قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ [الآية 20 من سورة الحديد].
وقال أيضًا في كتابه العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ﴾ [الآية 5 من سورة فاطر].
وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾[ الآية 28 من سورة الكهف].
وقال: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الآية 62 من سورة يونس].
وقال في حديثه القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ من آداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألنى لأعطنيه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته».
وروت عائشة فيما رواه البخاري ومسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تنفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا».
إننا لا ننصب أنفسنا مدافعين عن التصوف الإسلامي والصوفية .. فلسنا صوفية لأن قدرنا ضئيل جدًا بالنسبة لهم .. ولسنا بمريدين أو شيوخ حتى نجاملهم على حساب الموضوعية وإنما نبحث عن الحقيقة في هذا الموضوع.
ونود أن نقول: إن كثير من الأساتذة الأفاضل لم يتأنوا فبحثوا عن مصادر أجنبية وردوا إليها التصوف الإسلامي ولو أنهم بحثوا بتأن أكثر بعيدًا عن نزعات وأهواء واتجاهات عصبية لتلمسوا أصول التصوف الأولى في القرآن نفسه وسنة نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكان واجبهم ألا ينسوا أبدًا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعد الرائد الأول للتصوف الإسلامي بحق وإننا نلمس تصوفه في تحنثه في غار حراء «أليست حياة محمد هنا بما فيها من تحنث وخلوة واكتفاء بالقليل من الزاد صورة أولى للحياة التي كان يحياها الزُّهاد والعباد والصوفية بعد ذلك، ويخضعون فيهم أنفسهم لرياضات ومجاهدات ويختلف فيها على أنفسهم أذواق ومواجيد وكلها عندهم سبيل إلى كشف الحقيقة؟ أليس هذا التأمل الذي كان يمعن فيه محمد، ويغيب فيه عن كل شيء حتى عن نفسه أساسًا لهذه الأذواق والمواجيد الصوفية، ولما يعرض فيها لسالك طريق الله من غيبة وسكر ومحو وفناء» (1).
وهناك بعض المؤلفين الذين هاجموا التصوف بكل ما أوتوا من قوة، وهؤلاء قد جانبهم الحق والصواب كذلك.
فإنه مما لا شك فيه، أن التصوف السني يشتمل على كثير من الآداب والأخلاق، والتزام الأمر والنهي الشرعيين، وإحياء ما اندثر من السنن لدى العامة، ومعالجة ما خفي من علل القلوب.
وعليه، فإن الرفض التام لمبادئ التصوف، سيؤدي إلى رفض ما هو مطابق لأصول الإسلام، وذلك أمر خطير، لا يملكه مخلوق مهما كان؛ فمن ذا الذي يملك إبطال مقام التوكل أو التوبة أو الصبر، بعد أن نص عليها كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبعد أن طبَّقها النبي وأصحابه وجميع السلف الصالح؟!.
إن مصدر التصوف الإسلامي القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم «فكل آية تذكر الفكر أو الذكر أو الاستقامة أو الذاكرين أو المستغفرين أو العابدين أو الموقنين أو المتبتلين أو عباد الله المخلصين أو أولي الألباب، وكل آية تصف الخوف أو الرجاء أو البشرى أو الاستقامة أو الإيمان أو المعرفة أو الصبر أو الرضا أو التوكل أو الحب أو التوحيد الحق. آية صوفية ... وأقواله صلى الله عليه وسلم تشريع وتعليم، وثمرة أعماله إيمان ويقين، وذلك طريقه العملي وهو أصل طريق القوم. أما أحواله صلى الله عليه وسلم فمعرفة وتحقيق على قاعدة أن الأقوال وهي العلم تنتج الأعمال وهي الطاعات والعبادات، والعبودية لله في العبادات والمعاملات تثمر الأحوال الشريفة فيما بينه وبين الله من أسرار كاتصافه بأخلاق الحق وشهوده وذلك ما يفسره حديث جبريل عليه السلام والإيمان والإحسان أو قل الشريعة والطريقة والحقيقة»(2).
ومرة أخرى نسأل مخلصين هؤلاء الأساتذة الأفاضل الذين حاولوا أن يردوا التصوف الإسلامي إلى مصادر أجنبية مختلفة هندية وفارسية ويونانية ... لماذا لم يحاولوا من ناحية أخرى أن ينظروا إلى الجانب المقابل فيردوا –مثلا- التصوف الهندي أو الفارسي إلى تأثر بعض زهاد الهند وفارس ببعض المتصوفة المسلمين؟!
إن حركة التأثير والتأثر شاعت في القرن التاسع عشر الميلادي مع مد حركة استعمار العالم الغربي للعالم العربي والإسلامي فحاول بعض المفكرين أن يردوا كل ما هو إسلامي أو عربي إلى أصول غريبة عنه.
ومن الغريب أن بعض المفكرين المسلمين سار على منحى أساتذته من مستشرقين وغيرهم من أصحاب مدرسة التأثير والتأثر.
والحق أن جذور التصوف الإسلامي كما قلنا موجودة في الإسلام نفسه ومن هنا فنحن نرى أن حركة تغريب التصوف الإسلامي برده إلى مصادر غريبة عنه حركة تبعد الفكر الإسلامي عن مصادره الأصيلة.
لقد اهتم الصوفية الحق، بأن المراد بالعلم هو العمل به؛ فالفقيه مثلًا لا يكون كذلك بمجرد علمه بالفقه؛ بل لابد أن يعمل بفقهه.
واهتموا بنشر شعار الحب بين الناس والكون؛ فليس الكون عندهم مجرد جماد؛ بل إنه ذو شعور وتسبيح لله تعالى.
ومما يحمد لأهل هذا الطريق، أن الزهد عندهم في حقيقته ليس فقرًا مذلًّا، ولا ضعفًا مميتًا، ولا قناعة خانعة؛ بل إنه ترفع وإباء وعزة وعزيمة، مما يثمر الصلاح والولاية.
ومعناه أن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه، وأن يملك المال ولا يملكه المال، وأن يسخر الجاه والمنصب للخير والحق لا العكس؛ مما ينجم عنه كافة ألوان الشرور التي سمعنا عنها في التاريخ والتي ما زالت تترى.
يقول الأستاذ العقاد في هذا موضحًا الفرق بين الصوفية وخصومهم: «مفهومٌ أن يكثر أعداء التصوف بين الذين يسمون أنفسهم بالعصريين التقدميين؛ لأننا إذا لخَّصنا فلسفة التصوف في كلمة واحدة هي «القناعة»؛ فالكلمة الواحدة التي تلخص لنا «العصرية التقدمية» هي الطمع أو الادعاء، ولا عجب في ثورة الأدعياء على القناعة والقانعين»(3).
هكذا تتلخص الخصومة في كلمتين: القناعة والطمع.
الهجوم على التصوف والطرق الصوفية:
وإذا ما انتقلنا إلى فكرة أخرى وهي مسألة الهجوم على التصوف والطرق الصوفية نستطيع أن نقول:
إن الذين هاجموا التصوف والطرق الصوفية نظروا إلى القشور وتركوا اللب، ونظروا إلى ما يفعله بعض الجهلة من المريدين والمتكسبين من الانتساب للطرق من أمور لا يرضى عنها الإسلام ولا أي خلق أو دين، ولم يقل بها أحد من شيوخ الطريق الكبار، بل أكثروا النكير والرد على كل بدعة.
ولا يضر التصوف والطرق الصوفية ظهور هذه الفئة من المتواكلين والدجالين والمشعوذين والبلهاء الذين يتكسبون من وراء لبس الخرق والهلاهيل والانتساب للطريق. فليس ذكر الله بهذه الصورة البشعة التي يذكر بها الدراويش والمجذوبون من الطريق في شيء.
وليس من التصوف ولا من الطريق إقامة هذه الأضرحة العظيمة لشيوخ الطرق وتقديس مريديهم لها وتوسلهم بهذه الأجساد الطاهرة الراقدة تحت الثرى، أجساد أرواحها الشريفة بين يدي خالقها سبحانه وتعالى، كما يتوهم متوسلة ومتسولة الطريق الذين شوهوا الصورة النقية له.
الطريق عهد بين المريد والشيخ على أن يتوب عن المعاصي أبدًا، وألا يرتكب صغيرة أو كبيرة، وأن يكون طاهر الجسد والروح معًا، وأن يقيم شعائر الله وسنة رسوله، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يذكر الله كثيرًا ويتوب إليه. وماذا، بعد هذا؟! ... ماذا بعد أن ترى إنسانًا تائبًا طهورًا يقيم شعائر الإسلام ولا يكذب أبدًا.
ماذا لو رأيت إنسانًا يطبق ما يدعو إليه شيخه وهو التوبة والعمل بالكتاب والسنة «إنك إذا وجدته: تراه من أكرم الناس في الأخلاق وفي العشرة، وترى الأدب منه يفيض على لسانه وجوارحه وحركاته وسكناته، فيصونه أدبه من مظان السوء، وسواقط الأخلاق، وتافه الأعمال، إنك إذا وجدته: ترى الظاهر منه كالباطن فنفسه في صفاء، وقلبه في نقاء، وقوله صادق، وأعماله خالصة من إرادات النفس ومن شوائب الحظوظ يخفض الجناح، ويسهل الصعب، ويهون الشدائد»(4).
وإذا كان بعض ما نراه اليوم من بعض المنتسبين للطريق ظلمًا وبهتانًا يحسب على الطريق فالحق أننا لا نكون منصفين إذا حسبنا مثل هؤلاء البلهاء ذوي الأثمال البالية على الطريق الصوفى. ذلك أن الصوفي الحق والمريد الصادق إذا رأيته «تراه في صبر وعلى يقين، فلا يستفزه المبطلون، ولا يستخفه الذين لا يوقنون فهو مع الله بلا خَلْق، ومع الخَلْق بلا نَفْس، ولا ينتظر من الخلق حمدًا باللسان، ولا منزلة في القلب، ولا يبغي من أحد جزاء ولا شكورًا، ولا منزلة ولا جاها فكل الخلق في نظره هم وأصحاب القبور سواء، لا يملكون ولا يقدرون»(5).
وحقيقة «أننا إذا عاشرنا المتصوفة في جميع بقاعهم وعصورهم ودياناتهم وجدنا وحدة الطابع من الحياة والإنسان- هذا على خلاف في التفصيلات التي اصطبغت باللون المحلي للعقيدة أو المذهب أو الحضارة، ولوجدنا أنهم دعاة أمن وسلام ومحبة، لا يعميهم التعصب ولا يحجرهم الجمود، ولا يتأبى عليهم تذوق الجمال ولا تنقصهم الشجاعة وإنكار الذات ولا تقصر ملكات التفكير فيهم، ولا يفزعهم ما يفزع أغلب الناس وما أربح الأمة إذا استطاعت أن تستمد من هذه الينابيع طاقاتها الروحية التي هي نماذج حية وترجمة واقعية للب الدين وجوهره»(6).
والطوسي في تحليل دقيق يذكر السبب في خطأ بعض الصوفية، فيقول إنه نظر إلى الفرق التي غلطت فوجدهم ثلاث طبقات:
1- طبقة أخطأت في الأصول لعدم دراستهم أحكام الشريعة وأصولها الغراء.
2- أما الطبقة الثانية فإنهم أخطأوا في فروع التصوف وهي الآداب والأخلاق والمقامات والأحوال، والأفعال والأقوال والسبب في ذلك راجع إلى متابعتهم لحظوظ النفوس ومزاج الطبع، لأنهم لم يدنوا ممن يروضهم ويجرعهم المرارات، ويؤمنهم على المنهج الذي يؤديهم إلى مطلوبهم.
3- أما الطبقة الثالثة فكان غلطهم فيما غلطوا فيه زلة وهفوة، لا علة وجفوة، فإذا تبين ذلك عادوا إلى مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، فسدوا الخلل وأذعنوا للحق، وأقروا بالعجز فعادوا إلى الأحوال الرضية(7).
ابن تيمية ومهاجمته للتصوف:
من بين العلماء الذين عرفوا بمهاجمة التصوف والصوفية: ابن تيمية.
وقد هاجم الشيخ ابن تيمية الصوفية في قولهم أن طاعتهم لله وعبادتهم وحبهم الشديد له طريق للعلم والكشف والمعرفة والإلهام.
ويبدو أن شدة غضب الشيخ ابن تيمية على الصوفية جعلته ينسى قول الله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]. وقوله: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾[الأنفال: 29]. وقوله: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾[النمل: 40]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم».
ثم لا ننسى أن هذا العلم اللدني والإلهام مشروط بشرائط من الكتاب والسنة حتى إن الشيخ أبا الحسن الشاذلي قال: «إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها في جانب الكشف والإلهام»(8).
وهاجم الشيخ ابن تيمية الصوفية في حبهم أولياء الله وتقديرهم لهم، واحتفالهم بموالدهم ولا غبار في حب المسلمين لأتقياء الله وأوليائه لكننا نرى أن بعض الأتباع قد غالوا في حبهم لشيوخهم بطريقة تبعدهم عن تعاليم الدين الحنيف فما يحدث في الموالد من مخالفات شرعية من كثير من العامة لا ترضي الله ورسوله وشيوخ الطريق أنفسهم الذين أنكروا كل خروج عن الشريعة والسنة.
وهاجم ابن تيمية المتصوفة في حرصهم على أورادهم وأذكارهم.
ونسى أن ذكر الله مطلوب في كل وقت فقد قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة: 152]. وقال: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾[الرعد: 28]. وقال: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾[نوح: 10-12].
لكن الحق يقال: إن ذكر الله بهذه الصورة التي نراها في بعض الموالد وفي بعض حضرات أهل الطريق تسيء كثيرًا للطرق وتشوه جمال الطريق الصوفى.
وهاجمهم ابن تيمية في زهدهم وقال إنه يدعو إلى الضعف في الحياة، مع أن الزهد ارتفاع عن ماديات الحياة والجسد وسمو بالإنسان وقيمه.
ونلاحظ أنه «لم تقتصر إدانة التصوف على أصحاب النزعة السلفية وإنما شملت مجددين يمكن اعتبار أكثرهم منتسبين إلى مذاهب كانت ولا زالت لا تتهم التصوف إن لم تكن متعاطفة معه كالمذهب الأشعري، مذهب الخلف من أهل السنة الذي يدين به جمهور كبير من المسلمين من هؤلاء المجددين جمال الدين الأفغاني (ت 1314هـ- 1897م) فقد اعتبر التصوف بصورته المشوهة عند المتأخرين في عصره مسئولا عن شيوع روح التواكل بين المسلمين واعتقادهم الجبر باسم القضاء والقدر(9)، وأنهم يتخذون الإيمان بالقضاء والقدر سبيلا إلى القعود عن طلب الرزق، إن الإيمان بالقدرة الإلهية ليس حائلا دون حرية إرادة الإنسان، إن الإيمان بالقضاء هو الذي مكّن المسلمين الأوائل من الفتوحات، بأن هؤلاء الذين لا يفهمون من التواكل إلا معنى التواكل يجب إزالتهم، وتنقية الهيئة الاجتماعية من دونهم لأن آراءهم ليست على وفاق مع الدين(10).
وهذا خطأ في فهم الطريق فالطريق لا يدعو إلى التواكل وإنما إلى التوكل على الخالق الرازق فالسير في الطريق لا ينافي الكسب، فـ «لا يتعين على الإنسان إذا أراد الدخول في طريق الله أن يخرج من ماله إن كان له مال أو يترك حرفته وتجارته إن كان محترفًا أو متجرًا، بل الذي ينبغي عليه تقوى الله فيما هو فيه والإجمال في الطلب بحيث لا يترك فريضة ولا نافلة ولا يقع في محرم ولا فضول لا تصلح الاستعانة به في طريق الله»(11).
إن الذي شوه طريق القوم هؤلاء الدخلاء من ذوي الأثمال الهرئة الذين وجدوا أنفسهم يعيشون من خلال انتمائهم الكاذب للطريق ، والطريق منهم براء. فأصحاب الطريق، أعز الخلائق نفسًا وأنورهم قلوبا، وأغناهم به غنى، وأطيبهم عيشا، حزنهم فيما يسر به الناس، وسرورهم فيما يحزن له الناس، وطلبهم لما يهرب منه الناس، وهربهم مما يرغب فيه غيرهم من أهل الغفلة والغيرة، يستأنسون إذا استوحش الناس، إذ كان أنسهم بالله، جل وعز وحده استكمالًا لمناجاته، فعنده يضعون بثوثهم وإليه يضرعون في حوائجهم، قد اتخذوه حرزا وجنة وكهفا(12).
ومن المؤكد أنه إذا كان هناك من يظن أن التصوف يحتوي على أحلام لا غناء فيها ولا نفع، أو أنه عبارة عن تمنع عاطل وأناني بتجارب غريبة، دون أن يكون له أي أثر قيم في الحياة -إذا كان هناك من يظن ذلك- فإن هناك باحثين جادين سجلوا تقديرهم العميق للجهد الروحي الذي بذله هؤلاء في تصحيح سلوكهم وتغيير أنفسهم(13)، ويقول بعضهم عن التصوف(14) «إنه الشهادة العامة والبرهان الكلي والجمعي لهؤلاء الذين يعرفون حقا أن التجربة الصوفية تحول الحياة الإنسانية وتغير الشخصية غالبا مما هو دني وأناني إلى ما هو نبيل ونزيه».
وهذا ولا شك يبرز الجانب الأخلاقي في التصوف بصورة عامة.
ومن جانب آخر نجد أن الصوفي الحق يطغى عليه الجانب الروحي فيستطيع أن يترك ماديات الكون، بل وأن «يخترق حدودها» .
وقد اتهم الأستاذ عبد الرحمن الوكيل الصوفية بعدم جهادهم الحكام أو أعداء البلاد فيقول في كتابه: هذه هي الصوفية «أروني صوفيًا واحدًا جالد الاستعمار أو كافحه، أو دعا إلى ذلك»(15).
وفي هامش نفس الصفحة يقول نقلا عن عمر فروخ في كتابه الإسلام والتصوف: «... إن ابن عربي وابن فارض الزعيمان الصوفيان الكبيران عاشا في عهد الحروب الصليبية فلم نسمع عن واحد منهما أنه شارك في قتال أو دعا إلى قتال، أو سجل في شعره أو نثره آهة حصرى على الفواجع التي نزلت بالمسلمين»(16).
وهذا خطأ وقع فيه عبد الرحمن الوكيل فقد كتب محيي الدين بن عربي للملك الكامل حين تهاون في قتال الصليبين وقال له: «إنك دنىء الهمة، والإسلام لن يعترف بأمثالك فانهض للقتال أو نقاتلك كما نقاتلهم»، وكتب ابن عربى رسالة شهيرة إلى السلطان كيكاوس سلطان الترك يستحثه على الجهاد وقتال الروم.
ثم يقول الوكيل وهو من المعروفين باتجاههم الواضح نحو الهجوم على التصوف والصوفية يقول عن الإمام الكبير أبي حامد الغزالي: «سقطت بيت المقدس في يد الصليبين عام 492هـ والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة، فلم يحرك منه هذا الحادث الجلل شعورا واحدا، ولم يجر قلمه بشيء ما عنه في كتبه، لقد عاش الغزالي بعد ذلك 13 عاما إذ مات (سنة 505هـ) فما ذرف دمعة واحدة ولا استنهض همة مسلم، ليزود عن الكعبة الأولى(17).
ولكننا نقول للأستاذ الشيخ عبد الرحمن الوكيل: لقد حدث في هذه الآونة حادث آخره جلل فالفردوس المفقود الأندلس يكيل لها أعداء الإسلام أقصى ضربات وأشدها سحقا فيكتب الغزالي إلى ابن تاشفين ملك المغرب يستنهضه ويقول له في عنف المؤمن الذي لا يعرف في الحق لومة لائم: «إما أن تحمل سيفك في سبيل الله وإما أن تعتزل إمارة المسلمين حتى ينهض بحقهم سواك».
لقد قال الغزالي هذه الكلمات المزلزلة التي وعتها أذن التاريخ وحفظتها الأجيال.
وفي القرن السابع الهجري قال محيي الدين بن عربي الكلمة الخالدة للملك الكامل التي مرت بنا: «إنك دنىء الهمة والإسلام لن يعترف بأمثالك ... ».
فأين أمثال هذه الكلمات التي ذكرها المؤرخون من المهاجمين للتصوف من أمثال عبد الرحمن الوكيل وعمر فروخ، والذين لم يبذلوا جهدا في البحث عن الحقيقة بموضوعية، وإنما امتلأت كتاباتهم بهجوم غير موضوعي ولا علمي، بالإضافة إلى الجراءة على تزييف التاريخ واختلاق الوقائع، والفهم المغلوط.
أما الشيء الجديد الذي نرغب في أن نعلمه ونعيه جيدا أنه قبل قيام الثورة الفرنسية بثلاث سنوات هنا في مصر ولأول مرة أعلنت حقوق الإنسان على يد صوفي كبير هو الإمام الدردير «فلقد قاد الثورة الوطنية على الأمراء المماليك التي أشعل لهيبَها في عام 1200هـ - 1786م الإمامُ الدردير الصوفي، وتلك الثورة التي أعلنت فيها لأول مرة حقوق الإنسان قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات. وكان من نتائج هذه الثورة المباركة اعتراف المماليك بأن الأمة مصدر السلطات وبعدم فرض ضرائب جديدة إلا برأي الشعب واعترافهم الكامل بحرية الأمة وكرامتها»(18).
وبينما يهاجم بعض الكُتّاب التصوف بكل ما عندهم من عنف، نرى كثيرا من الأصوات المنصفة ترتفع، ونرى التاريخ يسجل لبعض الصوفية المسلمين مواقف لا تنقصها الشجاعة إزاء نصح الحاكم ورده عن ظلمه في عزة مدهشة قل أن توجد في مثل هذا العصر.
وقد كان اتصال أغلب المتصوفة بالقاعدة الشعبية أوثق منه بالقمة. فكانوا أعرف الناس بآلام الناس وآمالهم، وأدى بعضهم دوره الإنساني في مجال المواساة والإسعاف والإنصاف والإرشاد، ولم يقبع ويحجم إلا المتصوف ذو المزاج المريض(19).
وختاما: فنحن لا ننكر أن الصوفية قد اندسَّ فيهم من أساء إليهم، ممن اتخذوا التصوف ستارًا لمذاهب باطنية وسرية، أو لعصبيات معينة، أو مظاهر رياء ونفاق وسمعة.
ومع هذا فنحن متفائلون وواثقون من أن الصوفية لو طهَّروا صفوفهم من هؤلاء؛ لبقي لهم الخير الكثير. فلقد كان في الصوفية من تحقق فيهم أنهم عباد الرحمن، الذي أجمعوا على أنه لا تحليل ولا تحريم بعد شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو فهم يُعطى في القرآن لرجال الله.
المراجع: - أ/د عامر النجار، الطرق الصوفية في مصر، نشأتها ونظمها، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، د ت، (ص 6 -17) باختصار وتصرف وإضافات يسيرة.
- أ/د عبد اللطيف محمد العبد، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، القاهرة: توزيع العبد سنتر، ط3، 1421هـ- 2000م، (ص 5، 7-8) .
(1) الحياة الروحية في الإسلام للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي ص15.
(2) كتاب بداية الطريق إلى مناهج التحقيق للسيد محمود أبو الفيض المنوفي.
(3) عباس محمد العقاد: بين الكتب والناس ص475، الطبعة الأولى، 1966م، دار الكتاب العربي، بيروت.
(4) كتاب أدب العبودية للأستاذ محمد مصطفى عبد الرحمن ص38.
(5) نفس المرجع ص38.
(6) التصوف طريقا ومذهبا للأستاذ الدكتور محمد كمال جعفر ص16.
(7) اللمع للطوسي ص518 بتصرف.
(8) طبقات الشاذلية الكبرى ص20.
(9) بحث للدكتور أحمد صبحي بعنوان التصوف: إيجابياته وسلبياته بمجلة عالم الفكر الكويتية ص335، 336 عدد يوليو – أغسطس – سبتمبر 1975.
(10) نقلا من الأستاذ الدكتور صبحي عن الأعمال الكاملة للأفغاني ص297 جمع محمد عمارة نقلا من كتاب خاطرات جمال الدين الأفغاني. طبعة دار الكاتب العربي.
(11) رسالة آداب سلوك المريد للحداد ص22.
(12) الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ص28 تحقيق الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود والأستاذ طه عبد الباقي سرور.
(13) التصوف طريقا ومذهبا للدكتور محمد كمال جعفر ص19.
(14) يقصد الدكتور جعفر:
Ha PPold , Mysticism p, 35
(15) هذه هي الصوفية للأستاذ عبد الرحمن الوكيل ص170.
(16) هامش كتاب هذه هي الصوفية للأستاذ عبد الرحمن الوكيل ص170.
(17) هامش ص170 من نفس الكتاب.
(18) كتاب مكانة التصوف للأستاذ الشيخ محمد عيد الشافعي ص167.
(19) كتاب التصوف طريقا ومذهبا للأستاذ الدكتور جعفر ص33.