أول من غرس بذور التصوف بمعناه الفني الاصطلاحي في مصر، هو: «ذو النون المصري المتوفى سنة 245هـ، وكان يعد أول من تكلم من الصوفية عمومًا في علوم المقامات والأحوال، وشاركه في غرسها في القرن الثالث الهجري أيضًا صوفيان آخران لهما مكانتهما، وهما: أبو بكر الدقاق المصري، وأبو الحسن بن بنان الحمال المتوفى سنة 336هــ، ثم استمرت حركة التصوف بمصر في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ومن أبرز رجالها أبو علي الروذباري المتوفى سنة 332هـ، وأبو الخير الأقطع التيناني المتوفى سنة 343هـ، وأبو القاسم الصامت المتوفى سنة 427هـ(1).
وهذا التصوف العملي بصورته الجمعية «لم ينشأ في مصر قبل النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وقد سجل المقريزي تاريخ نشأته بعام 569 للهجرة(2)، وهو تاريخ إنشاء أول الخانقاوات في عهد صلاح الدين الأيوبي.
ومن أهم المدارس الصوفية، التي ظهرت في مصر خلال القرن السادس الهجري «مدرسة صوفية كبيرة بصعيد مصر، وهي المدرسة التي أسسها الشيخ عبد الرحيم القنائي المتوفى سنة 592هـ، ثمَّ قام عليها من بعده صوفي له مكانته في عصره، وهو الشيخ أبو الحسن الصباغ المتوفى سنة 613هـ، والذي أخذ عنه كثيرون جدًّا من صوفية الصعيد في ذلك العصر، وكان القرن السابع الهجري في مصر عصر ازدهار تصوف أصحاب الطرق، فقد وفد إلى مصر من العراق الشيخ أبو الفتح الواسطي، وأقام بالإسكندرية، ونشر بها الطريقة الرفاعية(3).
فالطريقة الرفاعية والجيلانية، اللتان ظهرتا في العراق في القرن السادس الهجري، قد انتشرتا في مصر في القرن السابع الهجري والقرون التالية له.
وإذا كان للرفاعي والجيلاني دورهما الهام في نشر حركة الطرق الصوفية في كل مكان، فقد كانت هناك أيضًا شخصيات صوفية هامة، لعبت دورًا كبيرًا في مصر منها: أبو مدين التلمساني، وعبد السلام بن مشيش، وأبو الفتح الواسطي.
أما سيدي الرفاعي وسيدي عبد القادر الجيلاني وسيدي أبي مدين الغوث وغيرهم من أرباب الطرق الكبرى بمصر، فلنا معهم وقفة مطولة نتعرف عليهم وعلى طرقهم الصوفية، وأصولها ومبناها، نتحدث عن ذلك بالتفصيل عن كل طريقة على حدة فى باب يخصها من الموقع، حيث سيأتي الحديث عن كل من (الطريقة الرفاعية)، و(الطريقة القادرية)، و(الطريقة المدينية)، كما سيأتى الحديث بالتفصيل أيضا عن (الشيخ أبي الفتح الواسطي) ضمن رجال الطريقة الرفاعية، و(الشيخ ابن مشيش) ضمن رجال الطريقة الشاذلية.
ويكفي - للتدليل على دور هؤلاء - أن نعلم مثلًا أنَّ أبا مدين التلمساني (ت594هـ)، هو أستاذ عبد الرازق الجزولي، والجزولي هو شيخ ومعلم عبد الرحيم القنائي، وأبو الحجاج الأقصري، كما أنَّ أبا مدين التلمساني أستاذ وشيخ عبد السلام بن مشيش، أستاذ ومربي أبو الحسن الشاذلي شيخ الطريقة الشاذلية.
وقد التقى أبو مدين التلمساني بسيدي عبد القادر الجيلاني أثناء الحج، وأثر كل منهما في الآخر، ثمَّ إنَّ أم سيدي أحمد البدوي حفيدة أبو مدين، يقول عبد الصمد زين: (كان اسم والدته فاطمة بنت محمد بن أحمد بن عبد اللَّه بن أبي مدين بن شعيب المدينية(4)، وهناك المزيد من الحديث عن أبي مدين الغوث عند تناولنا لطريقته: (الطريقة المدينية).
أما الشخصية الثانية التي نستشعر دورها في حركة الطرق الصوفية بمصر في القرن السابع الهجري؛ فهي شخصية الصوفي الكبير الشيخ عبد السلام بن مشيش أستاذ الشاذلي، الذي كان يفخر أبو الحسن الشاذلى بتلمذته عليه، والذي قال فيه ابن عياد في المفاخر العلية، نقلًا عن محيي الدين عبد القادر بن الحسن الشاذلي، صاحب كتاب الكواكب الزاهرة: (مقام ابن مشيش بالمغرب كالشافعي بمصر)(5).
يقول الشيخ أبو الحسن الشاذلي عن قصة اجتماعه وتعرفه بابن مشيش، أنَّه لما دخل العراق اجتمع بالشيخ الصالح أبو الفتح الواسطي، فما رأينا بالعراق مثله، وكان بالعراق شيوخًا كثيرة، وكنت أبحث عن القطب، فقال لي الشيخ أبو الفتح: أتطلب القطب بالعراق، وهو في بلادك المغرب، ارجع فإنَّك تجد القطب هناك، فلما رجع اجتمع بأستاذه القطب الشيخ عبد السلام بن مشيش.
وفي صحبة أستاذه أقبل الشاذلي على العبادة، فطهر نفسه من حب الدنيا، ومن الإقبال على الخلق، وأقبل على حب اللَّه وفنى في حبه، فلما صفت نفسه وأصبح أهلًا للولاية، ووراثة القطبانية؛ أمره أستاذه أن يرحل عن فاس إلى تونس، وتنبأ له بما سيحدث له في مستقبل أيامه(6).
ومن وصايا ابن مشيش للشاذلي: (الزم الطهارة من الشرك، كلما أحدثت تطهرت، ومن دنس حب الدنيا كلما ملت إلى شهوة أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى وأكدت، وعليك بمحبة اللَّه على التوقير والنزاهة، وأدمن على الشراب والمحبة، وكأسها مع السكر والصحو، كلما أفقت أو تيقظت شربت، حتَّى يكون سكرك به، وحتَّى تغيب بجماله عن المحبة وعن الشرب، والشراب والكأس، بما يبدو لك من نور جماله، وقدس كماله وجلاله)(7).
وقال ابن مشيش أيضًا: (أفضل الأعمال أربعة بعد أربعة: المحبة للَّه، والرضا بقضاء اللَّه، والزهد في الدنيا، والتوكل على اللَّه، هذه أربعة. وأمَّا الأربعة الأخرى فالقيام بفرائض اللَّه، والاجتناب لمحارم اللَّه، والصبر على ما لا يعني، والورع من كل شيء يلهي)(8).
هذه إشارة سريعة لابن مشيش أستاذ الشاذلي، صاحب الطريقة الشاذلية الكبيرة بمصر، وقد قلنا إنَّ ابن مشيش لبس الخرقة من أبي مدين التلمساني، ومن ناحية أخرى نرى بصمات الإمام الرفاعي في تسلك ابن مشيش مربي الشاذلي، فقد تسلك ابن مشيش على يد السيد الإمام بري الحسيني أحد أصحاب سيدي أحمد الرفاعي رضي اللَّه عنهم أجمعين(9)، ثمَّ لا ننسى أن أبا الفتح الواسطي تلميذ الرفاعي الكبير، هو الذي نصح الشاذلي بالذهاب إلى القطب الكبير عبد السلام بن مشيش.
أما الشخصية الثالثة التى لها أثرها في نشر الطرق بمصر، فهو الشيخ أبو الفتح الواسطي:
ولقد أثر الواسطي في ظهور وانتشار الطرق الصوفية بمصر أثرًا كبيرًا للغاية، فقبل أن يفد الشاذلي إلى مصر أو البدوي، قدم هو إلى الإسكندرية ونشر بها الطريقة الرفاعية، ومهد لها الطريق في مصر، (وأخذ عنه خلائق لا يحصون، منهم الشيخ عبد السلام القليبي، والشيخ عبد اللَّه البلتاجي، والشيخ بهرام الدميري، والشيخ جامع الفضلين الدنوشري، الوهاب، والشيخ عبد العزيز الدريني، والشيخ علي المليجي)(10).
وقد توفي الواسطي بالإسكندرية حوالي عام 632هـ، وحسبنا (أن نعلم أنَّه لما وصل خبر وفاته إلى خلفاء الرفاعي بالعراق، مركز الدعوة والطريقة الرفاعية؛ وقع اختيارهم على السيد أحمد البدوي؛ ليخلفه في زعامة الإخوان وأتباع الرفاعي بمصر، فوصل السيد البدوي مبعوثًا من المدرسة الرفاعية إلى الإسكندرية سنة 635هـ، وفي هذا تقدير كبير لمركز الواسطي ومكانته)(11).
وجدير بالذكر، أنَّ السيدة فاطمة أم سيدي إبراهيم الدسوقي هي ابنة أبي الفتح الواسطي، الذي لعب دورًا كبيرًا في نشر الطرق الصوفية بمصر، وأسس بها طريقته الخاصة به.
من ذلك كله، ومن خلال عرضنا السريع لهذه الشخصيات الصوفية الكبيرة، نستطيع أن نقول إنَّ البصمات المغربية والعراقية واضحة في نشأة الطرق الصوفية في مصر، ومن هنا أيضًا فإنَّنا نلاحظ أنَّ أصحاب الطرق الصوفية في مصر جلهم إن لم يكن كلهم من أصل مغربي أو عراقي، فلم يكن هناك طرق صوفية محلية خالصة، فحتَّى سيدي إبراهيم الدسوقي الذي ولد وعاش في دسوق مصر، حفيد أبي الفتح الواسطي تلميذ الرفاعي العراقي.
ومن العجيب، أن والد الرفاعي قبل أن يطأ العراق مهاجرًا، عاش وعاشت أجداده من قبل في المغرب.
والذي لا شك فيه، عندنا أنَّ أبا الفتح الواسطي، وأبا مدين التلمساني، وعبد السلام بن مشيش، كانوا لهم الأثر في بذر حركة الطرق الصوفية، ونموها وازدهارها في مصر، وانطلاقها فيها في القرن السابع الهجري.
المرجع: الطرق الصوفية في مصر، نشأتها ونظمها، أ/د عامر النجار، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، د ت، (ص 87- 89 ، 117 - 124) .
(1) (مجلة كلية الآداب)، جامعة القاهرة، مجلد 25، ص61.
(2) (التصوف في مصر إبان العصر العثماني) للدكتور توفيق الطويل، ص37، نقلًا عن (خطط المقريزي)، جـ24، ص273.
(3) (مجلة كلية الآداب)، بحث الدكتور التفتازاني، ص62، مجلد 25.
(4) (الجواهر الصمدانية) لعبد الصمد زين الدين، ص33.
(5) (المفاخر العلية) لابن عياد، ص13.
(6) (أعلام الإسكندرية) للدكتور الشيال، ص169.
(7) (أبو الحسن الشاذلي) لعلي سالم عمار، جـ1، ص81، 82 على التوالي.
(8) (أبو الحسن الشاذلي) لعلي سالم عمار، جـ1، ص81، 82 على التوالي.
(9) (كشف النقاب) للطبري، ص14 بتصرف، النص هكذا (ابن مشيش تسلك على يد الإمام بري الحسيني، صاحب سلمية أحد الأعيان من أصحاب إمام الطوائف السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي اللَّه عنهم أجمعين).
(10) (طبقات الشعراني)، جـ1، ص176.
(11) (أبو الحسن الشاذلي) لعلي سالم عمار، جـ1، ص77.