا التصوف يتميز بأنه تربوي، وتغلب عليه الصبغة العملية.
2- وهناك من يتجاوز هذه الغاية الأخلاقية إلى غاية أبعد، وهي معرفة الله. ويضع لتحقيق هذه الغاية من تصوفه شروطًا خاصة. ويُعْنَى أصحاب هذا التصوف خصوصًا بالكلام عن مناهج المعرفة وأدواتها، ويُؤْثِرُونَ من بينها (الكشف).
3- وهناك بعد هذا وذاك أنواع أخرى من التصوف تصطبغ بالصبغة الفلسفية، يهدف أصحابها إلى اتخاذ مواقف من الكون محاولين فيها إيجاد تفسير له، وتحديد صلته بخالقه، وصلة الإنسان بالله. على أن المذاهب الصوفية المصطبغة بالصبغة الفلسفية لا ينبغي أن تؤخذ على أنها مذاهب فلسفية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما هي مذاهب قائمة على أساس من الذوق مهما بدت في ثوب فلسفي. ذلك أن الصوفي قد يغيب في لحظات معينة عن شعوره بذاته، فيشعر بأن العالم الخارجي لا حقيقة له بالقياس إلى الله، ويترتب على ذلك في بعض الأحيان مذاهب صوفية معينة، ولكنها كما قلنا لا تخرج عن كونها في أساسها مذاقات خاصة تجعل منها شيئًا مختلفًا تمامًا عن تلك البناءات الفكرية القائمة على أساس الاستدلال العقلي الصارم عند الفلاسفة.
التصوف إذًا -أولًا وقبل كل شيء- تجربة خاصة، وليس شيئًا مشتركًا بين الناس جميعًا. ولكل صوفي طريقة معينة في التعبير عن حالاته، فهو بعبارة أخرى خبرة ذاتية (subjective)، وهذا يجعل من التصوف شيئًا قريبًا من الفن، خصوصًا وأن أصحابه يعتمدون على الاستبطان (Introspection) في وصف حالاتهم، كما أنهم يلجأون –كما سبق أن ذكرنا أيضًا- في تعبيرهم عن هذه الحالات إلى أسلوب الرمز؛ وذلك لإخفاء أذواقهم عمن ليس أهلًا لها. ولهذا نجد بعض صوفية الإسلام يقولون: (إن عدد الطرق إلى الله بعدد الأنفس)، تأكيدًا منهم على الفروق الفردية بين الصوفية، واستحالة مطابقة تجربة لتجربة أخرى في ميدان التصوف.
ومن طريف ما يروى في التصوف الإسلامي من أن علومه كلها ذوق، أن تلميذًا للصوفي المسلم المشهور محيي الدين بن عربي جاء يومًا ليقول له: ((إن الناس ينكرون علينا علومنا، ويطالبوننا بالدليل عليها. فقال له ابن العربي ناصحًا: إذا طالبك أحد بالدليل والبرهان على علوم الأسرار الإلهية، فقل له: ما الدليل على حلاوة العسل؟ فلابد أن يقول لك: هذا علم لا يحصل إلا بالذوق! فقل له: هذا مثل ذاك!))(1).
وهذه الإجابة من ابن عربي تدل على عمق تحليله لأحوال التصوف، فهو يريد أن يقرر أن التصوف يتعلق بمجال العواطف الإنسانية، وهو مجال لا يخضع –بلغة علماء النفس المحدثين- للقياس الكمي، وسبيل معرفته هو المعاناة ولا شيء غيرها، كما أنه لا يخضع –أيضًا- لمنطق العقل واستدلالاته.
إن التصوف - في غايته - إنما هو منهج سلوك، يدفع إلى البحث عن الحقيقة والسعادة، خصوصًا وسط هذا الركام الغليظ من المذاهب المادية والعبثية، التي يفقد فيها الإنسان آدميته وشخصيته، والتي صارت هي آفات النفوس التي يركز التصوف على محاربتها.
لقد استطاع التصوف بعد أن بعُد الناس عن منهج السلف الصالح، أن يحفظ الشعلة الروحية التي ذبلت، بعد أن انتقل الدين من القلب إلى اللسان.
واستطاع رجل قوي الإرادة صادق العزيمة، مثل الحسن البصري، أن يجدد للناس أمور دينهم، وأن يحيي الخوف من الحساب، وأن يعيد الزُّهد وضبط النفس إلى ما كان عليه السلف الصالح، وذلك بفضل عقيدته الصادقة، وعلمه الجم، ومحاسبته لنفسه.
وكل هذا يلخص معنى الحضارة الإسلامية، التي تتبلور في إعداد الإنسان المسلم بحق، وهو الذي يقوم إيمانه على العقل والوجدان معًا؛ مما ينتج عنه معرفة إنسانية أصيلة تجمع بين العقل والقلب.
المراجع: - أ/د أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، القاهرة: مكتبة الثقافة للطباعة والنشر، ط 2، 1976م، (ص 10 - 12) .
- أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 6).
(1) ابن العربي: التدبيرات الإلهية، طبعة نيبرج، ص 114-115.